وثيقة:سيلفيا فيديريتشي: حول الرأسمالية، الكولونيالية، النساء، وسياسات الغذاء

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

شعار موقع نون العربية.jpg
حوار صحفي
تأليف ماكس هايفين و سيلفيا فيديريتشي
تحرير غير معيّن
المصدر نون العربية
اللغة العربية
تاريخ النشر 2017-06-21
مسار الاسترجاع http://thearabnoon.net/2017/06/21/silvia-federici/
تاريخ الاسترجاع 2018-06-05
نسخة أرشيفية http://archive.is/ZzhCc
ترجمة مايا سليمان
لغة الأصل الإنجليزية
العنوان الأصلي Silvia Federici, On capitalism, colonialism, women and food politics
تاريخ نشر الأصل 2009-11-03


هذا النص هو مقابلة صحفية مع الناشطة والمفكرة النسوية الماركسية سيلفيا فيديريتشي ويوجد نسخة على موقع politics and culture للمقابلة بلغتها الأصلية.



قد توجد وثائق أخرى مصدرها نون العربية



ماكس هايفين: أعمالك التاريخية تمحورت حول كيفية قيام ما يسميه ماركس ب”التراكم البدائي” – أي عملية ولادة الرأسمالية من تدمير أشكال أخرى للحياة – بالاعتماد على التدمير الممنهج لقوة النساء و”مراكمة الانقسامات” في صفوف الطبقة العاملة. هل بامكانك الحديث عن كيفية ارتباط هذا بتاريخ سياسات الغذاء؟


سيلفيا فريدريتشي: توجد علاقة مباشرة بين تدمير القوة الاجتماعية والاقتصادية للنساء أثناء “الانتقال نحو الرأسمالية” وبين سياسات الغذاء في المجتمع الرأسمالي.

لعبت النساء في كل بقعة في هذا العالم، وقبل حلول الرأسمالية، دورًا رئيسيًا في الإنتاج الزراعي. كن يملكن حرية الوصول إلى الأرض واستخدام مواردها وحرية التحكم بالمحاصيل التي زرعنها مما ضمن إستقلاليتهن وإستقلالهن المادي عن الرجال. في أفريقيا، كان لديهن أنظمة زراعة وحصاد شكلت مصدر ثقافة نسائية مميزة كما كن مسؤولات عن إنتقاء البذور، وهي عملية مصيرية لازدهار المجتمع فكانت معرفتهن تتناقل عبر الأجيال. الحال نفسه ينطبق على دور النساء في آسيا والأمريكتين . في أوروبا أيضًا، وحتى أواخر العصور الوسطى، كان للنساء حق إستخدام الأراضي و”المشتركات” – الأخشاب، البحيرات، أراضي الرعي – التي كانت مصدرًا مهمًا للرزق. إضافة إلى الزراعة مع الرجال، كان للنساء جنائنهن حيث زرعن الخضار والأعشاب الطبية والنباتات.

في كلا من أوروبا والمناطق التي استعمرها الأوروبيون، غيّر التراكم البدائي والتطور الرأسمالي الوضع هذا. مع خصخصة الأراضي وتوسع العلاقات النقدية، تطور في الزراعة تقسيم أكثر عمقًا للعمل فصل بين إنتاج الغذاء بهدف الربح وإنتاج الغذاء بهدف الاستهلاك المباشر، وجرد عمل إعادة الإنتاج من قيمته بدءًا من زراعة الكفاف، وعين الرجال موقع المنتجين الزراعيين الرئيسيين بينما أبعدت النساء إلى مرتبة “المساعدات”، في الحقل كن أم في المنزل.

في أفريقيا المستعمرة مثلًا، فضّل الضباط البريطان والفرنسيون الرجال بشكل ممنهج فيما يتعلق بتخصيص الأراضي والمعدات والتدريب، وقامت مكننة زراعية زادت من تهميش نشاط النساء الزراعي. قاموا أيضًا بتعطيل الزراعة النسائية عبر إجبار النساء على مساعدة أزواجهن في زراعة المحاصيل الهادفة للربح، مبدلين بذلك علاقات القوة بين النساء والرجال ومحرضين بذلك على صراعات جديدة بينهما. وحتى يومنا هذا، لا زالت “الوكالات الإنمائمة” تسير وفقًا للنظام الكولونيالي الذي تُمنح من خلاله ألقاب ملكية الأرض للرجال فقط، وليس في إفريقيا وحدها.

يتوجب علينا ذكر أن الرجال كانوا ولا زالوا متواطئين في هذه العملية، ليس من جهة تنصيب أنفسهم في موقع المتحكم بجهد النساء، بل أيضًا – وفي ظل الشح المتنامي للأراضي- عبر تآمرهم لعرقلة حق النساء في الإستخدام المشاعي للأرض (حيثما بقي هذا الأخير) عبر إعادة صياغة قوانين وشروط الانتماء إلى الجماعة.

على الرغم من مقاومة النساء لتهميشهن، وانخراطهن المستمر في صراعات زراعة الكفاف واسترجاع الأراضي، كان لهذه التطورات أثر عميق على الإنتاج الغذائي. وكما وصفت ڤاندانا شيڤا بقوة في كتابها “البقاء على قيد الحياة” [1]، فقد ضاع مع عزل النساء عن الأرض وتدمير تحكمهن بعملية الإنتاج جسم كبير من المعرفة والممارسات والتقنيات التي حمت لقرون سلامة الأرض و التربة وحفظت القيمة الغذائية للطعام.

اليوم، ترى وكالات “الإنماء” مزارعات الكفاف بنظرة من الانحطاط الكامل. مثلًا، يستهل البنك الدولي تقريره السنوي [2] الأخير حول الزراعة كالتالي: “امرأة أفريقية تنحني تحت الشمس، تعشب الذرة في حقل قاحل بمجرفة، وعلى ظهرها طفل معلق – إنه مشهد حي للفقر الريفي”. الواقع أنه لسنوات، حاول البنك الدولي -سائرًا على خطى الإقتصادي هيرناندو دي سوتو- إقناعنا أن الأرض تفقد قيمتها عندما تستخدم للكفاف أو المسكن، وتصبح منتجة فقط عندما يتم احضارها إلى المصرف لزيادة رصيد الإئتمان. خلف هذه النظرة فلسفةّ متعجرفة ترى النقود وحدها خلّاقة للثروة وتؤمن أن الرأسمالية والصناعة قادرتان على إعادة خلق الطبيعة.

لكن الواقع يُظهر العكس. فمع زوال زراعة الكفاف التي كانت تمارسها النساء، تجري خسارة ثروة هائلة بمعدل متزايد مع عواقب وخيمة على كمية ونوعية الغذاء المتوفر لنا. ما يخفيه البنك الدولي عنا هو أن الطعام يفقد جزءاً كبيرا من قيمته الغذائية عبر مصنعة الزراعة. كما يخفي عنا حقيقة أن الملايين من الناس استطاعوا البقاء على قيد الحياة في وجه اللبرلة الاقتصادية بفضل جهود النساء اللواتي زرعن في كثير من الأحيان أراض عامة وخاصة غير مستخدمة لسد إستهلاك أسرهن.

م.ه.: كل هذا يطرح مسألة أهمية دور العمل الزراعي، عمل النساء على وجه الخصوص، في عملية العولمة. في رأيك، كيف يتناسب العمل الزراعي مع تصورنا للعمالة العالمية اليوم. الأرقام تخبرنا أن الزراعة لازالت الموظف الأول لوقت الناس، ووقت النساء على وجه التحديد، حول العالم. لكنها تقبع خارج رادار التحليل الدائر حول الأشكال المتغيرة للعمل ورأس المال في هذه الأيام.

س.ف.: تخطئ الحركات اليسارية عندما تقلل ، نظريًا وعملًيا، من شأن أهمية العمل الزراعي في الاقتصاد السياسي اليوم، وتبعًا، من القدرة التغييرية للصراعات التي يقودها المزارعون في هذا المضمار. الرأسماليون بالتأكيد لا يرتكبون هذا الخطأ. فكما تشير تقارير البنك الدولي التي ذكرتها (إضافة إلى تقارير أخرى)، دائمًا ما تحتل عمليات إعادة تنظيم العلاقات الزراعية الأولوية في برامج إعادة الهيكلة الخاصة بها.

على الرغم من أن عدد من يعملون في الزراعة عدد مبهر(على الأغلب أنه يبلغ حدود الملياري شخص) أهميتها لا تقاس فقط بحجمها. الأهم من هذا هو مساهمة العمل الزراعي في عملية اعادة الانتاج الاجتماعي. كما ذكرت سابقًا، زراعة الكفاف على وجه الخصوص، والتي غالبًا ما تمارسها النساء، تمكن ملايين الناس من البقاء على قيد الحياة في وقت لا يملكون فيه أي وسيلة لشراء الطعام من السوق. وإضافة إلى هذا، إعادة تقييم العمل الزراعي وتوسيع نطاقه وإعادة دمجه في حياتنا أمر لا مفر منه في حال أردنا بناء مجتمع لا-استغلالي يتمتع باكتفاء ذاتي.

هناك الكثير من المجموعات والحركات بما فيها تلك المتواجدة في الشمال الصناعي (على وجه الخصوص تلك التي تقودها النسويات\ون البيئيات\ون) ممن يدركون هذه الحاجة. وإنه لأمر مشجع أنه على مر العقدين الماضيين شهدنا نموًا في حركات الحدائق المدنية التي أعادت العمل الزراعي إلى قلب عواصمنا الصناعية. لكنه لأمر مؤسف أن الكثير من اليساريين لم يتجاوزوا بعد تراث الصراع الطبقي في الحقبة الصناعية بتركيز هذا الأخير على المصنع و البروليتاريا الصناعية اضافة الى ايمانه بطريق تكنولوجي نحو التحرر من الرأسمالية. مثلًا، في كتاب نيجري و هاردت المعنون “تعدد” نقرأ عن قدر الفلاحين في الاختفاء من المشهد التاريخي نتيجة الدمج المتزايد للعلوم والتكنولوجيا في تنظيم الإنتاج الزراعي واستقلال العمل عن المادة*. انه لمن المقلق أن نيچري و هاردت يستشهدان بالهندسة الوراثية لدعم رأيهما القائل بأن الفلاحين بصفتهم مجموعة تاريخية قد أصبحوا على طريق الاندثار خصوصًا إذا أخذنا بعين الإعتبار النضال الشرس الذي يخوضه الفلاحون حول العالم في وجه البذور المعدلة وراثيا، والذي تم مسبقًا عده نضالًا خاسرًا انطلاقًا من هذا الرأي.

في الحقيقة، ما نشهده اليوم هو عملية “إعادة تفليح” وتأثير متبادل بين المدني والريفي، ولا يسع الأزمة الحالية إلا تسريع هذه العملية. فالأمر قد بدأ في الصين: المهاجرون السابقون للبلدات يعودون إلى المناطق الريفية وقد قدر لهم أن يصبحوا مجموعة من العمال في تنقل دائم بين هذين القطبين. وفي أفريقيا أيضا، كثيرون من سكان المدن يعودون الآن إلى القرية، ولكنهم غالبا ما يتنقلون ذهابا وايابا بسبب عدم قدرتهم على إيجاد وسائل إعالة كافية في مكان واحد.

م.ه.: هناك شيء جد مقلق حول مشهد العمال والعاملات دائمي التنقل الذين يحاولون البقاء على قيد الحياة في عالم من مصادرة الأراضي. ذكرني هذا بمقاطع من “كاليبان والساحرة” حيث تتحدثين عن المتشردين الذين حكم عليهم بالتنقل الدائم بعد أن سُلبوا أراضيهم المشتركة في عملية مصادرة الأراضي التي حصلت في أوروبا في القرون الوسطى. ومن نفس المنطلق، يستخدم زيچمنت بامن مجاز المتشرد (مشبها “السياح” الأثرياء به) لوصف نموذج انتزاع الملكية من الإنسان في ظل العولمة [٤]. لا بد لهذا أن يهذب النزعة المتسرعة للإحتفال بحرية التنقل والوجود غير المقيد والذي يقاربه البعض بصفته مؤسِسًا لمسار سياسي جديد. هذا الأمر يستحضر الجانب الذي أقدره في أعمالك، وهو قدرتك على إبقاء العولمة والكولونيالية في المركز. ففي السنوات الماضية، قمتِ بالعمل على العمليات الحديثة لمصادرة الأراضي في أفريقيا في ظل النيوكولونيالية والنيوليبرالية. هلّا حدثتنا عن كيفية ارتباط هذه [العمليات] بأزمة الغذاء العالمية الحالية؟

س.ف.: كتاب واحد لن يكون كافيًا لوصف الطرق الكثيرة المترابطة التي استطاعت من خلالها الكولونيالية، القديمة والحديثة، والنيوليبرالية المساهمة في خلق أزمة الغذاء الحالية.

ما نشهده اليوم ليس إلا الحدث الأخير في عملية طويلة تتكشف منذ قرنين على الأقل. الكولونيالية عطلت أنظمة الفلاحة في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية من خلال تخصيص الأراضي وإدخال الزراعات الهادفة للربح والزراعة الأحادية وفرض سياسات تضر بالييئة (كالتخشيب) أو تبعد الفلاحين عن إنتاج الغذاء.

لم يحل الإستقلال هذه المشكلة على الرغم من أنه سمح بخلق أسواق محلية للغذاء. و الاصلاح الزراعي المبني على استرجاع الأراضي المنهوبة الذي كان قد طالب بها المستعمَرون كثمرة نضالهم التحرري لم يتحقق إلا بشكل هامشي. ففي سياق من الإعتماد الإقتصادي والسياسي المستمر على قوى الاستعمارسابقًا، أبقت الدول الجديدة على نظام الزراعة التجاري الموجه نحو التصدير الذي كان المستعمر قد زرعه في ترابهم، على الرغم من أن النظام أضر بالبيئة وبالعلاقات الاجتماعية للمناطق الريفية بادئا بعلاقات المرأة والرجل كما أشرت سابقا.

وفي مرحلة ما بعد الاستقلال، أصيب إنتاج الغذاء في العالم الثالث بضربتين أخريين تمثلتا “ببرامج الإعانات الغذائية” المدعومة من الولايات المتحدة – والتي كانت بمثابة سلاح استخدم في الحرب الباردة وكانت له فعالية التدخل العسكري في خلق أشكال أخرى من السيطرة السياسية – و “الثورة الخضراء”. هذه الأخيرة كانت بمثابة علاوة لقطاع التجارة الزراعية النامي، إذ قامت الثورة الخضراء بتحويل الزراعة في العالم الثالث إلى قطاع صناعي وجعلته معتمدًا على الاستيراد الخارجي (للبذور المهجنة والمبيدات الحشرية والأسمدة) وأقصت الفلاحين الصغار من الأرض.

مع حلول السبعينات، كانت التبعات الكارثية لعقود من التدمير الكولونيالي وما بعد-الكولونيالي للبيئة الريفية، في تجلياتها الأكثر وضوحًا على شكل مجاعات متكررة، فكان أكثرها فتكًا تلك التي ضربت بلدان حزام الساحل جنوب الصحراء الكبرى حيث لقي أكثر من 100,000 شخص حتفهم وهُجِّر أكثر منهم بشكل دائم. مع حلول الثمانينات، وبإسم أزمة الدين وتعافي الاقتصاد، فرض البنك الدولي على أمم العالم الثالث حول العالم أجندة نيوليبرالية في حين كانت فيه زراعة “البلدان النامية” تقبع مسبقًا في كارثة واقعها المجاعات وسوء التغذية. في هذا السياق، متطلبات “التعديل الهيكلي”، كما سميت وصفة البنك الدولي – (أي لبرلة الاستيراد وإيقاف الدعم عن الفلاحين وتحويل الإنتاج الزراعي نحو الإنتاج “عالي الجودة”، أي “منتجات فاخرة” للسوق التصديرية) – أنذرت بكارثة قيد التشكل كما حذرت مرارًا تنظيمات الفلاحين والناشطون المعادون للعولمة والبيئيون. أضف إلى هذا الأثر الذي تركه على الزراعة كل من التخشيب والتلوث عبر المسافات الطويلة واتفاقيات التجارة التي تعاقب تخصيص المعرفة التقليدية لفلاحي العالم الثالث وتعاقب تسجيل براءات اختراع بها والسيطرة الشرِكية الشمولية والنامية على إنتاج البذور اضافة الى ما تسميه مارياروزا دالا كوستا ب”سياسة الإبادة”. وفي الواقع، الكثير من الفلاحين، خاصة في الهند، أنهوا حياتهم بعد أن دمرتها هذه السياسات.

اذًا، علينا أن نكون حذرين عندما يقال لنا أن الارتفاع العالمي في أسعار الغذاء في الأشهر الماضية كان نتيجة محرك المضاربات نفسه الذي أنتج فقاعة الإسكان. المضاربة ممكنة تحت ظروف معينة فقط وهذه الظروف بالتحديد هي ما يجب أن نكون حذرين تجاهه.

ما نتعامل معه اليوم أزمة أعمق مما يتم الاعتراف به وأزمة لا يمكن حلها بزيادة “القوانين”. النيوليبرالية ومحركات النظام المالي التضاربية والترويج للوقود الحيوي كلها عوامل فاقمت النزعات المنقوشة في منطق الزراعة وإنتاج الغذاء في ظل الرأسمالية. ما دام الغذاء يُنتج بهدف الربح ويُستخدم وسيلة لاجبار الناس على قبول الأشكال المرغوبة من الاستغلال ستبقى ندرة الغذاء هدفًا طاغيًا للانتاج الزراعي وفقًا لتخطيط الحكومات والمؤسسات المالية.

ما نحتاج إليه هو تغيير هيكلي، شكل جديد بالكامل للزراعة، ونظام لا يسمم من ينتج ويستهلك الغذاء، وهذا يتطلب أولًا نظامًا مختلف تمامًا للعلاقات الاجتماعية والقيم.

م.ه. : أنا سعيد لأنك ذكرتي الطرق التي يتحول من خلالها الغذاء وسياسات الغذاء إلى أسلحة لإعادة إنتاج ونشر وتعزيز أنظمة الاستغلال وعلى وجه الخصوص النظام الرأسمالي البطريركي للقيم الذي هو في أساسه نظام إبادة. في هذا العدد من مجلتنا نحاول تفكيك مصطلح “السيادة” عند استخدامه في سياق الغذاء. فمن جهة، يمثل المصطلح مبدءاً أساسيًا للسياسة الدولية لأوروبا الإمبراطورية: الدولة القومية المحددة التي تملك حقًا حصريًا في منطقة أو مجموعة من السكان. من جهة أخرى، بدأ هذا المصطلح باتخاذ معانٍ جديدة منذ[ ظهور] حركات التحرر الوطني المناهضة للاستعمار معبرًا هذه المرة عن حق الشعوب في تقرير مصيرها. أثار المصطلح أيضًا الكثير من التأملات الجديدة في معسكرات النظرية النقدية مع تجدد الاهتمام بالسياسة الحيوية والعولمة. ما هو فهمك لهذا المصطلح؟ هل برأيك أنه مفيد أو مناسب؟ أين ومتى؟

س.ف. : أتفهم حذرنا تجاه مفهوم “السيادة” خصوصًا أنه مرتبط وراثيًا بتاريخ الدولة القومية. ولكن في حالة “السيادة الغذائية” علينا التركيز على استخدامه بدل التركيز على معناه النسَبي.

مصطلح “السيادة” اليوم – كما تم استخدامه منذ التسعينات من قبل حركات الفلاحين التي شكلت ائتلاف ڤيا كومپيسينا – سلاح في وجه سيطرة الشركات الدولية على إنتاج الغذاء وفي وجه مصادرة الأراضي والغذاء المعدل وراثيًا وتحويل الزراعة إلى نشاط تجاري. “السيادة” في هذا السياق لا تحمل أي من المفاهيم الملَكية والقومية التي ارتبطت تاريخيا بهذا المصطلح. انه دعوة للحكم الذاتي ولتقرير المصير ورفض للنموذج الرأسمالي للزراعة الذي يسلب الناس من أراضيهم ومن معارفهم التقليدية ويُخضعهم لقوانين دولية قاتلة ويحول طعامهم إلى سم. وكما عبرت مارياروزا دالا كوستا عن الأمر، “السيادة” تأكيدٌ “لحق المجموعات السكانية في تحديد ما تأكل وكيف تنتج هذا الغذاء” مع رؤية الغذاء بصفته “مصلحة عامة” بدل كونه سلعة. [5]

السؤال بالطبع هو ما اذا كان علينا أن نفهم “السيادة” من زاوية “الأوتاركية” الكاملة. على الرغم من بعض التصريحات التي تقترح هذه الإمكانية، أعتقد أن هؤلاء ممن يمتلكون هذه التخوفات على خطأ. شبكات التجارة الواسعة وأنظمة التبادل المتقدمة وُجدت في أفريقيا والأمريكتين لقرون قبل وصول الأوروبيين الذين باشروا بتعطيلها. بنائًا عليه، علينا ألا نقلق من احتمال أن من ينادون “بالسيادة” اليوم سيقفون في مواجهة التجارة مع البلدان المجاورة والشبكات الإقليمية التي وجدت قبل الاستعمار. اذ تُبذل اليوم جهود واسعة لبناء شبكات تبادل إقليمية مبنية على أسس الكرامة والحكم الذاتي. وستكون هذه بلا شك أحد أبرز التحديات التي تواجه حركات العدالة الاجتماعية في السنوات القادمة.

م.ه.: تعقيبًا على هذه النقطة، بحثك حول عمل النساء ونضالهن التاريخي المعاصر بحث جد عميق . كيف يؤثر عمل النساء ونضالهن على سياسات سيادة الغذاء اليوم؟

س.ف.: عمل النساء ونضالهن مركزيان لمسألة “سيادة الغذاء” اليوم. النساء هن من يدفعن الثمن الأغلى لارتفاع أسعار الغذاء، وواقع أن نفاذهن كمنتجات زراعيات للأراضي والطاقة الزراعية تم تقويضه هو أحد الأسباب التي تجعل من ارتفاع الأسعار هذا أمرًا ممكنًا.

كما ذكرت سابقًا، النساء كن منتجات ومعالجات غذاء العالم منذ زمن سحيق. وحتى يومنا هذا، تنتج النساء في بعض مناطق العالم (أفريقيا على وجع الخصوص) 80% من الغذاء الذي يتم استهلاكه. زراعتهن المعيلة تمكن الملايين من البقاء على قيد الحياة في وقت لا يقدرون فيه على توفير ثمن الغذاء من السوق. لكن قدرتهن على زراعة الغذاء تقبع تحت تهديد متنام من قبل عوامل تتمثل بشح الأراضي المتزايد وتخصيص الأرض والماء وتسويق الزراعة وتحويل الإنتاج الزراعي في معظم بلدان العالم الثالث إلى إنتاج بغرض التصدير (والذي يطلق البنك الدولي عليه اليوم اسم الزراعة “عالية القيمة”)، وهذه الاتجاهات تعزز بعضها البعض. فالأراضي المتاحة للمزارعين في تقلص مستمر حتى في المناطق التي يعتمد فيها أغلب السكان على الزراعة، إذ تتعرض النساء لإجراءات اقصائية من قبل أقربائهن وأفراد مجتمعاتهن من الذكور ليصبح وصولهن إلى الأراضي والحقوق العرفية مقيدًا أكثر. يمثل هذا تهديدًا أساسيًا لانتاج الغذاء واستهلاكه من قبل أقسام كبيرة من سكان العالم كما أنه يسلب النساء قدرة التحكم بالغذاء المستهلك.

تجري الآن حملة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا تقودها مجموعات واتحادات نسائية تطالب بضمان حق النساء في الأراضي في قوانين ودساتير بلدانهن. وفي نفس الوقت، كانت النساء ولا يزلن على الخطوط الأمامية لنضالات الزراعة المدنية ونضالات الأرض. في كثير من المدن الافريقية، من أكرا إلى كينشاسا، تأخذ النساء القطع غير المستخدمة من الأرض ليزرعن الذرة والكسافا والفلفل مبدلات بذلك معالم البلدات الإفريقية ومضيفات إلى ميزانية أسرهن الغذائية والمالية ومعززات إستقلالهن الاقتصادي. لكن تبقى المعركة الأساسية هي إعادة توزيع الأراضي وضمان وصول النساء كاملًا اليها والى المياه التي تجري فيها. وكما تشدد كاتبات نسويات كماريا مييس و فاندانا شيفا، يتم ضمان السيادة الغذائية عندما يصبح إنتاج الغذاء “بأيدي النساء” بمعنى امتلاك النساء آليات التحكم بطرق إنتاج الغذاء واستهلاكه.

م.ه.: يبدو أن هذه المطالب وصلت إلى قاعات القوى الدولية لكن بتكوين نيوليبرالي. تحشد”حركة” القروض الصغيرة الحديثة والتي يتم الترويج لها حاليًا لفكرة مصيرية دور نساء العالم الثالث كمنتِجات اقتصاديات بهدف ترويج القروض صغيرة. يجادل نقاد بأنها محض نيوليبرالية من الأسفل تطمح لجعل النساء “رجال الاقتصاد” الجدد في العالم الثالث وعملاء للمزيد من المصادرات. ما رأيك بهذه الحركة؟

س.ف.: مصرفيو العالم وغيرهم من المخططين الاقتصاديين اكتشفوا النساء كمنتجات اقتصاديات لأنهم يؤمنون بأنه من الأسهل التحكم بالنساء نظرًا لمسؤولياتهن تجاه أسرهن. إنهم على علم بأن النساء يفعلن كل ما بوسعهن لضمان إطعام أطفالهن وإرسالهم إلى المدارس كما يعلمون أنهن أكثر مسؤولية في تسديدهن القروض. كما أنهم متشوقون لدمج النساء في اقتصادهم المالي وسحب الثقة من أنشطة الكفاف التي يرونها تهديدًا لسيطرتهم على السوق.

على الأرجح أن الكثير من النساء يفضلن امتلاك أرضٍ فهذا يمنحهن هامشًا أكبر من الاستقلال اضافة الى قدرتهن على بيع فائض القيمة إلى الأسواق المحلية. لكنه حل لا يقترحه قط المخططون الاقتصاديون لأنهم يعارضون أي شكل من سياسات إعادة التوزيع مؤمنين بأن الأرض لا يصح استخدامها إلا لأهداف تجارية. ومن غير المفاجئ أن أبرز المؤيدين للقروض الصغيرة كان ولا يزال البنك الدولي، فبرامج التعديل الهيكلي خاصته تخلق حالة الفقر وانعدام الأراضي نفسها التي من المفترض على برامج القروض الصغيرة أن “تخفف من حدتها”.

كما تشكل برامج القروض الصغيرة مصدرًا للانقسام داخل المجتمعات وبين النساء من خلال اختيار “من تستحق” التسليف من بين غير المؤهلات معرضين بذلك النساء لضبط متبادل يقوض تضامنهن. كما أنها أداة أيديولوجية فاسدة توحي أن ضبط النفس هو كل ما تحتاجه النساء للوصول إلى نتيجة إيجابية راسمين بذلك غطائًا فوق الظروف الكارثية التي تعيشها معظم النساء في القرى الهندية والافريقية بسبب سياسات لم يخترنها.

يشير بعض النقاد أيضًا إلى أن تسديد الدين غالبًا ما يأتي على حساب حاجات أسر النساء وأنه بعد سنوات من التجربة لا وجود لأدلة تشير إلى أن برامج القروض الصغيرة أتت بأي أثر إيجابي على حياة النساء.

م.ه.: في وقت يشهد فيه عالم الجنوب صعودًا كبيرًا لحركات اجتماعية تتحدى سيادة عولمة الشركات على الغذاء، يبدو أن حركات الغذاء في عالم الشمال وفي أمريكا الشمالية على وجه الخصوص مالت نحو اتباع منطق استهلاكي (الغذاء البطيء، استهلاك الطعام العضوي، الخ.). هل تظنين أنه توجد امكانيات سياسية للتنظيم حول الغذاء تنقلنا أبعد من هذا؟

س.ف.: التباين حقيقي، لكن عددًا من الاتجاهات التي ظهرت في السنوات الماضية تشير إلى أن طرقًا جديدة للتنظيم حول قضية الغذاء آخذة بالتطور بطريقة تتجاوز المفهوم الضيق للمصلحة الشخصية المتجسدة في المطالبة بالطعام العضوي.

أولًا، لدينا حركة الحدائق المدنية التي ذكرتها منذ قليل والتي انتشرت في عدد من المدن الأمريكية. الحركة هذه مستمرة باكتساب بُعد سياسي- أمر حصل جزئيًا بفضل هجمات سياسيين محافظين عليها كمحافظ نيويورك السابق رودي جويلياني. خطته إزالة عشرات الحدائق من نيويورك في منتصف التسعينات رفعت وعي الجميع وكان لها أثر تحويل الاعتناء بالحدائق إلى حركة سياسية. نحن نعي اليوم أن الحدائق بذور اقتصاد بديل مستقل عن السوق. فهي لا تسد وظيفة اقتصادية فحسب عبر تأمينها غذائًا أدنى سعرًا وأكثر طزاجة لا يملك كثيرون القدرة على شرائه في الحالات العادية بل تقوم أيضًا بخلق سلوك اجتماعي جديد؛ فالحدائق هذه أصبحت أمكنة للتجمع والتعاضد والتعليم المتبادل بين ناس من مختلف الأعمار والثقافات.

هناك اهتمام جديد بين شباب أمريكا الشمالية بالعمل الزراعي وتعلم خصائص الأعشاب والنباتات وبخلق علاقة جديدة مع الطبيعة. دائمًا ما ألتقي بشبان وشابات من الولايات المتحدة يشعرون بصدق بالاشمئزاز من الثقافة الاستهلاكية التي تحيط بهم فيصبحون نباتيين أو نباتيين صرف (vegan) انطلاقًا من قلقهم تجاه الكلفة البيئية والبشرية لتربية الماشية ورفضهم معاناة الحيوانات. ويشير انتشار التعاونيات الغذائية والزراعة المدعومة مجتمعيًا ومجموعات مثل طعام لا قنابل إلى وجود هذا الوعي الجديد.

المشكلة التي نواجهها في بناء حركة شعبية هي أن الوعي المتغير ليس كافيًا لتغيير ممارسات شراء الطعام واستهلاكه. صعوبة الوصول إلى الأرض وشح المال والمساحة والوقت (للتبضع والطهو وفهم ظروف إنتاج ما نأكل) هي العقبات في هذا الصدد. على حركات الغذاء أن تكون مرسخة في حركات أوسع نطاقًا تخاطب كلية حياتنا. وفي الوقت نفسه، على الحركات الاجتماعية أن تبني حملات لوقف:

  • الممارسة الوحشية لحشد الحيوانات صناعيًا فهي ممارسة كارثية لبيئتنا وصحتنا.
  • التدمير المستمر لملايين الهكتارات من الأراضي والكيلومترات من المساحات الساحلية بهدف تربية المواشي وزراعة السمك، وكلتاهما ممارسات تقتلع وتفقر مجموعات كبيرة من السكان وتدمر الأرض وتنتج غذائًا سامًا.
  • المصادرة الممنهجة لثروة بلدان العالم الثالث الطبيعية تحت غطاء التعديلات الهيكلية مما يجبرهم على تصدير غذائهم وعلى مشاهدة مسامكهم تُستنزف وغاباتهم تُحطَب وأراضي محاصيلهم تُهدر لافساح المجال للفواكه والخضار الرفاهية والآن، الوقود الحيوي.
  • وأخيرًا، يساعدنا أن نكون على اطلاع بالنضالات التي تقودها بلدان أخرى لرفض ما نصدره من الغذاء وهذا يزودنا دائمًا بمعلومات مثيرة للاهتمام عادة ما نكون نحن في أمريكا الشمالية آخر من يعلم بها. مثلًا، علمت من رفض الاتحاد الأوروبي استيراد الدجاج المجمد من الولايات المتحدة أنه يغطَّس بالكلورين قبل تعليبه. كما علمت أن لحم البقر “المنتج” في الولايات المتحدة يحوي هورمونًا يسبب السرطان، وإلى ما هنالك. dematerialization of labor


الهوامش

  1. Shiva, V. (1988). Staying alive : women, ecology, and development. London, Zed Books.
  2. (2007). World development report 2008: agriculture for development. Washington, D.C., The World Bank.
  3. Hardt, M. and A. Negri (2004). Multitude: war and democracy in the age of Empire. New York: Penguin.
  4. Bauman, Z. (1998). Globalization: the human consequences. New York: Columbia University Press.
  5. Dalla Costa, M. (2008). “Food Sovereignty, Peasants and Women.” The Commoner (12).