وثيقة:التحرش الجنسي في العيد: عما يحجبه الشرف عندما يدلف إلى ساحة الجدل العام

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

Circle-icons-document.svg
مقالة رأي
تأليف عمرو عبدالرحمن
تحرير غير معيّن
المصدر البوصلة
اللغة العربية
تاريخ النشر 2007-07

تاريخ الاسترجاع 2018-06-22


نشر هذا المقال في العدد الرابع من مجلة البوصلة المعنون "المرأة المصرية .. أسئلة الجسد والثقافة والسياسة" يوليو (2007)



قد توجد وثائق أخرى مصدرها البوصلة


ربما لم تُجمع النخبة المصرية منذ فترة طويلة على مهاجمة حادثة بغير تحفظ أو خلاف مثل إجماعها على إدانة أحداث التحرش الجنسى الجماعى بالنساء فى أول أيام عيد الفطر الماضى. فحتى الهجمات الإرهابية التى ضربت عدداً من المواقع السياحية فى 2005 وكان ضحاياها من المصريين بالجملة لم تحظ بمثل هذا الإجماع فى إدانتها. "يجمع الجميع" على أن هذه السابقة تشكل مدعاة للقلق، وبالمقابل أرى أن هذا "الإجماع" نفسه أكثر مدعاة للقلق من الحدث نفسه. فهو إجماع ينفى بالضرورة إمكانيات فهم وتحليل ما حدث، ويحيلنا إلى تقاليد "نقدية" تقتصر وظيفتها على محاكمة المجتمع القائم بالإحالة إلى الصورة التى خلقتها الفئات المهيمنة على المشهد الإيديولوجى عنه، دون تمحيص لهذه الصورة. الأمر الذى يؤدى فى النهاية إلى ممارسة نقدية مبتسرة لا تقوم إلا بإعادة تكرار ذات الفرضيات التى يتماسك بها المجتمع على المستوى الرمزى، ويتم من خلالها التمويه على علاقات القوى التى تسمح بتشكل هذه الصورة الرمزية نفسها.

ومحور هذه الممارسة فى حالتنا هو "المرأة" التى أجمعت النخبة على أنها فى حمايتها، أو "فى ذمتها"، ومن ثم لا يجوز التهاون مع ما تعرضت له من اعتداء. وبالتالى تتحول المرأة إلى موضوع يدعم الوحدة الرمزية للمجتمع عن طريق استدعاء شرف المرأة لكبح أى نقاش قد يثور حول تماسك تشكيل اجتماعى متمحور حول هيمنة طبقية و أبوية تدفع ثمنها المرأة نفسها فى المقام الأول. فعن هذا الإجماع نتحدث ونبحث فى مغزاه ونسائل بداهته المدعاة وأية علاقات قوى يحجب، ليس بهدف التهوين من الحدث أو حرف الجدل فى اتجاه آخر، ولكن بهدف السعى لتخليص المرأة وجسدها من مصيدة الإجماع وطقوسه. وغنى عن الذكر أن هذه المعالجة هى محض مداخلة سياسية غير متخصصة تنبه إلى ضرورة فتح حوار معمق فى المستقبل على أسس أكثر انضباطا.

كانت حادثة التحرش فى رأينا مناسبة لخلق حالة إجماع لا تخدم إلا أنماطا من السيطرة الثقافية أصبحت مهددة من مصدرين: المصدر الأول يتمثل فى قطاع متعاظم من نساء الطبقة الوسطى بشرائحها المختلفة اللاتى بدأن فى تحرير أجسادهن مرة أخرى من السطوة الوهمية لخطاب الأسرة البرجوازى بجناحيه العلمانى والمحافظ، الأمر الذى يتجلى فى مظاهر مثل شيوع استخدام الإنترنت وشبكات التليفون المحمول، بما أدت إليه من انفتاح ملحوظ فى العلاقات بين الجنسين، ناهيك عن التحولات التى لحقت بظاهرة الحجاب، والتى نزعت عنه أى قدسية رمزية أضفتها عليه أسر الطبقة الوسطى. والمصدر الثانى قادم من جهة سكان العشوائيات القادمين من خلف الأسوار العالية للإيديولوجية الوطنية التى لا تتواءم مع جموحهم العدمى والمتمثل فى تحلل واسع لأى رمزية كبرى وطنية كانت أو دينية مع اقتران هذا التحلل بمستويات غير مسبوقة من العنف والجريمة.

استطاع هذا الخطاب الوطنى تحقيق مناورة لإبقائه على قيد الحياة بما يخدم عزل الطبقة البرجوازية الجديدة عن أى محيط أوسع من العلاقات الإنسانية من خلال أبلسة الشارع وأبلسة العشوائيات فى ذات الوقت. وبالتوازى خدمت الأطروحات الساذجة التى قدمها الكثير من نشطاء حركات التغيير- التى حاولت أن تربط بشكل متعسف بين ما حدث وبين غياب السلطة فى الشوارع لانشغالها بقمع المتظاهرين- نزوعاً لاستدعاء الدولة لضبط الفقر عن طريق استئناف مشروع برجوازى وطنى للتنمية. إذن تم إحكام الحلقة بحيث تستطيع الأسرة البرجوازية الحياة والعمل بكفاءة داخل نفس نمط الحكم القائم. فكانت النتيجة هى تماهى منطق الدفاع عن الجسد والعفة مع منطق الضبط البرجوازى. فهل من بديل يعيد موضعة النضال ضد التحرش فى خطاب أرحب يحتفى بحرية الجسد ويرى فى التحرش به عدواناً عليه وليس عدواناً على ما يمثله هذا الجسد البرجوازى من قيم؟

يصعب الإمساك بنقطة بداية واحدة لتشكل جوقة المداخلات الراديكالية حول الشرف الأنثوى كما انتهى إليه الحال فى الجلبة التى أعقبت أحداث التحرش. فمن جهة يصعب الحديث عن خطاب واحد مهيمن تمت صياغته بعناية بشأن الحدث ويمكن الحديث عن مصادره ومقولاته الكبرى وحقوله المعرفية التى يتحرك بداخلها ومواقع السلطة التى يتمفصل معها. الفوضى عمت الحديث فى البداية ما بين خطابات تنتمى لمشارب متعددة ولا يمكن جمعها معاً فى سلة واحدة. ولكن المدهش من جهة أخرى هو ما تمخضت عنه هذه الجلبة من لوحة معقدة يمكن تتبع كل خط بداخلها على حدة، وإن كانت جميع هذه الخطوط تتكامل لترسم مشهداً واحداً، ينتهى إلى التذرع بالجسد الأنثوى لحماية مصفوفة العلاقات الاجتماعية القائمة من خلال الفرضيات/ المصادرات الآتية:

  • الشارع غير آمن للبنات والنساء ولا يمكن السير فيه بحرية بعد الآن،
  • التحرش آت من طبقات وشرائح أفقر بالضرورة،
  • أسباب هذا التحرش متنوعة: بعضها اقتصادى واجتماعى، وعلى رأسها الكبت وشظف العيش، وبعضها ناتج عن انفلات أخلاقى، والبعض الآخر أرجعها لتسيب الأمن وتحلل سلطة الدولة،
  • مواجهة التحرش تكون بمواجهة أسبابه عن طريق النهوض بحال أبناء هذه الطبقات الأفقر أو ضبطهم أخلاقياً، أو حتى فرض الأمن والنظام فى الشارع.

هذا المشهد تشكل من خلال تفاعل جملة من الخطابات فى سياق عمليتين كبريتين: الأولى هى ضبط الجسد ووضعه فى خدمة مشروع الدولة البرجوازية التنموى والثانية تتمثل فى إخضاع الطبقات المهمشة التى تشكل "خارج" أو "آخر" هذا المشروع، بمعنى أنها غير مندمجة فيه، وتحييد تهديدها المفترض. والجدل الذى أعقب أحداث التحرش فى نظرنا هو نتاج احتكاك العمليتين أو "المدارين" فى ذات اللحظة.

"مدار الضبط"

الجسد فى خدمة الدولة البرجوازية

نحن أمام رؤية تنتمى لخطاب برجوازى عن الجنس ذات جناحين، أحدهما محافظ ذو طابع إسلامى، والآخر ليبرالى أو علمانى بشكل عام. يختلف التياران من حيث رؤيتهما لأسباب الحدث وكيفية مواجهة دوافعه، ولكنهما يتفقان فى محورية السيطرة على الجسد وحفظه وحمايته بوصفه يشير إلى دلالات أبعد ما تكون عن محيطه المادى.

الجسد وفقاً للرؤية الليبرالية هو "مشروع" ينبغى عليه التحرك فى إطار الأسرة البرجوازية النووية متحررا من أية قيود تعوق ضبطه وإخضاعه لهذا المنطق. بمعنى أنه إذا كان الحجاب أو الفكر الدينى التقليدى قد يكبل فعل هذه السلطة الانضباطية فلا حاجة له بالمجمل. يتقاطع مع هذه الفرضية استدعاء فرضية الانفتاح على الغرب الذى يتحول وفقاً لهذه الرؤية إلى علامة أو دالة على الانتماء لمنطق السلطة الانضباطية ذاك، وهو ما يفسر صب لعنات هذه الأطروحات على الحجاب بوصفه رمزا أو علامة معادية لانتماء هذا الجسد لفضاء أوسع من المعانى التى لا تقع بالضرورة داخل نطاق فعل السلطة الانضباطية البرجوازية عالمية الطابع. يتشكل هذا الخطاب نتيجة تقاطع أنماط من السلطة والمعرفة على محيط هذا الجسد يمكن إرجاعها إلى فعل الدولة البرجوازية الحديثة ومنطق تحكمها فى السكان وإخضاعهم لعلاقات الاستغلال الرأسمالى.

خلال هذه العملية تخرج المرأة من المنزل بوصفها قوة عمل ممكنة، أو يتم القبول بوجودها فى المنزل، فى ضوء تصور شامل عن عمل من نوع آخر تقوم به فى خدمة هذا المجتمع الصاعد. ولكن ما يعنينا فى الحالتين هو قدرة هذه الآليات السلطوية على إعادة تأطير المستقبل والتحكم فى الزمن بوصفه إطاراً خطياً يمكن تشكيله بدقة عن طريق التحكم فى كل فرد وعلاقاته الاجتماعية على حدة، وهو الأمر الذى جعل مسألة "الجيل" أصلاً موضوعاً مفكراً فيه، بمعنى أن تنشغل مؤسسات الدولة بالتفكير فى والتخطيط لحياة الأجيال القادمة التى يتوقف وجودها على استقرار الأسرة البرجوازية. بالتالى كان من الطبيعى أن تخرج إلى النور موضوعات للدراسة حول التربية والأسرة ومحورية دور المرأة فى هذه العملية المعقدة. الرافد التحديثى هنا سيلعب دوراً هاماً فى التحريض على الجنس والعلاقات المنفتحة بين الجنسين، والتى تنتهى بالضرورة فى إطار الأسرة المتماسكة. فى سياق هذه العملية تدخل الأسرة البرجوازية كموضوع إلى الأنشطة الإبداعية المختلفة للطبقة الوسطى: أفلام كاملة ومسلسلات حول الأسرة ومشكلاتها وهمومها وضرورة الحب المفتقد داخل هذا المشروع المراد له أن يبدو متكاملاً. جسد كامل من النشاط الإبداعى موضوعه الحب المتجه إلى الزواج.

وبالتوازى يتشكل تقليد نقدى ذو رافدين: الرافد الأول، يصحح مسار هذا المشروع بشكل دائم عن طريق التنبيه إلى مواطن الخلل بداخله والسعى لدى الدولة للحفاظ عليه وحمايته من انفراط عقده، لأن ذلك يعنى انفراط عقد المجتمع ككل. والرافد الآخر يستحضر نموذج الأسرة وما تراكم حوله من معارف وإبداعات ليشتغل داخل عملية النقد السياسى والاجتماعى ككل فتصبح مواضيع مثل نهب مدخرات الأسرة البسيطة نتيجة للغلاء أو الفساد الإدارى وغياب الطبقة الوسطى والاعتداء على شرف بناتنا، وما إلى ذلك، تيمات دائمة الاستخدام فى التعبير الصحفى واللغة السياسية اليومية الرائجة. أى أن الخطاب العام حول المجتمع وتقاليده النقدية يصبح مشبعا بلغة الأسرة وتراتبيتها، وفى القلب منها محور هذه الأسرة البرجوازية الصاعدة: "المرأة" التى ينبغى حفظ جسدها من كل سوء.

انتعش هذا الخطاب مع الدولة البرجوازية الحديثة فى مصر بشكل عام، وإن كان قد بدأ يتخذ شكله المعاصر المعروف لنا اليوم مع استقرار دعائم الدولة الناصرية. صحيح أن دولة عبد الناصر كانت أبعد ما تكون عن النمط الناجز للدولة البرجوازية السابق الإشارة إليه، إلا أنها فى سياق عملية التصنيع السريع ودولتة المجال العام شكلت فئة تكنوقراطية تشربت منطق الرشادة وتنحو للتفكير فى شؤون صنع السياسة العامة منحى "وظيفيا" أو "سلوكيا" مستقى من مدارس علم الاجتماع الأمريكية التى تولت التنظير للمجتمعات الانضباطية الغربية فى منتصف القرن الماضى. ازدهرت هذه الاجتهادات داخل مؤسسات مثل مركز البحوث الاجتماعية والجنائية وكليات الحقوق وبدرجة أقل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وغيرها من معاهد البحث الأقل شهرة. هذه النخبة التى تشكلت من رحم المشروع الناصرى هى ذاتها التى ستتولى التنظير للتحولات التى ستنتهجها الكتلة الحاكمة مع منتصف السبعينيات باتجاه اقتصاد السوق- بوصفها السياسات الأكثر اتساقا مع مناهجها الوظيفية- وستبقى أطروحاتها مهيمنة على الغالبية الكاسحة من المعالجات الأكاديمية والصحفية لقضايا "المجتمع" مثل الجريمة والإدمان ووسائل التربية وأساليب التعليم...إلخ.

السمة الرئيسية لهذه المعالجات هى التفكير فى قضايا هذا "المجتمع" من داخل منطق الأسرة البرجوازية النووية حصرياً: حساب معدلات الاستهلاك يتم من خلال تحديد سلة السلع والخدمات التى تستهلكها أسرة نووية مكونة من خمسة أفراد، ويتم حساب معدلات الفقر وسوء التغذية على ذات المنوال. طرق التعليم المثلى يجرى تصميمها لتلائم تلاميذ يحيون فى أسر نووية تغلق أبوابها عليها فى المساء، طرق التنشئة نفسها تقتضى مواقع محددة سلفاً داخل الأسرة النووية.......الخ.

بمعنى آخر، تم تعميم زمن الأسرة البرجوازية ليصبح زمن المجتمع ككل. وبالتالى يصبح أى تهديد لنمط حياة "الأسرة المصرية" بمثابة تهديد لنمط حياة المجتمع. وهنا سيبرز التحرش الجنسى بوصفه فعلاً يختصر الأبعاد الرمزية لهذا التهديد، إذ أن شرط إمكانه اللازم هو غياب منطق الأسرة وأخلاقياتها التى تشكل قاعدة المجتمع المصرى كما أريد له أن يظهر. وهذا الغياب الكامل لا يتحقق إلا خارج هذا المشروع أو من هامشه الذى سيكون مرتعاً لكافة أشكال غياب الانضباط والفوضى والعدمية. بعبارة أخرى، سيستحيل كل ما هو خارج صيرورة الإنتاج والتحكم البرجوازيتين إلى فيافى خراب تشكل مكاناً تحيا بداخله كل الكوابيس الغامضة التى أريد لها أن تظهر منفصلة عن المجتمع الجديد، بينما تقوم الدولة على حراسة هذه الهواجس ومراقبتها وإبقائها فى هذا الهامش لا تتخطى حدوده. ومن ثم سيتم الربط بين الحديث عن التحرش وتعيين "الهامش" بشكل دائم: أى أن التحرش لا يأتى إلا من الهامش وأن وجود الهامش يستدعى التحوط من التحرش والتنبه للجسد فى حركته وملبسه وإيحاءاته وما يليق به كجسد برجوازى منخرط فى مشروع تاريخى قدرى الطابع وما لا يليق به ويجعله أقرب للهامش الغامض. ربما يفسر ذلك قفز "العشوائيات" إلى واجهة الجدل منذ اللحظات الأولى لفتح "الكلام عن الموضوع"، وإن كنا سنتناول هذه النقطة بالتفصيل فيما بعد. المكشوف والمحفوظ، الهادئ والهستيرى، المصون والمستباح... كلها ثنائيات رمزية تشكلت فى سياق فعل السلطة الانضباطية وستشتغل من داخل الخطاب البرجوازى عن الجسد والأخلاق بشكل عام.

تمفصل ذلك الخطاب الوطنى التقليدى حول الجسد مع خطابات أخرى مستدعاة من أنماط إنتاج ما قبل رأسمالية، كان الزواج فيها والانتماء للعائلة الممتدة - من حيث هى بنية تتوقف عليها إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية الإقطاعية الموسعة - يلعب دوراً محورياً فى دفع الشرف لموقع الهيمنة داخل الأشكال التعبيرية المختلفة. على سبيل المثال، كان انتهاك هذا الشرف بمثابة إهانة لأعراق بكاملها. هذه القيم تم استدعائها لتشتغل داخل المجال التعبيرى المتمحور حول الدولة البرجوازية وعلاقاتها الاجتماعية. فتصبح بذلك الأمة المصرية امرأة بالضرورة، ويصبح الاحتلال الأجنبى بمثابة انتقاص من الشرف وضيم لا ترتضيه النفوس الحرة الشريفة. وتصبح الوطنية المصرية فى هذا التمثيل الرومانسى أقرب ما تكون إلى علاقة عاطفية أكثر من كونها علاقة سياسية قانونية تتشكل حول فعل الدولة. على أن ما يعنينا هنا أن حضور الخطاب الرومانسى حول الشرف تم فى سياق التأقلم مع التحديث ككل والتحرك داخل زمن الدولة البرجوازية التى أعلت من شأن الأسرة/ المرأة بوصفها محور عمليات التنظيم الاجتماعى الواسع.

على أن عجز النخب التحديثية عن تأسيس مجتمع تحكمى شامل على الطراز الناصرى كما تبين هزيمة يونيو، ثم تحول الكتلة الحاكمة نفسها نحو تحالفات مع الغرب والخليج العربى، ستدفع هذا الخطاب إلى الاشتغال الداخلى. أى ستتحول الكتلة الحاكمة التى أجرت مثل هذه التحولات إلى نخبة تنتهك شرف الأمة ولا يطيق أحرار الرجال بقاءها فى السلطة. بل سيصبح وجود مبارك نفسه فى السلطة - عند إبراهيم عيسى على سبيل المثال- اعتداء على شرف كل رجل مصرى حر، إذ أنه يمثل انتهاكا واضحا لشرف الأمة. على أن "عبد الحليم قنديل" المتحدث الرسمى باسم حركة "كفاية" سيدفع هذا المنطق إلى نهايته ليتماهى بالكامل مع التصورات البدوية عن الشرف، إلى الحد الذى يمكن للقارئ تخيل أنه يقرأ لعنترة بن شداد أو لطرفة بن العبد، وليس لمتحدث باسم حركة يفترض أن لها طابعا ليبراليا.

وينحدر من هؤلاء مفجرى الحديث عن حادثة التحرش، وهم بعض من "المدونين". بالطبع يصعب تصور ما كان يدور فى عقل المصور الشاب الذى التقط الصور الأولى للحدث، والتى استفزت فيه مشاعر وغرائز بعينها. ولكن المؤكد أن قطاعاً كبيراً من التعليقات الأولى لهؤلاء المدونين جاءت هى نفسها مشبعة بحس التفوق الأخلاقى الرجولى على النظام القائم. وربما يفسر التوحد مع هذه الصورة فتح الموضوع أصلاً، بمعنى أن شباب المدونين وجدوا أنفسهم فجأة أمام التحقق الفعلى للرمز القائم دائما داخل الخطاب الذى ينتمون إليه: هتك عرض جماعى معمم وبطريقة استعراضية خشنة لم تتحملها النفوس التى لم تعش إلا على وقع التحذير المستمر من احتمالات وقوع مجازر الشرف تلك.

فى مقابل هذه العملية التحديثية وخطاباتها تتشكل خطابات محافظة إسلامية، ولكنها تشترك معها فى الطابع البرجوازى. أسفرت هزيمة مشروع اللحاق بالغرب فى طوره الأول عن تبلور تيارين رئيسيين. التيار الأول لا يرى بُدا من تبنى منظومة الغرب القيمية إن كانت النية صافية فى اللحاق بالركب الغربى فى التقدم وبناء أمة ودولة على الطراز البرجوازى؛ فى حين ارتد التيار الآخر إلى عصبية خشنة تمحورت على مقولة مفادها أن الغرب قد هزمنا لأننا تخلينا عن قيمنا الإسلامية. ما يعنينا هنا هو أن كلا التفسيرين لم يعكسا موقفاً من بناء دولة ومجتمع برجوازيين بقدر ما عكسا تفسيرات متباينة لهزيمة هذا المشروع.

فى هذا السياق ستنزع هذه الرؤى الإسلامية- وجماعة الإخوان المسلمين فى القلب منها- إلى وضع الأسرة البرجوازية التى خلقتها الدولة الحديثة على خط المواجهة مع الغرب. فتصبح المرأة هى خط الدفاع الأول، بوصفها حامية هوية الأمة المصرية، التى ستختلط فيما بعد بالأمة الإسلامية. ومن ثم سيتمركز خطاب "المرأة خط الدفاع" ذاك بالأساس حول المرأة المصرية وضرورة التزامها بالدور المنوط بها فى المعركة الكبرى مع الغرب، التى تقتضى ضبطاً فائقاً للمجتمع المصرى. وكما أنتج الخطاب العلمانى أدبه النظرى حول الأسرة ومشكلاتها وهمومها أنتج التيار المحافظ كذلك هذا الأدب النظرى. ولكن الخطابان يلتقيان فى محورية دور الأسرة وموقعها فى عملية هندسة اجتماعية كبرى هدفها برجزة أوجه التجربة الإنسانية فى العمق.

وفى قلب هذه العملية تظهر الدولة نتيجة تمفصل أوجه المعرفة المعقدة تلك مع السلطة الطبقية التى تدور تلك المعرفة فى فلكها. فتصبح الدولة فى جميع الأحوال مدعوة للعب دور، سواء فى تنمية موارد تلك الأسر وتعليمها، أو فى حفظ القيم المصرية/ الإسلامية الأصيلة. وفى الحالتين تصبح المرأة فى مرمى نيران فعل الدولة المباشر، ويصبح الهدف الأهم من هذه العملية ضبط جسدها ومراقبته والسيطرة عليه وأسره فى خطابات تعبر حقولا معرفية متعددة، مثل الطب النفسى وعلم الاجتماع بمدارسه السلوكية والوظيفية، أو الخطابات الدينية على اختلافها. وبالتالى تصبح المرأة فى ذمة الرجل/ الدولة. أما غالبية دعاوى المساواة– إذا استثنينا منها الطبعات الماركسية ثم النسوية الراديكالية فى مراحل لاحقة، وهى الطبعات التى احتلت دائما مواقع هامشية داخل الجدل العام- فهى تعنى المساواة فى العلاقة بالدولة البرجوازية، ولا تعنى بأى حال من الأحوال رفع وصاية الدولة البرجوازية عن المرأة، والتى تشتغل خارج هذا الإطار الحقوقى. بالطبع لا تقدم التيارات المحافظة أية إسهامات ملهمة فيما يخص المساواة على المستوى القانونى بين الرجل والمرأة، ولكنها فى المقابل لا تبدى ممانعة بالغة إزاء هذه الإجراءات. على العكس، سرعان ما تنزع إلى التكيف مع أى إجراء قانونى جديد يهدف إلى دعم المساواة القانونية بين الرجل والمرأة. ولعل قوانين الأحوال الشخصية التى مست صميم التراث النظرى للشريعة الإسلامية خير دليل على ذلك.

"مدار الإخضاع والتحريض"

الجسد الأنثوى موضوعا للتحريض وأداة للقهر

على أن فعل السلطة البرجوازية لا يهدف فقط إلى ضبط الجسد وجعله حاملاً لقيمة أعلى من وجوده المادى، ولكنه أيضا إلى تمييزه عن، وحمايته من، الخاسرين من عملية برجزة الحياة الإنسانية، والعاجزين عن اللحاق بالركب المظفر لمسيرة الأسرة البرجوازية. وتتطور فى سياق فعل آليات التمييز أوضاع إخضاع طبقى لهؤلاء الذين يهددون طهر الحياة البرجوازية.

الدولة البرجوازية كما تخلق "الأسرة" تخلق "الفقر". وكما تقدر على توليد الأحلام بحياة مستقرة، الأمر الذى يستدعى فتح الزمن فى اتجاه مستقبلى صاعد، تقدر كذلك على توليد البؤس المعمم الذى يغلق الزمن، وما يستتبعه ذلك من عدمية مفرطة لا تتواءم مع أى وازع أخلاقى كلى. تعبر هذه العدمية عن نفسها بالإحالة إلى كل ما يناقض المشروع الانضباطى. ولما كان هذا المشروع الانضباطى مرهوناً بدرجة من درجات النمو التى تسمح باستيعاب قطاعات أوسع من السكان فى مساره ليشكلوا "أسراً"، كان فشل هذا النمو أو تعثره، أو تكشف حدود قدراته الاستيعابية، مؤشراً على تهديد محتمل للمشروع الانضباطى البرجوازى.

انهيار المشروع البرجوازى الوطنى مع بداية السبعينيات وضع الثقافة الرسمية فى أزمة عميقة، إذ أصبحت مواجهة بفيض هائل من البشر المستبعدين من مجال عمل نمط الإنتاج البرجوازى. الاستبعاد هنا ليس بمعنى الوقوف على الهامش ولكن بمعنى احتلال موقع هامشى من داخل نفس النسق: أحياء بالكامل تفككت مكوناتها الكبرى وانجذبت إلى أنشطة تجارية، وفيض هائل من المنشآت البرجوازية الصغيرة التى تنتظم فى دورة إعادة إنتاج نمط الإنتاج البرجوازى على الصعيد العام، ولكن بمساهمة بالغة المحدودية، وبنصيب بالغ المحدودية كذلك. اقترن ذلك بترد بالغ فى خدمات الدولة ومرافقها، ناهيك عن الفساد منقطع النظير الذى أدى لانحطاط صورة هذه الدولة الانضباطية نفسها داخل هذه المجالات الحضرية الجديدة. كان البؤس الحضرى البازغ يقف متحدياً التأسيس الإيديولوجى الدولتى للمشروع البرجوازى الوطنى من هامشه، وبالتالى لم يكن هناك ما يمكن الاحتفاء به من قيم تخدم الوعد بالرفاهة، الذى أدركت الكتلة الحاكمة أنه أصبح أبعد من أى وقت مضى. بعبارة أخرى، خرج الملايين من مشروع التحكم المرتكز على الأسرة دون وجود مشروع بديل لدى البرجوازية الوطنية المنفتحة على رأس المال العالمى.

من جهة أولى، انتقل الخطاب الرسمى إلى الهجوم المباشر على الفقراء الجدد -على وزن الأغنياء الجدد- متهماً أخلاقهم فى مقتل: هؤلاء الرعاع يفتقرون لأى تصور عن العرض أو الشرف مقارنة بفقراء المراكز الحضرية التقليدية أو فقراء الريف. واتخذ هذا الهجوم أشكالاً كاريكاتورية تصل إلى حد إنكار وجود هذه الأحياء نفسها من الأصل، والاقتصار على احتكار أحياء مثل شبرا أو السيدة زينب لتعريف الحى الشعبى بالمطلق. وينتظم فى هذه الصيرورة الهجوم الدائم على هذه الثقافة، حال الاعتراف بوجودها، والتلقين الدائم لتصورات أبوية عن الجدعنة والشهامة لا يوجد ما يعززها من إمكانيات مادية. سيشترك فى هذا الهجوم مثقفى الوطنية الراديكالية وبعض طبعاتها الماركسية. "العشوائيات"..... هكذا ستبدع الإنتليجنسيا الوطنية المصرية لقباً محملاً بالدلالات الأبوية وتسقطه على أحياء تشكل رغماً عن أنوفهم ما يقرب من ثلثى سكان القاهرة، ومع ذلك لازال ينظر إليها بوصفها تشوها أو خَبَثا يذكر الجميع بعار هزيمة المشروع البرجوازى الوطنى.

فى مرحلة لاحقة ستقابل محاولات الزجر هذه بسخرية واسعة النطاق بين شباب هذه الأحياء الجديدة موضوعها تليفزيون الدولة. وستتمحور سخريتهم هذه حول الصورة الأبوية للأسرة التى تقدم فى مسلسلاته. بل أن هذا التلقين الأبوى حول قيمة المرأة سينقلب إلى تحريض من طرف خفى نتيجة الإصرار الأبله على تقديم صورة للأسرة تنتمى إلى الستينيات فى مجال حضرى يغص بالقبح والفقر. وهذه السخرية ستتبلور فى صورة نزوع عدوانى بدائى الطابع ضد نساء الطبقات الأعلى اللاتى يقدمهن التليفزيون كنموذج للمرأة. وستضحى النساء الخارجات إلى العمل مطعوناً بشكل دائم فى شرفهن وأخلاقهن. أى أن واقع التمييز الاجتماعى، كما يتم إبرازه والاحتفاء به فى الأيديولوجية الرسمية، سيصبح موضوعاً للتمرد من خلال مهاجمة موضوعه الأثير، وهو "المرأة"، التى ستصبح على خط هجوم شباب الأحياء الفقيرة.

على أن أحزمة الفقر الجديدة لم تقتصر على تحويل الخطاب الرسمى عن المرأة إلى "نكتة"، ولكنها أنتجت هى الأخرى خطابات حول المرأة تشكلت من واقع تمفصل ممارسات بورنوجرافيكية عالمية مع الخطاب الإسلامى الرجعى الذى اخترق هذه الأحياء منذ بداية الثمانينيات. ولكن فى حين لعبت الخطابات التى تشكلت داخل صيرورة المشروع البرجوازى الوطنى دوراً فى ضبط الجسد الأنثوى، ستلعب هذه الصور البورنوجرافيكية، التى تتشكل داخل أحزمة البؤس، دوراً فى إخضاع الذوات عن طريق تحريض الشباب على الجسد الأنثوى موضوع الشهوة الجنسية المستحيلة. وفى المقابل ستلعب دوراً فى تحريض الإناث على التعرى على نحو يسهل استعادتها مرة أخرى فى شبكة الخطاب الرجعى الدونى حول المرأة، والذى تستبطنه بنات هذه الأحياء فى علاقاتهن بأجسادهن.

من زاوية أولى انفتحت تلك المناطق بقوة على عملية التسليع الاستهلاكى للجسد الأنثوى نتيجة تفكك أبنيتها، الأمر الذى سمح لقطاعات كبيرة بالعمل فى مواقع إنتاج هذه الصورة الشبقية عن الجسد: الدعارة التى ترتب الاختلاط بالسياح الخليجيين، الملاهى الليلية، شبكات الجريمة المنظمة نفسها. أضف إلى ذلك انفتاح على منتجات الفضائيات فى مرحلة لاحقة. وفى كل تلك المناسبات يظهر الجنس بوصفه فانتازيا صعبة المنال، فتتسرب المتعة بين أيدينا كلما اقتربنا منها، بمعنى أن الرغبة تتزايد وتتشيطن حتى تصبح مستحيلة التحقق، فلا يحدث إلا إخضاع دائم بدوره لماكينة الاستهلاك الشبقى لصورة الأنثى دون أى أمل فى المتعة. نحن أمام حالة أشبه بما وصفه ماركيوز بالتحريض القمعى أو التسامح القمعى مع اللذات، والتى تفضى إلى نظرة دونية يتبناها الأفراد لأجسادهم نفسها: كل بنت تستبطن بداخلها مومسا وكل شاب يستبطن بلطجيا.

فى المقابل انطلق المشايخ السلفيين والجهاديين فى بقاع هذه المواقع الحضرية يدعمون هذه الرؤية الشبقية السابق عرضها، ولكن من الاتجاه العكسى: أى أن الضرورة الإيمانية تقتضى حجب المرأة وإبقائها فى بيتها بوصفها مصدر كل البلاء. ولم تسع السلفية التقليدية أو الجهادية العنيفة إلى تغيير النظرة التى يتلقاها شباب هذه الأحياء عن المرأة بقدر ما سعت إلى تصريف فائض الرغبة فى شكل طاقة قمعية فى مواجهة المرأة نفسها، والتى سيصبح مجرد وجودها فى المجال العام إهانة للذكورة التى استبطنت صورة المرأة البورنوجرافيكية. ولكن الأهم هنا أن الخطاب الدينى المتداول فى هذه الأحياء الفقيرة، برغم اختلافه الجذرى عن الخطاب الرسمى عن العشوائيات، يتلاقى مع هذا الأخير فى تبنى ذات الصورة الذهنية عن أبناء العشوائيات. فهو خطاب مهتم هو الآخر بالزجر والإهانة الدائمين لهؤلاء الشباب، ولا يرى فى حياة الفقراء الجدد أية قيمة يمكن الاحتفاء بها أو البناء عليها، فهو يروج المقولات الرسمية ولكن بعد إلباسها لبوسا دينيا. ومن ثم يمكن استبطان هذه الصورة عن الذات لتعبر عن نفسها فى شكل عنف مطلق يخضع الدين لمنطقه الخاص وليس العكس.

أى أننا أمام موقع تتقاطع فيه العديد من الخطابات التى تنشئ ذاتا خاضعة بعد أن أنشات ذاتاً منضبطة. وكما كانت المرأة فى قلب عملية إنشاء الذات المنضبطة كانت المرأة كذلك فى قلب عملية إنشاء الذات الخاضعة: مرة باستخدام جسدها أداة للزجر والتمييز، ومرة بالتحريض المباشر على هذا الجسد. ونتاج هذا التحريض المتعايش مع أشكال من البؤس غير مسبوقة يتم تعيين موقع جوهرى للأمن يسهر من خلاله على مراقبة الذوات الخاضعة، ويتدخل لقمع عنفها الذى تحرض عليه الخطابات البرجوازية.

الجريمة بشكل عام أحد أهم مجالات اشتغال هذه الآلية. وتجليها فى حالتنا هى التحرش الجنسى، والذى سيتم تعريفه حصراً بوصفه فعلا عنيفا موجها من الهامش نحو الذات المنضبطة المنتمية للمشروع البرجوازى المرتكز على الأسرة. فى هذه الحالة يتدخل الأمن بمنتهى العنف ممارساً طاقة قمعية جبارة. تلعب هذه الممارسة القمعية نفسها دوراً مساعداً فى تثبيت الصورة الذهنية عن الذات الخاضعة، التى يتم التكيف مع كونها مستباحة ومكشوفة للجميع من رجال أمن ورجال دين، مسموح لهم بالحديث والتدخل فى أدق خصوصيات حياة تلك الذوات، على العكس من الذات البرجوازية التى تحتفظ لنفسها بمجال خاص يجرى التهامس بشأنه، وبالتالى يكون اقتحامه غير وارد بداهة. هذا الاستبطان يعود بدوره ليمارس تحريضاً على المرأة بوصفها رمز هذا الحفظ والحجب وعلامته الأثيرة، والتى تشكل استباحتها طقساً شبقياً لفك شفرات الجسد البرجوازى.

حدث التحرش فى وسط المدينة

لحظة تقاطع المدارين

ينشأ احتكاك عمليتى الضبط والإخضاع عادة حول فعل التحرش الجنسى ذاك. يخطئ من يظن أن ما حدث فى العيد هو الظاهرة الأولى من نوعها. يمكن رصد بعض الأحداث المهمة التى احتكت فيها المدارات وولَّدت ردود فعل شديدة الشبه بما أعقب أحداث العيد. بدءاً من عام 1989 ظهرت إلى العلن موجة أفلام موضوعها المحورى هو حادث اغتصاب يرتكبه مجموعة من "الأشقياء"، ويكون ضحية هذا الاعتداء إحدى الفتيات الجامعيات. وينتهى الفيلم، بعد مطاردة طويلة، إما بإلقاء القبض على "الأشقياء" أو بانتقام شقيق البطلة أو أحد أقاربها - أو البطلة نفسها فى بعض الأحيان. وفى جميع الأحوال يتم التنكيل بمرتكبى الجريمة، الذين عادة ما يكونون من العاطلين عن العمل أو أرباب السوابق أو متعاطى المخدرات، وجميعها فئات تحتل موقعاً هامشياً داخل صيرورة الإنتاج البرجوازى. تأتى هذه الأفلام على خلفية حدث محاولة اغتصاب فتاة فى ميدان العتبة فى وضح النهار، كان شهيرا فى زمنه، برغم أنه لم يتم التحقق من صحته وأغلب الظن أنه ملفق، ولكن يعود إليه الفضل فى إطلاق الهواجس البرجوازية من عقالها.

وخلال عقد التسعينيات ستتكرر الآلية على فترات متباعدة: محاولة اغتصاب فاشلة، أو مختلقة، تكتب عنها الصحف، ثم يبدأ عمل الخطابات المختلفة التى تسعى إلى مزيد من إخضاع أحزمة الفقر واستعادة بنات الطبقة الوسطى إلى مشروع الضبط والتحكم البرجوازى. الملفت هنا أن ضحايا هذه الاعتداءات كانوا ينتمون عادة إلى فئات أفقر من تلك التى تصورها لنا الخطابات الكبرى العاملة فى مجال الثقافة الرسمية، وهو ما يفسر وقوعهن عرضة لهذه الحوادث لأنهن لا يتمتعن بحماية أسرية تذكر.

ولكن سرعان ما تحتجب هذه الحقيقة أمام رغبة البرجوازية الجامحة فى امتطاء الحدث لتمتين دعائم مشروعها. فتغيب قصة الضحية، التى قد تتعرض هى نفسها لانتهاك جسدى يومى فى موقع عملها- على يد صاحب العمل أو أبناؤه. فهذا الفعل اليومى لا يتم إبرازه أو تعيينه كتحرش، ببساطة لأنه يمارس كجزء من فلكلور ممارسة السلطة على الجسد العشوائى المستباح كما هو الحال فى أقسام الشرطة. وهو الفلكلور الذى يتواطأ مثقفو البرجوازية المصرية على حجبه. والحجب هنا لا يعنى الإخفاء بقدر ما يعنى ربط الحدث بمجموعة أخرى من الدلالات التى تنتمى لسياق آخر مغاير يطمس حقيقة الحدث. على سبيل المثال، تستدعى حوارات الطبقة الوسطى الجديدة فيديوهات التعذيب التى يكشفها النشطاء الحقوقيون لتجريس ضباط الشرطة وفضح انحطاطهم الأخلاقى، متجاهلة أن غالبية هؤلاء الضباط ينتمون لذات الخلفية الاجتماعية، وأن ممارساتهم الوحشية تعود جزئياً إلى ما تشربوا به من اقتناعات حول الطبقات الأدنى والأسلوب الأمثل "للتعامل معهم" فى بيوتهم وأسرهم أو عبر شبكات الأقران، التى قد تضم العديد من هؤلاء الذين يتندرون على "سفالة" الضباط.

ما حدث فى العيد هو مثال نموذجى على ذلك. كان موضوع الاعتداء بنات تنتمى لشرائح وفئات اجتماعية متدنية، قد يكون بعضهن خارجا من جحيم أحزمة الفقر الجديدة ليستمتع بنزهة فى وسط البلد، أفسد التحريض المتواصل ضد الجسد الأنثوى متعتهن البسيطة. ولكن الخطابات البرجوازية السائدة سرعان ما تدخلت لتوظف الحدث لصالحها وتستعيد سيطرتها مرة أخرى على الجسد الأنثوى باسم حمايته. منذ اللحظة الأولى، وبعيداً عن النوايا الطيبة المعلنة للناشطين والمدونين، أصحاب الفضل فى تفجير الجدل حول الحدث، اشتغل خطاب الضبط بكفاءة منقطعة النظير.

لن نعيد فى هذا المقام تكرار الملامح العامة لما تم ذكره سابقاً، إذ يمكن إحالة القارئ إلى معالجات تشكل أمثلة نموذجية لفعل الجناحين المحافظ والعلمانى وما مارساه من تحريض علنى على الخارجين من أحزمة البؤس الناشئ عن سياسات تحظى بتفضيل الجناحين معاً. يمكن الرجوع لما كُتب فى أعمدة الرأى فى صحيفة المصرى اليوم بأقلام كتاب علمانيين، أو الرجوع لتغطية موقع "إسلام أون لاين" للأحداث كتعبير مصفى عن رؤية الاتجاهات الإسلامية المحافظة للحدث. وينتمى غالبية هؤلاء المعلقين للقوى المطالبة بالتغيير، كما تحضر نغمة التغيير تلك فى تعليقات المتداخلين من القراء أنفسهم. بعبارة أخرى أصبحت حوادث التحرش دليلاً قائما على فلتان أحزمة البؤس وضرورة استعادة دور الدولة والقيم الدينية والأخلاقية فى إخضاع هذه الأحياء. وفوق ذلك أكتسبت الأحداث معنى جديدا، هو استعمالها كدلالة على عجز وفشل النخبة الحاكمة فى الاضطلاع بهذه المهمة، وهو ما أضاف للخطاب لغة أكثر راديكالية، سواء فى وصف مرتكبى الاعتداء، أو فى الدعاوى التى أعقبته لزرع شوارع القاهرة بآلاف العساكر لضبط الأمن، بعد أن أصبحت الأجهزة مشغولة بالأمن السياسى أكثر من اللازم، فى إشارة إلى قمع المتظاهرين المطالبين "بالتغيير".

إذا كان هذا الخطاب يعبر عن شىء، فإنه يعبر عن انكشاف حدود ومنطق الحركات المطالبة بالتغيير ووقوفها عند ضرورة استبدال نخب قائمة بأخرى قادرة على كفالة الأمن الشخصى للأسرة البرجوازية المهددة من كل جانب. بالتوازى مع ذلك كان استدعاء الدولة فى مواجهة "النظام" دلالة أخرى على طموح هذه النخب لاستئناف المشروع البرجوازى الوطنى الذى يحول سكان أحزمة البؤس لذوات منضبطة دون مساءلة الخيارات الاقتصادية التى أنتجت هذا البؤس. يحال الأمر دوما إلى الفساد الضارب فى أجهزة الدولة أو إلى الانفتاح غير المعقلن أو غير المخطط له- يستثنى من ذلك بالطبع عدد من المعالجات اليسارية التى لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة منشورة على عدد من المنتديات الإلكترونية، مثل مداخلة للأستاذ جمال صدقى على نشرة التقدم الإلكترونية. وفى كل الأحوال هناك قبول كامل بالعلاقات السلطوية القائمة وسعى لإنقاذها بتنمية الأحياء الفقيرة.

فى هذا السياق أنعشت التيارات العلمانية فرضيات مثيرة للشفقة، من عينة أن هؤلاء الشباب يتعرضون لكبت جنسى ناتج عن تأخر سن الزواج أو ما شابه، وهو ما يكشف عن جهل مطبق بأبسط قواعد الحياة فى هذه الأحياء. أما التيارات المحافظة فقد استدعت فرضياتها التقليدية عن تآكل القيم الدينية الذى أدى لإغراق المجتمع فى الفساد، متناسية الحضور شبه الاحتكارى للخطاب السلفى فى أزقة وشوارع أحزمة البؤس تلك. ودعوة كلا الطرفين لعودة الدولة للعب دور تنموى أو تشجيع شباب الطبقات الوسطى للانضمام الطوعى لمؤسسات التنمية المحلية ليس إلا دعوة البرجوازية للعب دور هى على أتم استعداد للعبه. نحن أمام نزعة لضبط الفقر وإدماجه داخل بنية الاستغلال البرجوازية بعد أن احتل موقعاً هامشياً داخلها لعقود. أى أننا أمام حلقة جديدة من حلقات برجزة "المجتمع"، والتى تقترن دائماً بصعود خطاب اجتماعى انضباطى عند كل قفزة لهذا المشروع. ولكن هذا الخطاب الاجتماعى عادة ما يكون أبويا، وليس خطابا مبنياً على التضامن: خطاب يسعى لإصلاح وتهذيب سكان هذه الأحياء عن طريق دمجهم فى الاقتصاد الرسمى، وليس خطاباً يحتفى بجماليات الحياة اليومية ويسعى للبناء عليها فى سبيل التحرر الاجتماعى الشامل.

فى إعادة تأسيس العلاقة بين النضال النسوى والنضال الطبقى

ما يعنينا هنا هو إبراز التحرش الجنسى بوصفه اعتداءً على جسد المرأة يستهدف تحجيم هذا الجسد وقمعه والحد من حرية حركته، وليس بوصفه اعتداء على ما يمثله هذا الجسد من رموز وقيم أريد له أن يحملها عن طريق فعل خطابات برجوازية عن المجتمع والنهضة، أو عن طريق تسليع استهلاكى فج متواطئ مع خطاب دينى رجعى يحرض على التحرش ويرعاه. وبالتالى فالنضال ضد التحرش هو نفسه نضال ضد كافة خطابات السلطة البرجوازية التى تتقاطع على الجسد وليس نضالاً باسم هذه الرموز التى تخلقها الخطابات فى تقاطعها. أى أن النضال لا يهدف إلى إنقاذ المجتمع أو الأمة أو أى شىء من هذا القبيل، بقدر ما يستهدف إنقاذ حرية المرأة/ الجسد. وهو ما يقتضى نضالاً دءوبا ضد تحويل عدوان على هذه الحرية إلى مبرر لفرض مزيد من قيود السلطة الانضباطية على الجسد.

هذه العملية مركبة، بمعنى أنها تخاض على مدار الضبط الذى يسعى لاستعادة جسد المرأة، عصب مشروعه البرجوازى، وعلى مدار الإخضاع الذى يسعى لاستخدام هذا الجسد نفسه فى تحريض أبناء أحزمة البؤس ضد المرأة وإخضاعهم فى نفس الوقت. ومن ثم يصبح من البديهى استعادة العلاقة بين النضال الطبقى والنضال النسوى على أرضية التحرر ذاك.

هذا يختلف بالطبع عن ربط النضال النسوى بالنضال الطبقى من موقع التبعية: أى عن القول بأن النضال النسوى ينبغى أن يرتهن بالنضال الطبقى العام الذى يفيض على المرأة بمجرد نجاحه. المنطق الأخير– والذى ساد فى الغالبية الكاسحة من تجارب التحرر الوطنى- يصلح لتأسيس الدول ولكن ليس للتحرر الاجتماعى الشامل. ما نعنيه هنا هو إعادة تأسيس هذه العلاقة فى صيرورة التحرر من كافة علاقات السلطة التى يشكل منطق عمل الرأسمالية ملعبها وساحة تبلورها.

كانت هناك فرصة لتحويل هذا الحدث لمحاكمة علنية للعلاقات السلطوية القائمة، ولكنها تسربت مع الأسف الشديد من يد القوى التى يفترض أن تشكل جيباً نقدياً فى الجدل العام الدائر حول الحدث: أى منظمات المرأة وعدد كبير من الناشطين اليساريين والمستقلين (مثل المدونين مطلقى الحدث وأصحاب السبق فى نشره). بدت الجمعيات النسائية تائهة. حاولت هذه المنظمات كسب شرعية الحديث فى موضوع تمت إزاحته منذ زمن بعيد إلى هامش جدول أعمال القوى السياسية تحت دعوى مناقشة القضايا الكبرى الأهم (التحرر الوطنى ثم التغيير فى مرحلة لاحقة)، عن طريق ربطه بأحد هذه القضايا الكبرى. فسعت للتركيز على أكثر حلقات الحدث إثارة للبلبلة وهو دور الأمن الذى تفرغ لقمع المظاهرات دون إيلاء اعتبار لحفظ الأمن الشخصى. وهذا فى رأيى خطأ فادح إذ أنها بهذا التركيز قد أتاحت الفرصة لجوقة نشطاء التغيير المتباكين على تحلل السطوة الأمنية على الشارع لاحتكار واجهة الجدل (مقالات عمرو الشوبكى فى المصرى اليوم خير دليل على ذلك). ومن جهة أخرى لم تستطع هذه المنظمات تقديم جديد على صعيد موضعة الحدث فى سياقه الاجتماعى بما يختلف عن خطاب استدعاء دور الدولة الأبوى الذى يتعامل مع الأحياء الفقيرة بذهنية باثولوجية. يستثنى من ذلك- فى حدود علمنا الغير شامل بالطبع- عدداً بالغ الأهمية من نشرة مؤسسة المرأة الجديدة صدر بمناسبة الأحداث، ركز بالكامل على التحرش ببنات الشوارع محاولاً وضع الظاهرة فى سياقها الاقتصادى والاجتماعى.

أما اليسار المصرى ونشطاؤه فقد بدوا تائهين بدورهم وخارج مجرى الأحداث. سنوات طويلة قضاها نشطاء هذا التيار، المفترض أن يكونوا الأكثر حساسية لفعل علاقات السلطة الطبقية، موزعين مابين الأجندة القومية والأجندة الديمقراطية المجردة، فى حين توارى المناضلون المنخرطون فى صيرورة الصراع الاجتماعى فى مواقعه الطبيعية من ساحة الجدل العام بالكامل. وبالتالى كان من الطبيعى أن يكرر هذا التيار بدوره نفس أخطاء المنظمات النسائية: استدعاء الأمن ودعوة الدولة لاستئناف دورها.

أما المدونون فكانوا الأكثر تشرذماً بين هذه الجماعات. فبينما ينتمى أصحاب السبق الصحفى إلى مدرسة "عبد الحليم قنديل" التى تتغزل فى الأمة غزلا منتفخا بذكورته، ينتمى العديد منهم إلى طيف واسع من التلاوين الثقافية التى لا يجمع بينها إلا الحساسية المعلنة المضادة للعمل السياسى المباشر. الأمر الذى يعنى بالتبعية تحسسا مفرطاً بدوره تجاه ربط موضوع التحرش بأى سياق تحليلى يدين متهمين بأعينهم ويرتب مهمات نضالية. انعكس هذا النفور فى إدانة غامضة للمجتمع والثقافة والدولة...كذا! وكأن تحوطا مفروضاً يستوجب عدم ذكر أى مدانين بعينهم، فصادروا بذلك الإمكانيات النقدية التى يتيحها الوسيط المنفتح (الإنترنت) الذى ينظم إسهامهم فى الجدل العام. يستثنى من ذلك أيضاً عدد من المداخلات الهامة التى قطعت بشكل حاد مع النغمة السائدة بشأن الحدث، نشرت أغلبها على مدونة منال وعلاء، أو مدونة "مالكوم إكس". يصعب حصر هذه المعالجات النقدية بشكل كامل إذ أنها اتخذت شكل التعليقات فى مجادلات مفتوحة.

لم يكن الهدف من هذا العرض بأى حال من الأحوال مناقشة معالجات جماعات المرأة واليسار والمدونين للحدث. قد يستدعى ذلك معالجة تالية، وقد لا يستحق أية معالجات فى ضوء ضعف هذه الكيانات جميعها، والذى قد يكون عذراً مقبولاً لحالة التخبط التى تمر بها. ما يعنينا هنا هو رصد حالة إجماع داخل المجال العام وهى فى قيد التشكل، ووضع أيدينا على الأصوات المتداخلة التى اندمجت جميعها فى جوقة واحدة صارخة: أحرقوا الساحرات.......أحرقوا من يقف فى وجه صيرورة "مجتمعنا" ويتربص به.... ولكن بالفحص الدقيق يتبين أن هؤلاء الذين يهددون "مجتمعهم" ليسوا إلا الغالبية من فقرائه ونسائه... فعن أى مجتمع نتحدث إذن؟