وثيقة:القبض على حنين حسام - الدولة ومأزق الآداب العامة
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
العنوان | القبض على حنين حسام: الدولة ومأزق الآداب العامة |
---|---|
تأليف | غدير أحمد |
تحرير | غير معيّن |
المصدر | مدى مصر |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://www.madamasr.com/ar/2020/04/23/opinion/مجتمع/القبض-على-حنين-حسام-الدولة-ومأزق-الآدا/
|
تاريخ الاسترجاع | |
نسخة أرشيفية | https://archive.is/0vwsn
|
قد توجد وثائق أخرى مصدرها مدى مصر
ألقت السلطات المصرية الثلاثاء الحادي والعشرين من أبريل الجاري القبض على المواطنة «حنين حسام»، وأمر النائب العام بحبسها أربعة أيام على ذمة التحقيق. حنين أو كما تطلق على نفسها «هرم مصر»، هي شابة عشرينية مصرية، طالبة بكلية الآثار بجامعة القاهرة، وواحدة من مشاهير تطبيق الفيديو «تيك توك». جاء القبض على حنين حسام كرد فعل أمني على بيان رسمي أصدره رئيس جامعة القاهرة، د. محمد عثمان الخشت، ظهر الإثنين الماضي، يُدين فيه الطالبة ويتهمها بأن سلوكياتها «تتنافى مع الآداب العامة والقيم والتقاليد الجامعية»، ويُحيلها للتحقيق. أما بيان جامعة القاهرة نفسه، فكان تفاعلًا مع موجة انتقاد لحنين حسام بسبب فيديو نشرته على صفحتها بتطبيق «تيك توك» تُعلن فيه أنها أسست وكالة رقمية على أحد تطبيقات البث الحي، وتعرض فرص عمل من المنزل على الشابات مقابل وجودهنّ على البث الحي، شريطة أن يكُنّ «مقبولات المظهر وفوق السن القانوني 18 عامًا». أتت ردود أفعال مستخدمي الإنترنت لاذعة، تتهم حنين حسام بدعوة الشابات لممارسة الجنس التجاري إلكترونيًا. لحقها فقرات في برامج حوارية تُندد بالفيديو وتطالب العائلات بأخذ الحذر وحماية بناتهم مما أسموه بالدعارة الإلكترونية. هلع كامل بسبب فيديو كان المفترض أن يكون واحد من مقاطع كثيرة انتشرت لحنين حسام مؤخرًا بهدف التنمر عليها والسخرية من لغتها الإنجليزية. لكن أحدهم ثار للأخلاق وتقدّم ببلاغ للنائب العام الذي أمر بالقبض عليها في أقل من 24 ساعة.
كبوش فداء وقرابين مجتمعية
حنين حسام ليست المواطنة الأولى التي يتم القبض عليها بسبب تهديدها للآداب العامة، أو اتهامها بالتحريض على الفسق والفجور، وبالتأكيد ليست الأخيرة. شهدنا على مدار السنوات الماضية القبض على عدة نساء بتهم تخص الفجور والفسق، منهنّ سلمى الفولي -بطلة كليب «سيب إيدي» والتي ألقي القبض عليها في شتاء 2016 وشيما -بطلة كليب «عندي ظروف»، والتي ألقي القبض عليها في صيف 2017. أما عام 2018 فتقدّم أحد الأشخاص ببلاغ للنائب العام المصري ضد الفنانة رانيا يوسف لارتدائها فستان شفاف بمهرجان القاهرة السينمائي، ولم يتم التنازل عن البلاغ حتى اعتذرت علانية في برنامج حواري مع الإعلامي عمرو أديب. في عام 2019، تم القبض على الممثلتين مُنى فاروق وشيماء الحاج بتهم الفسق والفجور بسبب انتشار فيديو جنسي يجمعهما بالمخرج والبرلماني خالد يوسف الذي صرّح أنه لم يتم توجيه أي اتهامات له. وعلى الرغم من أن الفيديو تم تسريبه ولم يتم نشره بموافقتهما، إلا أنه اُعتبر تحريضًا على الفجور ونشر للرذيلة بسبب ممارستهما للجنس الثلاثي. يُذكر أيضًا أنه في عام 2016، تم إلقاء القبض على الكاتب والروائي أحمد ناجي بتهمة خدش الحياء العام والتحريض على الفسق والفجور بسبب نشر فصل من روايته «استخدام الحياة» يحتوي على كلمات جنسية بجريدة «أخبار الأدب»، قبل أن يتم إخلاء سبيله في ديسمبر 2016، ثم قضت محكمة الجنايات ببراءته في 2017. أما في سبتمبر من نفس العام، فكان حافلًا بالقبض على مجموعة من الأشخاص بسبب رفع علم التعددية الجنسية «رينبو» بحفلة لفرقة «مشروع ليلى» بالقاهرة. منهم أشخاص تم التعرّف عليهم من صور التقطت لهم أثناء حضور الحفل انتشرت في الإعلام تدّعي أنهم يحاولون نشر الفجور والفسق و«الشذوذ» في المجتمع المصري، ومنهم أفرادًا تم نصب فخاخ إلكترونية لهم على تطبيقات المواعدة الخاصة بالمثليين والمثليات للإيقاع بهم/ن والقبض عليهم/ن. جميع هذه الوقائع وغيرها يسبقها ويتبعها وقائع أخرى لمواطنين ومواطنات يتم القبض عليهم بتهم التحريض على الفسق والفجور/ نشر الرذيلة/ خدش الحياء العام/ ومخالفة الآداب العامة.
النهج الذي تتبعه الدولة المصرية مُمَثلة في أنظمتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، نهج أمني ذي غطاء مجتمعي، يستهدف استقطاب الأغلبية المحافظة لتثبيت قدم النظام السياسي بتصويره الحارس الأول للأخلاق والفضيلة. تنص المادة رقم (10) من الدستور المصري الصادر عام 2014 أن «الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية، وتحرص الدولة على تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها». الأسرة المُشار إليها في المادة هي أسرة غيرية تجمع رجل وامرأة تحت مسمى الزواج وهو الإطار الوحيد القانوني لممارسة الجنس، وما عاداه يعتبر علاقة غير قانونية قد تقع تحت بند قانون مكافحة الدعارة رقم (10) لسنة 1961، بالأخص إن ثبت تلقي المال مقابل ممارسة الجنس. يُشير مصطفى محمود، محامٍ مصري، أن بنود مواد هذا القانون يتمّ استخدامها عادة في قضايا المجموعات الكويرية، خاصة المثليين والمثليات، بسبب عدم وجود نص صريح يُجرم المثلية الجنسية في القانون المصري. ويُضيف أن اللغة المستخدمة بالقانون، وبعض مواد قانون العقوبات الخاصة بمخالفة الآداب العامة، لغة «عائمة، غامضة ومطاطة» لا تُعرّف الأفعال التي يتم تجريمها، وإنما تضعها تحت مظلة واسعة من التفسيرات. فمثلًا، قد تُستخدم ألفاظ «فسق/ فجور/ رذيلة» في قضايا مخالفة الآداب العامة وخاصة المجتمعات الكويرية، وتُترك لتقدير القاضي إن كان يعتد بالفعل محل الاتهام كجريمة أو لا، ويكون مصير المتهمين/ات مرهون بتقديرات القاضي ومعاييره الشخصية.
أما قوام هذه الأسرة، فهو مجموعة من المفاهيم الفضفاضة مثل الدين والأخلاق والوطنية، تقع مسؤوليتها على عاتق مؤسسات الدولة. لذلك تعتمد هذه المادة من الدستور المصري على الربط بين مفهوم الأسرة ومفهوم الأخلاق، وهو ربط مستمر منذ عقود في الدساتير المصرية المختلفة منذ دستور 1923. تقول الباحثة حنان خلوصي في ورقة نشرتها دورية «أوراق القاهرة في العلوم الاجتماعية» بدار نشر «الجامعة الأمريكية بالقاهرة» عام 2014 إن الربط العام بين الأسرة الغيرية وبين مفهوم الأخلاق والآداب العامة في بداية القرن العشرين أدى إلى ما يُعرف بأزمة الزواج في الطبقات المتوسطة والتي فضّل الرجال فيها استكمال دراساتهم على الزواج. ما أدى إلى حالة هلع اجتماعية حول مصير الأسرة، وصفتها بعض الشخصيات العامة آنذاك أنها «أزمة أخلاق». استمرت حالة الهلع الأخلاقي في النصف الثاني من القرن العشرين، وعلى إثرها تم تجريم الجنس التجاري وصدر قانون مكافحة الدعارة والبغاء عام 1961 كما تقول الباحثة لورا بيير في كتابها «النسوية، الحداثة، والدولة في عهد عبد الناصر» الصادر عام 2011. ومع تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي، بدأ الدور الأمني للدولة في الاتساع، كجزء من عمليات أمننة (Securitization) موسعة، تفرض فيها الدولة هيمنتها على المجموعات والأفراد، بما في ذلك استهداف الأشخاص الذين/اللاتي لا يتبعون النظام الاجتماعي المُقَر سلفًا من الدولة، مثل عاملي/ات الجنس التجاري، أفراد ذوي ميول وهويات جنسية غير سائدة، تحت مسمى الحفاظ على النظام الاجتماعي وحفظ الآداب العامة، وكذلك مجموعات سياسية.
استمرت عمليات الأمننة في عهد مبارك في التوغل داخل النظام الاجتماعي. تحت مسمى «شرطة الفضيلة»، يقول حسام بهجت الصحفي حاليًا بـ«مدى مصر»، والباحث ومدير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية سابقًا، في ورقة نشرها عام 2004 بعنوان: «الحماية الافتراضية للأخلاق في مصر»، إن الدولة الأمنية تضع نفسها موضع الحارس على الآداب العامة على حساب أشخاص ومجموعات لا ينصاعون لمعاييرها الاجتماعية، وتصنّفهم كخطر أمني ثم تلاحقهم بناء على ذلك، مُشيرًا إلى واقعة «الكوين بوت» والتي تم القبض فيها على أكثر من 50 شخصًا عام 2001 بتهم الفجور و«الشذوذ» والتجسس. في نفس الصدد، أشار الكاتب المصري خالد منصور في ورقة بحثية منشورة عام 2016 بعنوان: «حرية التعبير في مصر: كيف يُهدد الشعر الطويل، التنورات الورديّة، الروايات والفيديوهات النظام الاجتماعي والآداب العامة»، أن ملاحقة الأشخاص أمنيًا لا تكون فقط في حالات «التلبس» بالمعنى القانوني، ولكن تتعداها إلى حالات الاشتباه، كأن يتم إيقاف أشخاص من قِبل ضباط شرطة بسبب اشتباههم أنهم مثليين جنسيًا بسبب ملابسهم أو تصرفاتهم. يستدعي كذلك واقعة تطليق قسري لزوجة الكاتب المصري نصر حامد أبو زيد؛ بسبب رفع دعوى قضائية ضده بأن زواجهما باطل استنادًا على أراءه الدينية التي أثارت جدلًا مجتمعيًا.
الأسرة، الهوية الوطنية، والأمن القومي
قبل القبض على حنين حسام، انتشرت مقاطع فيديو لأشخاص على موقعي «يوتيوب» و«فيسبوك» تطالب بتدخل أجهزة الدولة لأن حنين حسام تُحرّض الشابات على ممارسة الجنس التجاري الرقمي، أو كما وصفوه «دعارة إلكترونية». اعتمد ناشرو المقاطع على خطاب الأخلاق والحفاظ على الأسرة وحماية النساء، للإيقاع بحنين حسام. كارت يتم استخدامه دائمًا لاستدعاء التدخل الأمني في كل ما يخص الحفاظ على ما يُسمى بالآداب العامة. تتدخل الدولة وتلعب دور المُنقذ حافظ النظام الاجتماعي، فتكتسب بذلك نقطة في سجل التأييد الشعبي. علاوة على ذلك، تتدخل الدولة ليس فقط استجابة لمواطنين، لكن لتعلو سلطتها ويسير الجميع في الخط المرسوم لهم. أما الإعلام المصري، فقد تولى مسؤولية الإبلاغ والمطالبة بتدخل النائب العام، مصحوبًا بعبارات مثيرة للهلع مثل: «طمنونا بإجراء للحفاظ على هوية الأسرة المصرية» والتي تبرع بها مقدم برنامج «بالورقة والقلم» نشأت الديهي.
لفهم سياق جملة الديهي، علينا تفكيك جملته التي جمعت بين الدولة والهوية والأسرة. تُفسّر باحثة الأنثروبولوجيا نيكولا برات، في ورقة بحثية نشرتها جامعة كامبريدج عام 2007 بعنوان: «الكوين بوت: الجنسانية، الأمن القومي، وسيادة الدولة»، هوس الدولة بفرض سيادتها على المجال الاجتماعي بأنه رغبة في إحكام قبضتها الأمنية، وترسيخ لما يُعرف بالهوية الوطنية والثقافية لمصر. وتضيف أن تلك الهوية المُتخيّلة تعتمد بشكل رئيسي على توزيع الأدوار والهويات الاجتماعية بمأسسة الزواج من جهة، وبمحاولة دائمة لتمييز نفسها عن الهوية الغربية من جهة أخرى. تربط ذلك بعدة نقاط، منها التراجع الاقتصادي الذي أثر على توزيع الأدوار الاجتماعية داخل نظام الأسرة، وتأثر القرارات السياسية والاقتصادية في مصر بالسوق العالمية، خاصة إجراءات القروض من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. ما تسبب في وجود هوّة في هوية الدولة نفسها كسيادة، وبالتالي محاولة استعادة تلك السيادة بالسيطرة على المجال الاجتماعي، بتخيّله كمجال «خاص» بسيادة الدولة. ومن هنا يأتي دور جنسانية الأفراد كمُهدد لنظام اجتماعي تنظّمه الدولة، واعتباره قضية أمن قومي إن أخل بشروط العلاقات الجنسية: رجل وامرأة يجمعهما الزواج. تصف كذلك ما حدث في قضية «الكوين بوت»، بأنه كان فرصة دولة مبارك لإثبات سيادتها القومية، خاصة بعد نجاح تيار «الإخوان المسلمين» آنذاك في الفوز بمقاعد البرلمان عام 2000 وتبعها سيل من الأخبار الإعلامية تُدين المثلية الجنسية بوصفها مستوردة من الغرب الذي يسعى لتفكيك الأسرة المصرية والهوية الإسلامية للشعب المصري. وفي رحلتها لتأطير الأشخاص المقبوض عليهم في الواقعة كعناصر فاسدة دينيًا، روّجت وسائل الإعلام أن «الكوين بوت» هي مكان لممارسة عبادة الشيطان. ولتأطيرهم كعناصر مُهددة للأمن القومي، تم توجيه اتهامات بالتجسس لصالح جهات أجنبية. كل ذلك لم يحدث في معزل عن اتهامهم بالفسق والفجور وممارسة الرذيلة، ومخالفة الآداب العامة.
تظل واقعة «الكوين بوت» مثال حي على استخدام الدولة قوتها الأمنية ونظاميها التشريعي والقضائي لانتهاك الحياة الخاصة للمواطنين، وتقديمهم إعلاميًا كمواطنين فسدة، جواسيس، ويهددون ثقافة المجتمع المصري المحافظ. كما كانت خطوة على طريق بدأت فيه أجهزة الدولة مراقبة الإنترنت ومستخدميه كجزء من سياسة حماية الأمن القومي. يذكر حسام بهجت، بمقاله المنشور في 2004، واقعة إلقاء القبض على ابن الشاعر نجيب سرور، لأنه نشر قصيدة لجده تحتوي على ألفاظ جنسية، وتم اتهامه بحيازة مواد إباحية بغرض نشرها بموجب المادة 178 من قانون العقوبات المصري. قيل آنذاك إن الدولة لن تتسامح في نشر محتويات تخالف الآداب العامة على الإنترنت. ولن تتهاون في تطبيق عقوبات رادعة على المخالفين للقانون والذين يظنون أن الإنترنت مساحة مفتوحة يمكنهم فيها ممارسة الفجور أو الدعوة إليه. في توثيقها لانتهاكات الدولة ضد أشخاص مُعتقد أنهم يخالفون الآداب العامة، تقول الباحثة المصرية داليا عبد الحميد، في ورقة نشرها جورنال دراسات النساء في الشرق الأوسط عام 2018، أن عدد المقبوض عليهم بتهم الفسق والفجور تضاعف خمس مرات بعد عام 2013 مقارنة بما قبله.
ما حدث مع حنين حسام شبيه بما حدث، ويحدث من رقابة على المواطنين ومحاولات ردعهم بالقوة الأمنية عن مخالفة الآداب العامة، وتتطلب الحبكة استدعاء مفردات مثل: الهوية، الأسرة، الأمن القومي، معتمدة على خطاب الأخلاق الذي يُنظم سلوكيات الأفراد داخل المجتمع، تارة بالعنف مثلما يفعل الآباء والأمهات، وتارة بالنبذ الاجتماعي والوصم أنهم غير أخلاقيين، وتارة بإلقاء القبض عليهم واستعداء الدولة لهم رسميًا.
أينما كنتم تُدرككم السلطة الأبوية
ممارسة الأبوية غير مقتصرة على نظام العائلة. فالدولة تمارس سلطتها الأبوية بأشكال مختلفة، يُمكننا التركيز على الملاحقات الأمنية والقانونية، ومباركة العنف المجتمعي ضد المواطنين. في القضايا المذكورة سلفًا، لعبت الدولة دور الأب، مُستغلة سلطتها التنفيذية وأذرعها الإعلامية. هذا الأب قد نتخيله رجُل ذو هوية رجولية مُهيمنة، أو رجل ينطبق عليه المفهوم الاجتماعي للرجولة: عنيف، حازم، مُسيطر، مُتحكم. في تراتبية النظام الأبوي، يكون الرجال أعلى الهرم، بينما تشغل النساء منزلة أقل. ولكي يستمر الأب في السيطرة على العائلة، عليه السيطرة على مَن هم على درجات أقل منه في السلطة، كالنساء، الأطفال، والرجال الآخرين الذين يقعون تحت سلطته بفعل السن أو الطبقة تحت شعار الحماية أو المصلحة العامة. في الأنظمة الأبوية، لا يحق للأفراد حرية التصرف في أجسامهم.
تعتبر السيطرة على نساء العائلة هنا، ليست فقط إحكام لسلطة الأب، إنما هي تحكّم في أوضاع هؤلاء النساء وأجسامهم وما ترمز إليه. ترمز أجسام النساء في الأنظمة الأبوية للشرف والفضيلة، ولا يُسمح بالمساس بها، وإلا يتم وصم الأشخاص المفترض أنهم مسيطرين على تلك الأجسام- الرجال. أجسام النساء أيضًا هي أدوات إنتاج اجتماعي، وضمانة لاستمرار نظام العائلة الغيرية. في هذه الثنائية الجندرية، يعتبر خضوع النساء للسلطة الأبوية جزء أصيل من تحقق الهوية الرجولية، كما تقول الكاتبة النسوية سينثيا إنلو، في كتاب «النسوية الفضولية» الصادر عام 2004. لكي تستمر المنظومة الأبوية، عليها ضمان استمرار الأشخاص في أماكنهم، كلٍ ملتزم بدوره الاجتماعي وبهويته الاجتماعية وميله الجنسي. ولكي يتحقق ذلك، تستخدم كل وسائل العنف المتاحة، يسبقها أساليب المراقبة والملاحقة، وهو أسلوب تتبعه السلطات المصرية في فرض هيمنتها بوصفها الأب الأكبر والمسؤؤل عن إخضاع أفراد العائلة مُتمثلة في المواطنين والمواطنات.
يُمكننا تطبيق ذلك على قضية حنين حسام، ولنفترض أنها دعت الشابات لممارسة الجنس التجاري الرقمي- وهو غير صحيح بالمناسبة. إن خرجت حنين حسام عن سلطة عائلتها، وبدأت تمارس ما تم اتهامها به علنًا، فهي خرجت بذلك من سلطة العائلة الصغيرة -أسرتها- إلى العائلة الكبيرة: المجتمع، ثم العائلة الأكبر: الدولة. في أحد فيديوهات «يوتيوب» ذكر شخص ما أن دعوة حنين حسام للشابات لممارسة الجنس التجاري الرقمي، يُهدد علاقته بأخته الصغرى، وقال نصًا: «مش هقدر أتحكم…»، وقبل أن يكمل الجملة انتقل لأخرى مُدركًا أنه قالها صريحة: إن تصرفت أخته في جسمها، سواء كان ذلك عن طريق حنين حسام أو لا، يفقده السيطرة عليها كرجُل. في فيديو آخر، قال أحدهم: «احموا بناتكم». انتقلت حنين إلى سلطة أكبر نسبيًا مُمثَلة جامعة القاهرة، ثم السلطة الأكبر مُمثَلة في جهاز الشرطة وخضوعها لتحقيقات النيابة بتهمة التحريض على نشر الفسق والفجور. محاولة ردع حنين حسام وجعلها عِبرة بالقبض عليها، هي محاولة مجموعة من النظم الأبوية استعادة سيطرتها على امرأة، أو مجموعة نساء، خرجنّ عن المألوف. وبخروجهنّ عن المألوف تهديد لرجولية تلك النُظم والمؤمنة بضرورة خضوع النساء لتتحقق ذواتهم الرجولية. هو صراع بين عدة ذوات: ذات تحاول الانفصال عن السائد، وذات تستمد وجودها من السائد وعلى أتم الاستعداد لارتكاب حماقات تضمن استمراره، واستمرار ذواتهم بالتبعية. الخطاب الذي تم استخدامه للإيقاع بحنين حسام، يسحب كل الأهلية من النساء اللاتي قد يلحقن بوكالتها كعمل من المنزل ولتحسين دخولهنّ الشهرية. فرغم أن حنين حسام أعلنت أن المتقدمات للعمل يجب أن يكنّ فوق السن القانونية، إلا أن أحدًا لم يلتفت إلا لتصويرهنّ كضحايا لحنين حسام التي تحاول السيطرة عليهنّ بالمال، واستغلالهنّ. نعم، يرى هؤلاء أن خروج امرأة ما من سيطرة سلطة، يعني خضوعها لسلطة أخرى. هم لا يرون النساء إلا تابعات.
هناك زاوية أخرى تتعلق أيضًا بالأدوار والهويات الاجتماعية. بالعودة إلى ما ذكرته نيكولا برات في ورقتها عن سيادة الدولة والأمن القومي وعلاقتهما بالنوع الاجتماعي، نجد أن هناك بُعد اقتصادي للأدوار الاجتماعية بين رجال ونساء العائلة. فالرجال كما يتم ربط هويتهم الاجتماعية في النُظم الأبوية بالعنف والسيطرة، كذلك يتم ربطها بالإعالة. فالمفترض في النظام الأبوي أن العائل الوحيد رجُل، أما التغيّرات الاقتصادية التي شهدتها مصر على مدار العقود القليلة السابقة، أدت إلى تشارك الإعالة بين الرجال والنساء، وارتفعت نسبة النساء المُعيلات حتى بين المتزوجات. هذا الانحسار لجزء من دور الرجال الاجتماعي، تبعه انحسارًا آخر في تصرفاتهم الاجتماعية وعلاقتهم بالنساء إن كنّ يُشاركن في دخل الأسرة. في كتابها «أن تعيش وتموت كرجُل»، دراسة ميدانية في منطقة الزاوية الحمراء بالقاهرة، صدر عام 2013، تقول باحثة الأنثروبولوجيا فرحة غنّام، إن هيمنة الأسرة على الشابات اللاتي يعملنّ خارج المنزل ويُساهمنّ في الدخل أو يخففن عبء تجهيز أنفسهنّ للزواج، أقل كثيرًا عمّا إن كانت الشابة لا تعمل. وتُشير إلى أن بسبب تخفيفهنّ للعبء المادي على الأسرة، تتغيّر علاقة القوة بينهنّ وبين الآباء أو الأشقّاء. لنربط ذلك بالإنترنت الذي تستخدمه نساء اليوم لتحسين مستوى المعيشة عن طريق بضعة دولارات على مشاهدة محتوى يقدمونه، وبالأخص برامج البث الحي. أكثر ما يُميز هذه البرامج هو أنها لا تتطلب مؤهلات علمية. نشاهد نساء تقدم برامج طبخ، وأخريات يصوّرن حياتهنّ الشخصية مع أطفالهنّ وضيوفهنّ على موقع «يوتيوب»، وغيرهنّ تعمل في مجال الإعلانات لشركات وعلامات تجارية غير معروفة. هذه البرامج تقدم فرصة تحسين دخل لمَن هم خارج السباق المهني في سوق العمل. كلما كان مقدم/ة المحتوى مبدع/ة، كلما زادت المشاهدات، وزاد العائد المالي. هذا العائد ليس شخصي تمامًا. فأغلب هؤلاء يُساهمون في دخل أسرهم وحتى أصهارهم والذين بالنسبة إليهم، هذا عمل جيد ويخدم الغرض منه، دون تعريض الابنة لضغوط وظيفة ثابتة لن توفّر نصف ما يوفّره الإنترنت.
قد يُصادف أن تتواصل معهنّ شركات إعلانات أو علامات تجارية معروفة، ويكون التواصل بين الشابة والشركة تواصلًا مباشرًا، تستطيع فيه تقييم المحتوى المطلوب الإعلان عنه والاتفاق على أجره، والذي غالبًا ما يتم من خلال وسيط أو وسطاء يتقاسمون الربح مع المُعلنة. أعتقد أن المشكلة وراء دعوة حنين حسام، هي اعتياد «استخدام» أجسام النساء، كان ذلك من الأسرة بصفقات الزواج مثلًا، أو شركات الوساطة التي توظّف العارضات للإعلانات. أشير هنا إلى أن مَن يستخدم أجساد النساء الآن ويتربّح منها هو النساء أنفسهنّ. والاستخدام الأول قائم على الاستغلال، بينما الثاني قائم على علاقة عمل مباشرة بين المُعلن أو الشخص الذي يُشاهد محتوى البث الحي فيقرر دعمه بدولار، وبين مقدمة المحتوى نفسها. تلك علاقة عمل لا تقبلها الأغلبية المحافظة. فلو قارنّا بين إنفلونسرز الطبقات العُليا والمتوسطة، لوجدنا محتوى محافظ إلى حدٍ كبير مقارنة بمحتوى تقدمه شابة من طبقة اجتماعية أقل من متوسطة والتي غالبًا ما يتم التنمر عليها ووصمها بأنها «بيئة/ مبتعرفش تتكلم إنجليزي». هذا ليس ربطًا بين الطبقة وما يُسمى بالأخلاق. إنما لفت نظر لمعايير تقييم المحتوى الرقمي الذي تقدمه النساء على الإنترنت مع وضع عامل الطبقة في الاعتبار. فيكون المحتوى المحافظ أكثر قبولًا بين أوساط المُشاهدين، ويتحول إلى أداة تقييم لأي محتوى آخر.
عائلة واحدة يجمعها الحب.. لكن بشروط
على الرغم من ذلك، هناك فرص متاحة أمام النساء الموصومات بتهم أخلاقية، وغالبيتهنّ يعرفنّ جيدًا معنى أن توصَم امرأة بتهم تخص الآداب العامة. يعرفنّ معنى أن يكون لإحداهنّ «ملف في الآداب»، ومعناه أن تنتهي حياتها الاجتماعية والمهنية. تقتنع بعضهنّ بأنها مُذنبة، وتُقدم فروض الطاعة للمجتمع والدولة. وتستخدم بعضهن هذه الآلية للتحايل على الوصم الأخلاقي. في وقائع اتهام نساء بنشر الفسق والفجور التي ذكرتها، كان أشهرهم مقطعين فيديو للفنانة منى فاروق، والفنانة رانيا يوسف. نشرت منى فاروق فيديو، تحكي للجمهور كيف تأثر عملها بالقضية، ينبذها الجميع، وأنها تابت وكانت مخطئة ونالت عقابها بالحبس. في المقطع الثاني، تظهر رانيا يوسف مع عمرو أديب باكية، تتحدث بخجل، وتطلب من الجمهور مسامحتها قائلة بدهاء: «أنا بنتكم». هذه العبارة جنّبت رانيا يوسف التحقيق الرسمي. «أنا بنتكم»، جملة قصيرة مُفادها أنها جزء من جمهور صوّرته بـ«العائلة»، وبأنها «الابنة». تقول الكاتبة النسوية سارة أحمد في كتابها «سياسات المشاعر»، والصادر عام 2014، إن حب العائلة حب مشروط بالالتزام بما تفرضه العائلة على أفرادها، بما في ذلك سلوكياتهم وهوياتهم الاجتماعية وميولهم الجنسية. عندما قالتها رانيا يوسف، استدعت مشاعر جمهورها، وقالتها ضمنيًا إنها قد تكون خرجت عن الشروط، لكنها تعلّمت الدرس ولن تخرج عنها مرة أخرى. لذلك تستحق الحب وإعادة الاعتماد داخل العائلة كفرد مطيع.
أما حنين حسام، فنشرت فيديو توضّح للجمهور ما قالته بخصوص العمل من المنزل، ولم تعتذر فيه. طالبها الإعلامي تامر أمين بالاعتذار. يبدو الندم هنا شرطًا للإعفاء عن حنين حسام، كأنها في وضع استتابة، تمامًا كما حدث ويحدث مع كثيرات غيرها. الندم هنا بمثابة إعادة قبول مجتمعي، واعتراف بأن الجميع على حق، ماعدا هي. الندم اعتراف بالخطأ، وتشفّي جماعي في أشخاص؛ لأنهم/ن لم يتصرفوا/ن كما يجب، أنهم/ن لم يلتزموا/ن بالمألوف والسائد. ولذلك، هم/ن الآن عِبرة للجميع.
هزليّات ومفارقات
قصة حنين حسام وتفاصيلها المُكررة، لم تخل من بعض المفارقات والأمور الهزلية. مثلًا، ظهر المخرج وائل الصديقي، في فيديو يُطالب فيه مباحث الآداب بالقبض على حنين حسام. يُذكر أن الصديقي هو مخرج كليب «سيب إيدي» والذي تم القبض على بطلته سلمى الفولي بتهمة نشر الفسق والفجور عام 2016 بينما هرب الصديقي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم عاد ليستأنف على حكم حبسه، فتم تأييد الحكم. مفارقة أخرى وهي إدانة القبض على حنين حسام والمطالبة بالقبض على سما المصري؛ لأن الأخيرة تستخدم برامج البث الحي. أما أكثر الأمور هزلية وعبثية، فكان بيان رئيس جامعة القاهرة الذي يتهم فيه حنين حسام بأن ما فعلته “يتنافى مع الآداب العامة والقيم والتقاليد الجامعية.” وبغض النظر عن أنه لا يوجد ما يُسمي بالقيم والتقاليد الجامعية من الأصل، فإن بيان جامعة القاهرة أصدر بيان رسمي يدين طالبة بـ«القاهرة» لقيامها بشيء لم يحدث داخل أسوار الجامعة.
جدير بالذكر أن موجات التنمر الإلكتروني العنيفة التي تعرضت لها حنين حسام على مدار الأسابيع الماضية، كانت سببًا رئيسيًا في القبض عليها. هذا التنمر تحوّل إلى «تريند»، يحاول الجميع اللحاق به والسخرية منها. وكما نعرف أن الإنترنت فضاء مُراقب من الدولة، فإن الأخيرة لم تتردد في تقديم حنين حسام كبش فداء جديد لما يُسمي بالآداب العامة.
في الختام، النسيج الاجتماعي للمجتمع المصري ذو الأغلبية المحافظة ظاهريًا، قد يقبَل التغيير في بنيته بسبب عدة عوامل منها أوضاع اقتصادية تؤثر بشكل قوي على الأدوار والهويات الاجتماعية. مازال تغيير طفيف أقرب للخلخلة منه إلى التحول الجذري، ومقيّد بأُطر وخطابات ترعاها الدولة ومؤسساتها. الدولة تؤدي دور السلطة الأبوية المطلقة في أكثر صورها عنفًا وتسلطًا، بشكل يصعب معه خلخلة ذلك النسيج والذي يعني خلخلة سيادتها الداخلية دون عواقب. أعتقد أننا بحاجة لتساؤل، وهو كيف يُمكننا المراهنة على خلخلة تلك السلطة وتفكيك هذه الأُطر والخطابات بأشكال مقاومة مُمثلة في تفاصيل حيواتنا اليومية، في حين أن الدولة متوغلة في هذه الحيوات ولا تفلتها تحت أي ظرف؟ أعتقد أيضًا أنه من الضروري إعادة النظر والتفكير في اعتبار حيواتنا اليومية منفصلة عن مُجريات الحياة السياسية وأجهزة الدولة في مصر، وأن نعتبرها خصم مباشر وخصم شرس لا يتوانى عن التنكيل و«قرص الودان».