وثيقة:اقتصاد الشهوات في الرأسمالية المتأخرة: قراءة في السّياق الأمريكي والفلسطيني

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

Circle-icons-document.svg
مقالة رأي
تأليف هديل بدارنة
تحرير غير معيّن
المصدر جدلية
اللغة العربية
تاريخ النشر 2017-12-13
مسار الاسترجاع http://jadaliyya.com/Details/34890
تاريخ الاسترجاع 2018-12-29
نسخة أرشيفية http://archive.is/WSjdz



قد توجد وثائق أخرى مصدرها جدلية



هذه المادة ضمن ملف خاص تنشره"جدلية" بالتعاون مع مؤسسة القوس الفلسطينية


"وإنتٍ؟ بتركضي بتركضي بتركضي وغير اللقمة اللي نزلتيها بتمّك ما في، كلشي عندِك بالأجرة، بيتك بالأجرة، وشغلك بالأجرة، ولسا بتقوليلي مستورة، لأ مانها مستورة أنا حاسة حالي عايشة بالزلط، منيح هيك؟!"

من أحد مشاهد المسلسل السوري "قلم حمرة" |٢٠١٤

قد تمضي هذه الكلمات أمامنا دون أن نتساءل كثيرًا ما لانعدام السترة أو"الزلط" والعيش بالإيجار، الا أن نصّ كاتبة السيناريو يمّ مشهدي يُلقي القبض على "المفهوم ضمنًا" بمنتهى الإخلاص الفكري، ويروي على ألسنة نسائية حاقدة طبقيًا عن معنى الأمان الاقتصادي وعلاقته بالجسد المهدًّد. هذا الربط في الخاطرة النسائية بين السترة والاستقلال المادّي هو ربط معاش لا يسعفه الشرح أو التنظير، لكنه نافذة صغيرة تطلّ على التنظيم الاقتصادي لأجسادنا وجنسانيتها، ولفهمنا لها. وهو ما يدفعنا للتساؤل: هل لواقعنا المادّي ولانتماءاتنا الطبقية هذا الكم من قوة الصقل الجسدي والجنساني؟ أيلتقي الجسدي بالاقتصادي؟ أهما منفصلان كي يلتقيا؟ والأهم ما لنا ولهذه الأسئلة كلّها؟

إنّ فهمنا لمحرّكات أجسادنا ليس بأمر بديهيّ، وإن كان كذلك فعلينا بإعادته لموضع الشّك والمقارعة الفكريّة. وفي محاورة مفاهيم الجنس والجنسانية بالذهنية البشرية يتحتم علينا الحفر في الذات الاجتماعية الإيروسية دون اختزالها طاقةً كونية غرائزيّة متّسقة مع الطبيعة، بل باعتبارها بنية متشكلة داخل التاريخ مصاغة عبر قوى دفع، ودفع مضادّ، تتفاعل في المجتمع.

لأي مدى إذاً يمكن للنظام الاقتصادي أن يشكّل وعينا؟ هل فعلا يملك القدرة باجتياح [[[جنسانية | جنسانيّتنا]]؟ أو أنه كما ادّعى فرويد، ما رغباتنا سوى طاقات لا-منطقية متّقدة في اللاوعي خارج تعرّجات التاريخ[1]؟ هل يعقل أن يكون هذا القدر من تقرير مصير أجسادنا خارجنا؟ أو أن تكون الإجابة على ذلك خارج إدراكنا؟ تصبح هذه الأسئلة ملحّة أكثر فأكثر عندما نحللّ أنفسنا وواقعنا عبر عيون مُهيمِنة متزعمّين، بل متيقّنين، أنها عيوننا نحن، نحن المقموعين والمنتهكات، المتمرّدين والمقاومات، نسير صوب هوّة هذا الكمين وننكرها فور السقوط؟

بسياقنا الاستعماري، تعاني عيون أصحاب الخطاب التقدّمي فيما يخص الجنسانيّة من قصر نظر ذي تجليّات عدة;

يُسَخّر الخطاب الأكثر انتشارًا التحليل الجنساني لخدمة "القضيّة الوطنيّة" دون المساس بالأبويّة والذكوريّة المتأصلة داخل المؤسسات الوطنيّة عقائديّأ وبنيويّا، فيختزل كلمة "جنسانية" ب"امرأة" (مغايرة ضمنيّا) ويحوم حولها وحول دورها كشريكة في العمل الوطني انسجامًا وتعريفها أمًا صالحة وأختًا فاضلة، فهي متألّقة أكثر هكذا. يرتبك ذات الخطاب في حرج ذكوريّ مفرط حيال الجنسانية بمعناها الشامل، إذ يصعب على الرّجل المستعمَر تشريح الرجولة وتعريتها من الفحولة المناوئة للاستعمار، ما بالِك إذا كانت ذات ميول مثليّة أو راغبة في التحوّل. وليحفظ ماء وجهه يفضّل التحدّث عن "قضيّة المرأة" متمنّنا عليها بتقدميّته، لا لشيء سوى لطمر ذاته الهَلِعة، فردية كانت أم جمعيّة، طمرها بعيدًا عن ساحة الاستئثار والبطولة الوطنيّة من جهة، وعن مكانته المتفوّقة اجتماعيًا من جهة أخرى. لذلك عندما يدعو هذا الخطاب نساء الطبقات العاملة للانخراط في "سوق العمل" يكون ذلك مشروطًا "بطبيعة الحال" بعملها المنزلي غير المأجور، وعندما يحتفي بنساء الهبّات الوطنيّة، وأمّهات وأخوات الأسرى والشهداء، يكون ذلك منوطًا بعودتهن اللاحقة إلى نوعهن الاجتماعي ودورهن الإنتاجي، فللقضيّة أحكام وللوطن أولويّات.

يترددّ هذا التحرّر الأجوف للمرأة على ألسن تدّعي "ممانعة قوى الغرب والتحرر الاجتماعي والسياسي" لكنه بالحقيقة امتداد لصناعات التّمكين وحقوق الإنسان المتدفقة من صميم الاقتصاد النيوليبيراليّ. أما إذا خدش الحياء، يظهر خطّ فكريّ آخر نجده بالغالب في الأكاديميات والأبحاث، يقرّ بتعريف أوسع للجنسانيّة غالبًا ما يحظى به الرّجل المثلي على اهتمام أكبر من المرأة المثلية، ويقوم على تحليل الانتظام الجنساني كمادّة ذات خصوصيّة ثقافيّة تتشكل إزاء المركزيّة الأوروبيّة والمشاريع الاستعماريّة، وتكاد تنتفي دونها. وفي وصف الصراع الثقافي مع الغرب صراعًا مُعرِّفًا لجنسانية المستعمَر، لا ينتج الفكر معانٍ ومفاهيم مستقلّة بل يمضي في منزلقات التجوهر مكرّسا ما ينتقده.

قد يختلف توجه الخطابين ويصل في بعض الأحيان حدّ التضادّ، ورغم أن الأول ذو طابع تعبوي والثاني بحثيّ إلا أن كلاهما يلتقيان في نقاط تماس عديدة الأهم منها هنا هو: التغييب الصارخ للعوامل الاقتصادية والتحليلات الطبقية للجنسانية تحت الاستعمار، تغييب يعود بالفائدة على السّلطة الاستعمارية ووكلائها.

تشكيكًا في المعرفة المقتصرة على دراسة الخطابات ونقدها نتساءل; هل تختلف جنسانيتنا كأجساد مُستعمرة عن غيرها في تأثرها بالعوامل الاقتصادية من حيث كونها "كولونيالية"؟ إلى أي حد؟ وبسياقنا المحلّي، أتكون للجنسانية الفلسطينية خصوصيّة بظل الرأسمالية المتأخرة؟

تستهلّ هذه المقالة بما قد يبدو انحرافًا عن عنوانها، وتأخذ بالقارئة إلى أولى المجتمعات البشرية قبل الميلاد، لتعود بها، من خلال ذات العدسة النقديّة، مباشرة إلى حقبة الرأسمالية حيث ستُعالج الهويات الجنسية والتحركات الكويريّة انطلاقًا من السياق الأمريكي وانتهاء بالنموذج الكولونياليّ في فلسطين.

في كلا السياقين ستتمعّن المقالة في تشكلات العائلة والعشيرة كمتغيّرات أساسية في الانتظام الجنساني الجمعي، ومن خلال النموذجين الأمريكي والفلسطيني ستنظر في الفروقات وأوجه الشبه بين الجسد الجنوبي من جهة والشمالي من جهة أخرى. وربّما ما تتمناه روح المقالة هو استفزاز نقد نسوي لا يهاب الاقتصاد السياسيّ والماديّة التّاريخيّة بل يخوضهما مساحة للتحدّي وأرضية للتّصعيد.


في البدء كان المجتمع أموميّ

أيقظ البحث الأركيولوجيّ من باخوفين وحتى السّواح الشك حول الفرضية السائدة إن المجتمع لطالما كان ذكوريًا أبويًا، وأخذت صورة الرّجل المقاتل كالقائد الأول للتجمّع البشري تندثر شيئًا فشيئًا. فإذا انطلقنا من أولى المدن في سومر والتزمنا امتداد الثورة النيوليتيّة خطّا تاريخيًا، منتقلات إلى المجتمع الزراعي الممتد من حلب حتى سيناء، سنتيقّن عبر ما خلّفته المنمنمات، والأساطير، والمعابد أنه في البدء كان المجتمع أمومياً.[2] مع تراكم الأبحاث وازدحام الدلائل تهاوت أسطورة الأبوية الأبديّة وظهرت المرأة رمزًا للقوة الإخصائية الكونية في الضمير الجماعي للإنسان القديم (وليس بتصوّرها الذكوريّ الحديث)، إذ كانت إلهًا في الأساطير وسيّدة على الأرض. يعود ذلك لمركزيّة دور الأم في التنظيم الاجتماعي المشاعي حيث لا أحد ملك لأحد ولا من قيد على الممارسات الجنسية بين الرجال والنساء وبين بعضهما البعض، الأمر الذي جعل النساء المحددات الوحيدات للنسب، ووثّق التكوين الأموميّ للمجتمع المتمحور حول "حق الأم".[3] بناء على هذا الحق كانت تنتسب الأجيال الجديدة لمن ولدتهن وترث عنها، أما الأب فلم يلد ولم يورِث، وضعيّة قد يتعذر على مخيّلتنا المعاصرة تصوّره فيها. وبذلك هيمنت السياديّة النسائيّة على عدة قطاعات في اقتصاد المشاعات القديمة،; فكنّ صانعات الفخار، وكنّ الناسجات للجلود، ورحن يبحثن عن الأعشاب الصالحة للأكل ومن ثم للشفاء فصرن الطبيبات، ووسط هذا كلّه مضى "الجنس الناعم" في تبوء عرش الجماعة، وكنّ قوّامات على الرّجال.

لن نسهب كثيرًا في هذه النوستالجيا الأموميّة، لكن لا بدّ من الإارة إلى استمرارية آثارها في المجتمعات الأبوية المتأخرة. ومن ذلك يستحضر السوّاح في "لغز عشتار" عقود زواج مصريّة قديمة والتي سردت على لسان الرّجل "منذ اليوم أقر لك بجميع الحقوق الزوجية، ومنذ اليوم لن أتفوه بكلمة تعارض هذه الحقوق، لن أقول أمام الناس بأنك زوجة لي، بل سأقول اني زوج لك منذ اليوم لن أعارض لك رأيا وتكونين حرة في غدوك ورواحك دون ممانعة مني، كل ممتلكاتك وبيتك لك وحدك وكل ما يأتيني أضعه بين يديك".[4] ليس المثال هذا (فقط) بفشّ غليل جندريّ مننا، بل جاء ليبين تأثير نمط الإنتاج وتقسيم العمل على ماهيّة الأنواع الاجتماعيّة ومدى سلطاتها.

كما نعلم جيّدا، لم تستمر الحياة الاجتماعية الأمومية إلى الأبد، وبعدما تفتّتت الملكية الجماعية للأراضي مع تزايد الثروات واستقرار نمط الإنتاج الزراعي، أخذ التمرحل الجديد على أعتاب التاريخ المكتوب يزج الاقتصاد الجماعي إلى اقتصاد فردي ذكوري يمضي نحو الملكية الخاصّة، لتتمخض عنه نظم أسرية جنسانية جديدة، وتنشأ بأعقابه تقسيمات عمل استندت عليها المجتمعات منذ ذلك الحين فصاعدًا. شيئًا فشيئًا، ولأسف نساء العصور التالية، ظهرت العائلة الأحادية المغايرة، كمؤسسة ضبطيّة، وتم إحكام سيادة الرجل عبر أبوة ثابتة لا جدال فيها من أجل تمليك وتوريث أبناء المجتمع الجديد: المجتمع الأبويّ.[5]

بالمال ولا بالعيال: النظام الرأسمالي والبنية الأسريّة

تعرّف سيلفيا فيدريتشي الرأسمالية كالنظام الاستغلالي الأول الذي "يرى في العمل، بدلا من الأرض، الشكل الأساسي للثروة"[6]، هذا الانتقال هو بالضّبط ما أدى الى مأسسة السلطة على الجسد النسائي (بشكل خاص) وطوّع عمالته غير المأجورة، ونظّم إنجابه للأيدي العاملة القادمة، وهو أيضًا الذي استمرّ بالمحافظة على محاصرته في الأسر المغايرة الأحاديّة.

يتوجّب علينا التأكيد أن البنية الأسريّة، بتقسيم العمل المتعلّق بها، ليست فقط متغيّراً أساسيّاً في تعقّب التشكّلات الجنسانيّة للمجتمع، بل في هندسته الاقتصاديّة-إنتاجية. بالتالي الاعتقاد السائد الذي يرى بالحيّز الخاص عالمًا عاطفيّا منفصلا عن الحيّز العام، نعود إليه بعد نشاطاتنا السياسيّة وبعد مساعينا في التغيير والانعتاق الاقتصاديين، هو وهم تنعم به السّلطة فيتردّد عبر ممارسات المتسلّطين لتعاني منه النساء العاملات تحت ثقل المنظومة الصامت داخل الأسر (بفتح الألف وتسكين السين أو ضمّ الألف وفتح السين) وخارجها.

ستحاول الأسطر التالية تمحيص النظر في العوامل المركزيّة التي تؤثّر على مفاهيم الجنس والجنسانية في ظل النظام الرأسمالي، بالسياق الأمريكي تحديدًا، وذلك باعتباره بوقًا للعولمة التي اكتسحت الجنوب، ولعبت دورًا عابرًا للحدود داخل الجدليّة بين الذهنيّة والممارسة الإيروسيّة.

لا يسلُم الجسد من نهش الرأسمالية، خصوصًا إذا وقع خارج معقل الرجولة المغايرة البرجوازيّة. يتّسم هذا النّهش، منذ القرن السابع عشر، بتحوّلاته في مرحلة الرأسمالية الحديثة إذ يتقلّب داخل حقبها الفرعيّة. حتى القرن التاسع عشر، ظلّ النظام الرّأسمالي في أمريكا مرتبطًا ارتباطًا عضويّا بالأسر المغايرة البيضاء، أينما تكدّست الملكيّات الخاصّة وادّخر رأس المال بتوزيعه الطبقي غير المتكافئ. حتى ذلك الحين كانت العائلات وحدات اقتصاديّة تتمتّع بنوع من الاكتفاء التكافلي من خلال قوّة إنتاج داخليّة، بمعنى أنها كانت تسدّ حاجاتها عبر قوّتها الإنتاجيّة، فتوكّلت صناعة المنتوجات المنزلية كالصوابين والشموع، واقتاتت على محاصيل الزراعية التي عالجتها بنفسها، وبذلك استهلكت ما أنتجت. وبينما قبعت النّساء في الحيّز الخاص وراكمت العمالة غير المأجورة، تحرّك الرّجال بتحكّم كامل في الموارد في الحيّز العام.[7]

داخل اقتصاد العائلة النووية الأمريكيّ يعود اسم "العائلة" على مسماه; وحدة اجتماعية مبنيّة بشكل كليّ على اقتصاد الإعالة، وملاذ ينتظم داخله كل من يستطيع ذلك،[8] ليحتمي بمأمن مادّي[9] وأخلاقي داخل المجتمع الرأسمالي، ذلك بغض النظر عن ميوله أو عن الرغبة في التمأسس. أمّا الأجساد التي جنحت عن إملاءات مؤسسة العائلة والزواج فلا نبالغ إذا قلنا أنها هدّدت نمط الإنتاج الرأسمالي واقتصاد العائلة تهديدًا مباشرًا، فكيف للطبقات الحاكمة أن تراكم رأس مالها وملكيّتها الخاصّة بدون حماية مفهوم ودور العائلة في الذهنيّة الجمعيّة؟ تبعًا لذلك، أن تمارسي ممارسات مثليّة علنا، وأن تخرجي عن تعليمات المرأة الصالحة يعني أن تزعزعي أسس المنظومة الرأسمالية المادّية، وهذا سيفضي بكِ وبأمثالك إلى حالة جمعيّة من الاستثناء. باستعارة من جورجيو أغامبن، ترتبط حالة الاستثناء هذه بال"هومو ساكر"،[10]وهو"المخلوق غير المستحق للحياة" بحسب القانون الرومانيّ القديم. يفترض منطق هذا القانون القديم أنه في انحراف الهومو ساكر عن السلطة يكمن تبرير قتله، فالتخلّص منه يكون بمثابة فعل مشروع مقونن وممأسس. وبالفعل، في سياقنا تم تجريم جنسانيّة "الهومو ساكر المنحرف" للحفاظ على الهيمنة المغايرة وعلى دورها في مراكمة رأس المال. وبعد أن جرّم القانون الجنائي الرّوسي الرّجولة المثليّة عام 1832، قامت ألمانيا بذات الخطوة عام 1887، وكانت قد وضعت الولايات المتّحدة قوانين عدّة عبر ولاياتها منذ منتصف القرن السابع عشر فصاعدًا.[11]

ولعلّ اختيار الخطاب البصري أدناه لتسويق القهوة (نعم القهوة) في خمسينيّات القرن الماضي في السوق الأمريكيّ يبرز تكلفة التمرّد على سلطة "ربّ المنزل" بمجرّد شراء القهوة غير المناسبة، ويرسم صورة مجازيّة يتقمّص بها النّظام الرأسمالي دور الرّجل الذي يعنّف المرأة المتمثّلة بأجساد الاستثناء حين تنحرف عن متطلّبات الرأسماليّة من مجتمعها. لا حاجة لدخول عالم الاستعارات والتشابيه لوضع هذه المقاربة، فهذه الصورة ليس بمجرّد صنع المخيال الذكوريّ المازوشيّ أو خطاب تسويقي بائس لمقولة "ضرب الحبيب زبيب"، بل هي تمامًا ما قوننه النظام الرأسمالي. حتى بداية القرن العشرين سمحت قوانين أمريكا الاستعمارية ضرب الزوج لزوجته، طالما لم يخلّ ذلك في أيام الأحد وساعات معيّنة من المساء. وبحسب القانون الإنجليزي حتى 1937 سُمح للأزواج بحجز زوجاتهم في حال رغبن هجرهم.[12] يمكننا إذا القول، دون ارتباك وتلعثم، إن للرّجولة المغايرة دوراً محورياً في النظام الرّأسمالي يتماسك عبره نمط الإنتاج وتتوطّد من خلاله السّلطة الأبويّة.


الرأسمالية الورديّة: سياسات من الاحتواء وأقطاب من الفيتيش

فجرّت الثّورة الصّناعية حدود النواة الإنتاجيّة في العالم الشمالي وبدأت الرأسمالية تخلق واقعًا حديثًا ضاربة فيه جذوراً عقائدية جديدة لتضمن اجتياحات اقتصادية وتوسّعية جغرافية لم تحقّقهما من قبل. إثر تسارع إيقاع الإنتاج الرأسمالي في الشمال الصناعي تفاقمت صناعات واستثمارات تجارة المنتوجات، وشاعت أسواق العمل المأجور، ولم تمض هذه التغييرات الاقتصاديّة بريئة من التحوّلات الأيديولوجيّة المجتمعية. وبسياقنا، مفصلت الحاجة الملحة لزيادة كل من العمل المأجور والاستهلاك حقبة جديدة، نشهدها اليوم تعيد صياغة مفاهيم الجنس والجنسانية في الذهنية المعولمة.

بما سنسميه ب"الرّأسمالية الورديّة" يستلزم الإفراط في الإنتاج الصناعي تصاعدًا مستمرًا للاستهلاك الجماهيريّ، وعبر آليّات التّسويق يبزغ أمامنا اقتصاد استهلاكي يتحرّك بدافع الشّهوات والرّغبات وليس الحاجات الأساسيّة، فنحن اليوم نعلم جيّدًا أننا لا نشتري السلع بدافع الحاجة الموضوعيّة وإنّما الرّغبة التي قد تبلغ حدّ تحقيق الذات. والذات هنا جمعيّة (رغم أنها "مفردنة" نيوليبراليا) غارقة بهاجس الاستهلاك الوجوديّ سعيًا وراء متخيّلات السّعادة والاكتفاء. ومع التفاوت الشديد بين ما يتمناه المرء وما قد يدركه وفقا لانتمائه الطبّقي، إلا أن مقولة "أن تملك يعني أن تكون" هيمنت على وعي المجتمع بأسره.

ما لهذا كلّه ولجنسانيّة الجسد؟ للإجابة على هذا السؤال يجدر التمّعن جيّدًا في السلعة، بغض النظر عن نوعها أو سعرها، وإعراب موقعها من المنظومة الرأسمالية واقتصاد الشهوات. فما يميّزها هو وقوعها بين قطبين من "الفيتيش"،[13] أي حالتين متخيّليتين، يكون الفيتيش الأول مرتبطًا في صيرورة إنتاج السّلعة والثّاني في استهلاكها.

في القطب الأول، تكون عمليّات انتاج السّلع مشروطة بصيرورة روتينيّة من التشييء والتعرية الرغباتية لجسد العاملة والعامل، وذلك ابتغاء استخراج أكبر قدر من فائض القيمة ضمن العمل المأجور، فلا تتجرّد أجساد الطبقة العاملة من الجنسي والجنساني فحسب بل تتشيّأ بالكامل. يحاكي هذا الاغتراب اليومي الجاثم على الأجساد العاملة مصطلح "الاحتياجات الممنوعة" لدى ديبورا كيلش أو ما يمكننا إدراجه بندا ضمنيّا في عقود العمل المأجور، وما لا مفرّ للطبقة العاملة منه.[14] أمّا الفِتيش (المتخيّل) فيكمن في تناسي هذا كلّه لحظة الاستهلاك، وهو ما يشير إليه ماركس سريعًا في رأس المال بما يعرّفه ب"فِتيش السلعة" .(Commodity Fetishism)[15]تتكثّف هذه الحالة المتخيّلة في تجريد السلعة من الاستلاب الجسدي المقترن بها لنعيش تجربة استهلاك نقيّة من الهموم العمّاليّة، ولنبلغ نشوة الملكيّة الخاصّة دون أن نستشعر بصمات، أيدي، ووجوه الطبقة المغتربة عن ذاتها. وبكلمات بيير بورديو "بين "شانيل" وعلامتها التجاريّة تقبع منظومة كاملة من علاقات القوى المجتمعية"[16] ولو أنها غير مرئية ومحجوبة عن وعينا المستهلك.

في عودة إلى التناسي، بتعريفه للفتيش يتناسى ماركس التشييء المعاش داخل العمل المنزلي غير المأجور كما أنه خارج الواقع المادي المباشر. بالطبّع، تختلف صورة عاملة المنزل عن عامل المصنع، فهي أفظع بكثير! عدا عن اختلائها في الحيّز الخاص، لا من دوام محددّ ينهي من استغلالها ولا تنال حتى من أجور بخسة تنقلها من حالة استعباد تقليدية إلى استعباد حديثة، هذا إلى جانب اغترابها هي الأخرى تحت وطأة العمل المأجور في الرأسمالية الحديثة، فكيف لهذا كله أن يكون مدعاة للتغافل والتناسي بدلا من الحقد المضاعف في وعينا الطبقيّ؟!

بالمرحلة اللاحقة لعمليّة الإنتاج، داخل محرّكات الاستهلاك الجماهيرية يمكننا تشخيص القطب الثاني من الفيتيش.

مقابل تصاعد الإنتاج الصناعي أخذت السّلع تنهال عن رفوف الأسواق، وعندما تخبّطت الشركات الخاصّة في كيفيّة نقل الجماهير إلى الإفراط في الاستهلاك، بدافع الرّغبة لا الحاجة، بدأت تفوح رائحة فرويديّة اخترقت الأسواق بمعظم صناعاتها. مستشار الشركات، ادوارد بيرنيز، كان من أول عقول القرن العشرين التي وظّفت النظريات الفرويدية لتحريك شهوانية الجماهير الجنسية نحو مراكمة الأرباح، فكما ألهمه معلمّه وعمّه سيجموند فرويد بذاته، تحكم الإنسان شهوات لا منطقيّة متأججة تحت السطح قمعتها الحضارة في أوروبّا.[17] انطلاقًا من هذه القناعة حثّ برنيز الشركات باستفزاز كبت الشهوات المدروس لتحويلها رغبة عنفيّة استهلاكية تتدفّق عبرها الجماهير نحو سد نهم السوق التوسّعي. يتمظهر ذلك جليّا في الخطاب البصري التسويقيّ حيث تُبثّ تعليمات يوميّة في تأجيج جنسانية الجسد المستهلك.

على سبيل المثال، عندما سعت الشركات الأمريكيّة في خمسينيّات القرن الماضي لتسويق السجائر للجمهور النسائي واجهت الحظر الاجتماعي الذي منع النساء من التدخين في الحيّز العام. للتخلّص منه ولتكسب شريحة مستهلكة جديدة، نصح بيرنيز اتباع النظريات الفرويديّة وربط تسويق التدخين النسائي بمركزيّة القضيب وبما عرّفه فرويد مرحلة "الحقد القضيبي" أو"Penis envy"[18]، أي مرحلة إدراك الأنثى لدونيّتها الجندريّة أمام الرّجل الذكوريّ المهووس بفحولة متمركزة بالقضيب. بناء على التشخيص الفرويديّ للحقد القضيبي، تم تسويق الفكرة انه مع فعاليّة التدخين النسائيّة تمارس المرأة حالة من التمرّد وتحقيق المصير، محصّلة بذلك القضيب المجازي (السيجارة) الذي لم تملكه قط. في اللحظة المتخيّلة هذه، أي لحظة شراء وإشعال السيجارة وسط القناعة اللامنطقية أنه بها يستعاد تحقيق المصير، يكون مربط الفيتيش!

على نفس المنوال، تم تسويق الكثير من السلع، فارتبطت مثلا السيارات بالشهوة الايروسية (الليبيدو) والأنا العليا (السوبر ايغو) الذكورية، وعمل الخطاب البصري التسويقي على ترسيخ الرجولة المستفحِلة والأنوثة المُغَرَّضة، وبالحالتين تأجّجت شهوانية الأجساد المستهلكة لمراكمة أرباح الشركات الخاصة في أنحاء العالم. وهكذا، بمجرّد النّظر الى السّلعة، من إنتاجها وحتى استهلاكها، تتعرّى أمام النّاظرة أجساد مشيّأة في القطب الأوّل ومؤجّجة في الثّاني تخضع كلّها، بتضادّها، لمنظومة واحدة تسلب العمال إنسانيّا لتراكم فائض القيمة من ناحية وتؤجج المستهلكين جنسيّا لتجني أرباح مبيعاتها من ناحية أخرى.

تناسي الأجساد المغتربة في منظومة العمل غير المأجور والمأجور إلى جانب الاشتهاء المفرط في الاستهلاك ليس بحدث أو حالة عابرة، إنما هو لازمة حسّية يوميّة تتأبّد في الأيديولوجيا الجمعيّة المتشكّلة على يد وفي خدمة الطبقة المسيطرة.[19]


من "الهومو ساكر" إلى "الهومونورماتيف"!

لا تكتفي الرأسمالية في استحكام التسلط الأيدولوجيّ فلها وقعها على الممارسات والهويّات الجمعيّة كذلك. وبعدما صعّد النظام الرأسمالي الإنتاج الصناعي والاستهلاك الجماهيري وتيرة وكمّا، لم تعد الغريزة الجنسية رهينة إنتاجية، ووهنت الدوافع الماديّة للحفاظ على العائلة كبنية مركزية تكترث بها الرأسمالية الحديثة.[20] فسلطة عائلة، كسلطة الدين والدّولة، كينونة متغيّرة، لا تتحرّك الرأسمالية قدمًا بدافع الحفاظ عليها، فهي غير ملتزمة لها ولأي من أدوات الإنتاج طالما لم تعد في خدمة مصالحها ومساعيها. وكما تنبّه ماركس وانجلز إن النزعة نحو التراكم تعني إعادة صياغة المؤسسات التي خلقتها الرأسمالية بنفسها، وأنه “لا يمكن أن تحافظ البرجوازية على بقائها دون إدخال تغييرات مستمرة على أدوات الإنتاج، وبالتالي على العلاقات الإنتاجية ومعها العلاقات الاجتماعية بأسرها".[21]

قد لا ندرك مدى تأثير أدوات الإنتاج الاجتماعية على ممارستنا إلا عند زوالها. في الوقت الذي لم تعد العائلة المغايرة شرطًا وجوديًا للطبقة البرجوازية ومأوى لرأس المال، أتيح انتظام الميول المثلية لهويات فردية في الحيّز العام لمدن العالم الشمالي على الأقل. ومثلما بيّن جون ديميليو في "الهوية المثلية والرأسمالية"، سمحت الرأسماليّة الورديّة بالتنظيم الهوياتي المثلي الأمريكيّ، لا بل يمكننا هنا القول انها احتوته ومدّت قوس القزح من سان فرانسيسكو وحتى تل أبيب. بينهما، نتجت حالّة تسمّيها ليسا دغان بال"new homonormativity"، أي المعياريّة المثليّة الجديدة، وهي تقبّل الهويات الانسيابيّة الجنسيّة والحركات الكويريّة على شرط اتّباعهم نهجًا ثقافيًا غير مسيّس، وسقفًا مطلبيّا يمكن الاستفادة من سلعنته وتسويقه. وهكذا، يُنقَل الهومو ساكر الى بوتقة جديدة من الهومونورماتيف. وبخلاف مع ديميليو، لا نساوي بين الهويّة والميول المثلية، إذ إن الأخيرة كأي ميول ايروسيّة، ليست بنت مرحلة تاريخيّة أو مجتمع ما، هي جزء دائم في المجتمع البشريّ وذلك بغضّ النّظر عن مدى إقصائها خارج الحيّز العام أو حتّى عن إمكانية ممارستها، بالمقابل يتوّلد الانتظام الهويّاتي كتعبير اجتماعيّ عند لحظات اللقاء ما بين علاقات القوى الجمعية والشروط الماديّة المتغيّرة عبر التاريخ.

ليس المراد هنا التقليل من إنجازات الحركات الكويريّة الراديكاليّة وإلغاء تأثيرها، ولا يجوز تناسي رهاب المثليّة الملازم للعالم الشمالي المعاصر، لكن رصد سياسات وصناعات الاحتواء الرأسماليّة وفهم محرّكاتها هو ما لا غنى عنه في العمل التحرّري أينما كان.

وما يسترعي الانتباه، هو استمرار جدليّة التناقض ما بين الرأسمالية الحديثة والأسرة بهيئتها الجديدة. من جهة، تفكّك الرأسمالية الدعائم المادية للأسرة متيحة مساحات جديدة خارجها، ومن جهة أخرى تحفظ مكانتها من حيث هي مضخّة الجيل العامل القادم. لكن بالنهاية، مازالت مخلّفات الأسرة الأيدولوجيّة مرسّخة عميقا في العقلية المجتمعية، ومنذ تأسيس الأبوّة الاستعماريّة على يد "الآباء المؤسسين" (The founding fathers) وحتّى اليوم، ظلّت للعائلة مكانة رمزيّة ذات أهمية بالغة. دلالة على ذلك عندما سئل المرشّح الأمريكي للانتخابات الرئاسية جون ميكين عمّا إذا كان باراك أوباما عربيّا أجاب ميكين بنبرة المتنافس المتعالي على المنافسة "كلا، أوباما ليس بعربيّ، هو رجل عائلة جيّد".

الجسد الفلسطيني: صنع محليّ؟

قد يكون مغرياً للبعض سلخ الحالة الفلسطينيّة عن المشهد المعولم والاستفراد بخاصيّتها الاستعمارية-الاستيطانيّة وبميّزاتها التاريخية، فتكون بناها التحتية أو تفاعلاتها مع النظام الرأسمالي مبعثًا للملل، وتشوب مقارنتها بنماذج أخرى في العالم الجنوبي شيئًا من التكفير، وكأن مسألة الحفاظ على تفرّد القضيّة الفلسطينية أصبحت أهم منها. وبحالنا، الإغراق في الخاصيّة الاستعماريّة وعزلها المصطنع عن حوافزها الاقتصاديّة وعن كونها جزءًا من نظام عالميّ يستدعي الهدم الكلّي، يُضبّب الواقع وينأى به أكثر عن بصيرتنا.

لا جدال حول وقوع الجسد الفلسطيني فريسة الكيان الصهيونيّ كونه نظامًا يجمع بين مطامع اقتصادية ومساعي استيطانية، إذ لا يكفي افقار الفلسطينيين الممنهج، واستلاب أراضيهم، واستغلالهم كأيدي عاملة رخيصة، فكانت ولا تزال هناك ضرورة لعمليات إبادة، وتهجير، ونهش جسدي ومعنوي مستمر، ليس فقط كأداة إرهابية ضبطية مثل أي نظام قمعي، إنما كشرط استيطاني أساسي. لكن لبنية الاستعمار الرأسمالية تأثيرات جسيمة أيضًا على الجسد المستعمر، وبسياقنا على جنسانيته كذلك.

إذا في عالم يسوده نظام رأسماليّ كونيّ التأثير هل من اختلافات جوهرية بين أجساد "الغرب" و"الشرق"؟ وإن وجدت، ما هو مداها؟ هل للجسد المستعمَر رواية ذاتيّة خاصّة؟ ماهي ومن يرويها؟

بداية، علينا التأكيد بأن الرأسمالية لا تتّخذ هيئة متجانسة في توسعيّتها الجغرافية، ولا تتناسخ عبر انبساطها ثقافات متطابقة أو أنسجة اجتماعيّة متماثلة، فكما يشدّد تشيبر فيفك لا يجوز استبدال كونيّة التأثير الرأسمالي على المجتمعات المستعمرة بالتجانس الثقافي.[22] ما يرغبه رأس المال عندما يتوسّع جغرافيًا هو إخضاع آليات الإنتاج الاجتماعي بما يلائمه وظيفيّا لا غير، وهذا وحده كافي أحيانًا كثيرة لإحداث تغييرات ملحوظة في أبعادها الاجتماعية والطبقيّة وإن لم تتطابق بالحذافير لتنصهر في قالب واحد معولم.

في العالم الجنوبي، ومع صعود الموجات الاستعماريّة والرأسمالية، خُلِقَت محميّاتٌ اقتصاديّة محاصرة ومهيّئة لامتصاص الاستهلاك وتوفير الموارد وإفراز الأرباح. لم ينته التّاريخ كما يدّعي فوكوياما، بل أخذ يروي انتصارات السلطات البيضاء التي هرولت "لإنقاذ" دول الجنوب المتأخرة والرجعية من "الانتخاب الطبيعي" في العالم المعاصر، وراح يسرد عن مستعمرات أقيمت باسم القيم الأخلاقيّة، والديموقراطية، والتقدميّة العلمانيّة. ما كان ذلك بالواقع إلا إقحاماً ممنهجاً لمشاريع تجارية استعمارية ومأسستها عبر آلة الدولة القوميّة الحديثة. ومع إعادة رسم حدود الجغرافيا المعرفية في السيّاق الاستعماريّ الرأسمالي الحديث، يقترن الإنتاج الكولونيالي بالإنتاج الرّأسمالي الإمبريالي اقترانًا بنيويًا، تقوم من خلاله الأنظمة الاستعمارية وال "ما-بعد استعماريّة" بضبط اقتصادي محكم لكل من الموارد الطبيعية والبشريّة: الضامن الأساسي والمركزي لصيانتها وإعادة إنتاجها. وفي فلسطين أضعف ذلك الإنتاج المحلّي وقضى بالكامل على أي محاولة لتقرير مصير جمعيّ يتجاوز الحكم الرئاسي الوظيفيّ.

هذه البنية التبعيّة هي أحد الأركان الأساسيّة "لنمط الإنتاج الكولونياليّ" بتعريف مهدي عامل، بمعنى أنه في السياق الاستعماريّ يرتطم نمط الإنتاج بصيرورة تشكّل مأزومة مستمرّة تعود لبنيته الاقتصادية الملجمة بتبعيّة إمبرياليّة.[23] فخاصيّات الاقتصاد الاستعماري بتحويل الفلاحين لعمّال موسميين بالأجرة، وإعاقة البروليتاريا الصناعية، الى جانب غياب طبقة رأسمالية صناعية، ليست بسمات من التحرّر الاقتصادي والإفلات من سطوة الرأسمالية بل هي امتدادات مشوّهة لها، تنقشع بوضوح في الفضاء المستعمًر وتصيغ التحرّكات المجتمعية داخله.

بالفضاء الفلسطيني تحديدًا يحبط هذا المدّ الرأسماليّ الكولونياليّ إيقاع التشكل الحداثي داخله ويبطئ، تغيّرات المجتمع الرأسمالي إلا أن هذا لا يعني أنه ينفيها أبدًا. وبالتالي، لا يستوقف الجسد الفلسطيني، كجسد مستعمر تأثيرات الرأسمالية الكونية. ولنا بذلك أن نستشفّ بعدين مركزيين يصقلان الجسد الفلسطيني المستعمر جنسيّا وجنسانيّا وهما النمط الأسري والحيّز الرّيفي.


النمط الأسري المستعمَرَ

كما سبق وذكر، تحدّد البنية الأسرية التخوم الجندريّة لأدوار أفرادها، انصاعوا لها أم تمرّدوا عليها، كما وتهندس أدائيات المجتمع الجنسانية وتقوم بعمليّة تنميط سلطويّة على صعيدي الممارسة والأيدلوجيا. بالحيّز الفلسطينيّ، تدّعي الأصوات الناقدة للسلطة الأسريّة وتلك المناصرة لها ادّعاءً مشتركا وهو أن العائلة والعشيرة الفلسطينيّة وحدة متراصّة يتعزّز تماسكها التقليديّ في وجه الاستعمار الحداثيّ. فالاعتقاد السائد يرى بالنمط الأسري الفلسطيني إرثا شعبيّا حيّا ذا جوهر ثقافيّ جامع للطبقات يقابله ضخّ ثقافي مضادّ يتدفّق من صلب السلطة الاستعماريّة الرأسمالية. الّا إن هذه النظرة ليست دقيقة فهي تتعامل مع العائلة كمتحجّر لا يتفاعل إلا وبيئته المحليّة، وتعتبر الأسرة الفلسطينية سدّا منيعا أمام الحداثة والغرب، لا أداة إنتاج اعتمدتها الرّأسماليّة نفسها وأدلجتها عميقا في ذواتنا. ذات الرأسمالية تطلّ الآن من جديد بزيّها الحداثيّ لتهدّد ما ثبّتته من ملاذ أسري وما حسبناه من صنعنا نحن.

ليس هنالك ثمة شكّ أن لعمليّات التذرير المجتمعي التي ينتهجها الاستعمار الصهيونيّ ولسياسات التجريد الماديّة والمعنوية المستهدفة للفلسطينيين وقعاً مباشراً على أجسادهم وفهمهم لها. إن الانكماش العشائريّ والاستفحال الرجولي، نتيجة مباشرة لحالة فقدان ماديّة ومعنوية تعيشها الرجولة المستعمَرة، والتي تجرّد الجسد من استقوائه الذكوريّ (تؤنّثه) في الحيز العام وتستفزّ ما يتبعه من استنفار دفاعيّ يتم تفريغه في الحيّز الخاص، هناك حيث لا من محاسبات ولا من قيود تذكر. وهذا تمامًا ما يبتغيه الاستعمار في سرّه، فبحال لم يندمج المستعمَرين عبر الأسرلة، من الأفضل أن ينشغلوا بانتماءاتهم الآخذة بالانقسام كانت جغرافية و\أو حزبية و\أو طائفية و\أو عشائرية. وبالنسبة للرجولة الفلسطينية المستفحلة فهي بمعظمها أداء مسرحيّ بالنسبة للكيان الصهيوني; لا يهدّد الاستعمار فتل الشوارب، ولا تربكه العنترة في الشوارع، وبالتأكيد لا يقلقه قتل أو تعنيف النساء الفلسطينيات، بل هو ما يدفع نحوه تعزيزًا لشرعيّته السياسية في "تحرير الفلسطينييّن من تخلّفهم العرقيّ".

إلا أنه حتّى مع هذه الانكماشات نحو الدّاخل والتعصّب العشائري الموطّد من قبل الاستعمار لا تحافظ الأسرة الفلسطينية على شكل ثابت ولا تنفذ من تأثيرات الرأسمالية ونظام العمل المأجور. بالتالي لا يدلّ تمسّك الخطاب المجتمعي بالأسرة بالضرورة على صلابتها بل يكون في الكثير من الأحيان ردّا مدافعًا عن ضعضعتها. إنّ تشكل التصدّعات في البنية الأسريّة التي أحدثتها الرأسمالية الحديثة في السياق الاستعماري يعمل ببطئ مقارنة بما نشهده في دول الشمال كما أمريكا، لكنه في صيرورة ظاهرة للعيان تتضّح أكثر بالمدن وأِشباه المدن في فلسطين. ومن هذا التصدّع الأسريّ ترصد لنا الإحصاءات في العقد الأخير وفرة من الدلائل، فشهدت الضفة الغربية وقطاع غزّة انخفاضًا في نسب المتزوّجين مصحوبًا بارتفاع في نسب الذين لم يسبق لهم دخول مؤسسة الزواج قط، فقد انخفضت نسبة المتزوجين من الرجال عام 1995 من 5603 إلى 5408 عام 2010 انخفضت لدى النساء من 59.1 عام 1995 إلى 5605 عام 2010.[24] أما بالنسبة لعدد حالات الطلاق المسجلة في المحاكم الشرعية في الضفة والقطاع (دون رصد حالات الانفصال)، فبلغت 8179 في عام 2015 و 7603 في عام 2014 مقابل 3449 عام1997.[25] وفي أراضي ال٤٨ شهدت نسب الطلاق ارتفاعًا نقلها من 6.3٪ عام 2002 إلى 7٪ عام 2012 (بحيث أن نسب الطلاق لدى الإسرائيليين تصل ال9٪).[26] وفي صحراء النقب تحديدًا، حيث تعمل آليات إفقار شرسة ومستشرية، كشفت معدلات الولادة الأخيرة عن تراجعًا حادًا من 8.7 في 2001 حتى 5.3 في 2013. في ذات الفترة، وسط ظروف مادّية نقيضة، ارتفع معدل الولادة الإسرائيلي من 2.5 إلى 3 ولادات.[27]

في ضوء المذكور، يقع الاستعمار في ورطة تضع مطامعه في شيء من التناقض، فيستفيد من تدعيم الانكماش الأيدولوجي العشائري الفلسطينيّ من جهة، ومن جهة أخرى يحثّ على تفكيك الترابط الاجتماعي بما يخدم منفعته الديموغرافيّة، فيقونن منع لمّ الشّمل، ويدفع نحو تخفيض معدلات الولادة. ولربّما أن تكون العقلية الفلسطينية موبوءة في التعصب العائلي وأن تلازمها في ذات الوقت ممارسات فعالة من التفكّك المجتمعيّ هي شهوة أخرى من شهوات المخطّط الصهيونيّ.

تماشيًا مع كل ذلك، يستمرّ تمظهر الوقع الرأسمالي الحديث في خصخصة الحيّز الخاص الفلسطينيّ وتسليعه. فما يمكن رصده في الطبقات الوسطى بشكل خاص هو أن اجتذاب المرأة الفلسطينيّة للعمل المأجور، كضرورة مادّية وليس كخيار تحرّري، إلى جانب عملها غير المأجور ولّد فجوات إنتاجيّة في الاقتصاد المنزليّ حيث أن التوفيق بين ما يستغرقه العمل المأجور وغير المأجور من وقت وطاقات أصبح استحالة مطلقة. وما إن تتوّلد هذه الفجوات الإنتاجية في يوم المرأة العاملة تهرول الرأسمالية في سلعنتها، فتشرع الشركات في خصخصة الحضانات وخدمات النظافة والطبخ معتمدة على عمالة نسائيّة رخيصة تنتهز بواسطتها فرص متجددة من مراكمة الأموال.

وفي ظل إضعاف السلطة الأسرية في فلسطين وفي الإقليم تتموّه حدود الممنوعات وتُخلق مساحات جديدة، ولو صغيرة، يمكن للجسد بها أن يهجر تعليمات الرجولة والأنوثة الملتزمة. لذا لا يفاجئنا اضطرار شخصيّة قياديّة محافظة كحسن نصرالله لتداول التفكّك الأسريّ علنًا والتحذير مما يصدّره الغرب ك"ثقافة المثلية التي تعمل على منع تكوين العائلة". الملفت للانتباه بخطاب نصرالله هو أولا استخدامه غير المتكلّف لزوج الكلمات "العلاقات المثليّة" كمن ينتقيهما بكامل الأريحية من خزينته اللغويّة، وثانيا اختيار توقيت خطابه في منتصف آذار في "يوم المرأة المسلمة" أيامًا بعد "يوم المرأة العالمي". لسبب ما، جهله أم تفطّن اليه، لم يعتبر نصرالله أياً من هذا منطقاً غربياً دخيلاً على طهارة نواياه.

بعيدًا عن دواخل حسن نصرالله، هناك، كما هو واضح، انشغال سياسيّ (لحزب الله) بالتفكّك الأسري. وكيف له ألا يكون عندما تشكّل القبليّة أسسًا صلبة في بناه الحزبيّة فلا يكون حرصه على التماسك الأسري إلا درءًا لزعزعة هيكليّته الحزبيّة ولا سيّما سلطة الأنظمة الداعمة له. لسنا بحاجة للاجتهاد الفكري للمقاربة بين مصطلحات نصرالله وتغطيات النظام الأسديّ الإعلامية إبّان الثّورة السورية عام 2011، وخير مثال هو أحد الشعارات التي نصت على أنّ "التماسك سر البقاء: الاحتجاجات لم تنجح في تفكيك عائلة الأسد".[28]

نهاية، فيما يخص النمط الأسري المستعمر من المهم أن ننظر إلى العوامل الجندريّة والطبقيّة وتأثيراتها المعقّدة على سلوكيّات المأسسة في كل من الزواج والإنجاب، بحيث أنه يمكننا التعميم إلى حدّ ما أن غلاء المعيشة وثقل العمل المأجور يؤخرّان جيل الزوّاج بشكل ملحوظ في صفوف رجال الطبقات العاملة مقابل أبناء الطبقة البرجوازيّة وأصحاب قدرة تمويل الزوّاج في سنّ مبكرّ نسبيّا.[29] في هذه الأيام نكاد لا نرى نفس الإقدام لأبناء الطبقات المفقرة على الزواج حتى منتصف عشرينياتهم إلا إذا حثّت عائلة الزوجة على ذلك وكانت قادرة على الدعم المادي. وهذا أيضًا ما لحظناه في انخفاض مستويات الإنجاب الحادّ في آخر عقدين،[30] فالكلفة البشرية والطبقية كافية لتغيّر الأنماط المجتمعية دون وسيط. أمّا في الشقّ النسائي، فتختلف الصورة بعض الشيء، إذ إنه ضمن الارتفاع الكلّي لمعدلات سن الزواج لدى النساء ما انفكّت نساء الطبقة العاملة تتزوّج في سنّ يسبق نساء الطبقات الوسطى والبرجوازية بفرق واضح، وذلك لأسباب عدة لن نخوضها هنا لكن أهمها هو ارتهان نساء الطبقات المفقرة في الاقتصاد المنزلي وتعلّقهن النسبيّ في دخل السلطة الأبوية وبالتّالي تحوّلهن إلى عبء مادّي يُخفّف عند الزواج.


المدينة المفقودة: المشهد الرّيفي الفلسطينيّ

وسط هذا التناقض الصيروريّ بين الأصالة والحداثة أو بتعبير مهدي عامل "بين الأمانة للذات والأمانة للعصر" يعلو شبح المدينة المفقودة ويطوف مضطربًا داخل الوجدان الفلسطيني الجمعيّ. فالانعطاف التاريخيّ الذي أحدثه الاستعمار نزع الفلسطينيّ عن بيئته الزمكانيّة وسلب منه وعود المدينة الفلسطينية، وإن كانت متخيّلة. ومن خلال إجهاض المركزيّة التجاريّة للمدينة الفلسطينيّة، ونهشها ديموغرافيّا، وعزلها عن المدن والعواصم المحيطة بها، نتج مشهد عمرانيّ ريفيّ محاصر يتوسّع بتعداده السكّاني مكوّما المزيد من الاسمنت دون أن يبلغ التكوّن الحداثيّ للمدينة. وهو الأمر الذي أنتج عقدة ريفية جمعيّة أصابت المخيّلة الفلسطينيّة فغزتها أحلام تحت عنوان "لو لم تحصل النكبة"، واعتلتها أيقونة حداثية متخيلة ليافا ولحيفا تتبعها أحيانًا أمسيات رومانسية على ساحل بيروت.

إن غياب المدينة الحديثة كما في رام الله ونابلس وغزة إلى جانب فقدان السيادة على حيّز المدن المستعمرة كيافا وحيفا وبئر السبع، يلعب دورا مركزيًا فيما يتيحه الفضاء من تحرّكات اجتماعية وما يفسحه من مجال ينعتق فيه الجسد عن سلطة الرقابة الريفية. لكن في الاحتدام الحاد بين المدينة المتخيلة والواقع الريفي تنشأ حالة مركّبة يعيشها الفلسطينيّ والفلسطينيّة. ورغم تداعيات الغربة الموجعة في الوعي الفلسطينيّ يتوق الجسد أحيانًا للذّوبان في صخب المدينة والاغتراب داخلها. يعود ذلك للاغتراب المعاش بالمدينة ولتجربة الخلاء النفسي الذي يمكن للذات به أن تختبر حدود أدائياتها وتتمرّد عليها أو أن تتقمّص أدوارًا جديدة وتطلّ بهيئة مختلفة بعيدًِا عن مُشاهِد يعرفها وعن تكلفة اجتماعية تتكبّدها. وحتى عندها قد تلازم أجساد الاستثناء حالة من هوس المراقبة فتتسلّح الكثير من الفلسطينيّات مثلا بنظرات متفقّدة تتفحص الحيّز قبل ان تسلّم نفسها له. لكن مع هذا "النعيم الحداثي"، وفي المدن المستعمرة الأكثر حداثة في فلسطين، باللحظة التي تنتقل هذه الأدائية لحالة جمعية مسيّسة تهدّد أركان السلطة الرأسمالية الاستعمارية تهديدًا مباشرًا، تعود الأجساد فورا إلى خانة الهومو ساكر فيسترجع الاغتراب طعمه المرّ، وتستعيد التكلفة دمويتها.

من هنا، لا يتماثل ظاهر الشيء بماهيّته. وما شعور التفوّق على منظومة الرقابة إلا وهمًا تنتجه المنظومة بنفسها. يكون المنطق الرقابي وراء الهندسة المعمارية للمدينة الحديثة ووضعيّة الأجساد المستعمرة فيها شديد الأحكام. بمعنى أن تقسيمات الشوارع، والإنارة، والتحريش، وإحداثيات المراكز التجارية، ومراكز الشرطة، وتقسيمات الأحياء الطبقية-عرقية كلها، لا تكون منثورة عشوائيًا كما في عمل فني ما بعد حداثيّ، بل هي مدروسة ومعتمدة تعزّز ضبط ورقابة وربح السلطة الاستعمارية على ومن الأجساد داخلها. دون تجاهل ذلك، في العالم الرأسمالي اليوم بوسع المدن استقطاب بما يكفي من العمال والطلاب لتتكون، بظل ظروف وقضايا جامعة، حالة غليان شبابيّة تدفع نحو إنتاج ثقافي وسياسيّ أكثر غزارة وانتشارا من ضواحيها. يمكن ملاحظة ذلك بانعكاسات محدودة في المدن وأشباه المدن بفلسطين. وبالنسبة ليتامى "المدينة المحرّرة" في فلسطين، ظلت المدينة ممتحفة مجمّلة في حيّز فوق زمني يجوب طيفها الرّومانسي عبر المسرد الثقافي الفلسطيني حتى يومنا هذا.


تابوت الخاتمة

كثيرة هي الأدبيات الما بعد حداثية التي قدّمت قراءات في الممارسات والهويات الجنسية على طبق ثقافوي يتخذ بنى الثقافة الفوقية انطلاقةً ومصبّا للتحليل، ويكتفي بحركة نقد دائريّة مأسورة في الإفرازات الثقافية للمجتمع بوصفها "المحرّك الأساسي لصراعات القوى".[31] إلا أن القناعة أن الجنسانية تتمفهم، على نحو حصري داخل صيغتها الثقافية ما هي إلا ضربًا من الهذيان، تعرقل مسيرتنا المعرفية التحررية وتعيق إدراكنا لقدرتنا على الإدراك. وبسبيل الخلاص المعرفي، عندما نلجأ إلى بعض الكتابات التنويرية والتحليلات المادية المعاصرة، نكتسب منها تأسيسا هاما في التحليل الاقتصادي، لكنّها غالبا ما تكون مصابة بفقر نسويّ عندما، أو بحال، تطرّقت للجنسانية، فإما تموضع العمالة النسائية والحيز الخاص على هامش الرأسمالية، أو تَغفل دور الرجولة المغايرة في الحفاظ على الهيمنة الاقتصادية، على الأقل حتى أولى مراحل الرأسمالية الحديثة.

بالواقع، يؤكّد لنا الإمعان التاريخي الجينيالوجي للجنسانية، أنه لا يمكننا إلا أن نعزوَ أساس التحركات المجتمعية المجنسنة للعوامل الاقتصادية والقواعد المادية المنظمة لها. إن أنماط الإنتاج ببناها التحتية، وتقسيم العمل الناجم عنها، وإن كانت تبدو غير مرئيّة، تؤثر تأثيرا ملموسا على المفهمة الديناميكية (المتغيّرة) لشهوات الجسد، والأدائيات الجندرية، وما يتبعها من عمليّات مأسسة، وآليات صهر للهويات المنبثقة عنها. لا نقصد بهذا وصف القواعد المادية قالبا مجمّدا لا-تاريخيا أو إلها مُنزلاً ذا قدرة حسم اجتماعية مطلقة. على العكس تماما، على تحليلنا أن يكون نقديّا حيّا يتتبّع عمليات التفاوض والتناحر الجارية عبر الصراعات المجتمعية وانعكاساتها، كانت مباشرة وفورية أم آتية وفي قيد التشكل.

وبسياقنا الفلسطينيّ، يتخبّط الجسد الجنوبي، بين النظام الرأسماليّ الحديث والسلطة الاستعماريّة بكلّ تجلياتهما، فقد تظهر تناقضات داخل حركة التفاعل ما بين مدّ السياسات الاستعمارية وجزر كونيّة التأثير الرأسماليّ لكنّها لا تكون اختزاليّة، بمعنى أنّ الأولى لا تأتي نفيًا للثانية، فعلينا أن نعي أنه لا من تضادّ بنيويّ بين جوهر الرأسماليّة العالمية وأذرعها الاستعمارية في المنطقة.

وبمساعي التحرّر منهما تبرز ألغام أيدولوجيّة تارة وتكتيكيّة تارة أخرى، فترسو نفس التساؤلات المزمنة في أولويات التحرر، أو بالأحرى ثانوية المسائل الاجتماعيّة والطبقيّة أمام "السياسيّة" بتعريفها الضيّق.

وبينما تحتدّ التحسّبات حول حدود الاستفزاز المجتمعيّ المحمول وذاك المرفوض دون أن يكون هناك استفزاز مطلوب، يتم إلحام الفكر النسويّ المسيّس بالدّاء النخبويّ ليخفت صوته خجلا ويطأطئ رأسه تواضعًا قبل تجذيره عملا سياسيًا تعبويّا. وكأن محاكاة القمع الذكوريّ في صيرورة التحرر الوطني لا تمت لتجارب المجتمع بصلة، أو أن الجسد الشعبي هو جسد فوق جنسانيّ له رواية واحدة متجانسة لا يحتقن داخله قهر نسوي أو حقد طبقي في يوميات معاداته للاستعمار.

بالحديث عن "الفكر الناقد" و"العمل السياسي الجذريّ" ليست القضية في التعابير المختارة ولا في مداها اللغوي، بل بالمعنى المفاهيمي الذي تحمله وبرؤيتها التحريضية نحو عملية تحويل ثورية لبنية علاقات الإنتاج القائمة. إن الهدم الشامل للاستبداد الاستعماري يستلزم فكرًا ناقدًا قادرًا على فهم سلطويّة نمط الإنتاج الرأسماليّ ووكلائه وعلى شحذ الوعي النسوي-الطبقيّ كقوّة دفع للنضالات الشعبيّة وكحجر أساس في الصراع الأيدولوجيّ ضدّ العقيدة الصهيونيّة.

عند دقّ المسمار الأخير في تابوت الخاتمة، سنختار ألا ننهي بمقولة مهدي عامل المستهلكة "إما إن يكون الفكر نقديًا وإما أن يكون مخصيًّا" ولن نكون قاتلات للبهجة بالتساؤل عن مصدر الهوس الذي ما زال يصرّ على ربط الإخصاء الذكريّ بالعجز الفكري، بل سنكتفي بما ورد في السطور السابقة وما تقدّم بينها.


هوامش

  1. بحسب فرويد إن "كافة الطاقة التي ينطوي عليها الجهاز النفسي إنما تصدر عن الغرائز والدوافع التي فطر عليها الإنسان". فرويد، سيغموند، ما فوق مبدأ اللذة، ترجمة: اسحق رمزي، دار المعارف، مصر. ص29
  2. انجلز فردريك(2011)، أصل العائلة والملكيّة الخاصّة والدّولة، ترجمة أديب يوسف شيش، دار التكوين، دمشق. ص١٧.
  3. لغز عشتار: الألوهة المؤنّثة وأصل الدّين والأسطورة، دار علاء الدّين، دمشق. ص٣٥
  4. السواح،فراس ، لغز عشتار: الألوهة المؤنّثة وأصل الدّين والأسطورة، دار علاء الدّين، دمشق. ص٣٨ و٣٩
  5. في كتابهما الأيديولوجيا الألمانية يؤكّد ماركس وانجلز انّ الانتقال من الاقتصاد الجماعي للفردي و"انفصال المجتمع الى أسر مفردة متخالفة، يتضمن بصورة متزامنة توزيع العمل ومنتجاته… وبالتالي توزيعا غير متكافئ للملكية" . انظري: انظر ماركس، كارل، وانجلز فريدريك (2016)، الأيديولوجية الألمانية، ط1، دار الفارابي، بيروت. ص52
  6. Federici, Silvia. 2014. Caliban And The Witch. 1st ed. New York: Autonomedia, p.63-64.
  7. John D'Emilio, Capitalism and Gay Identity, from Powers of Desire: The Politics of Sexuality, edited by Ann Snitow, Christine Stansell, & Sharan Thompson. 1983. New Feminist Library Series. New York: Monthly Review Press. p104.
  8. دليبانو، باتريسيا (2012)، العبودية في العصر الحديث، ترجمة: أماني حبشي، ط1، دار كلمة، أبو ظبي. ص89
  9. انظري هامش ٨، جون ديميليو، ص١٠٣.
  10. Agamben, Giorgio. 1998. Sovereign Power And Bare Life. 1st ed. Stanford, Calif.: Stanford University Press.
  11. Hennessy, Rosemary. 2000. Profit And Pleasure. 1st ed. New York: Routledge,p38.
  12. "Theorizing Women's Oppression - Part 1 | International Socialist Review". 2017. Isreview.Org. http://isreview.org/issue/88/theorizing-womens-oppression-part-1.
  13. لا نقصد هنا بالفيتيش بالتعريف الفرويدي المتعلّق بعقدة الابن حول اختلاف جنسانية أمّه الجسديّة مقارنة بجسده. للمزيد انظري: Freud, Sigmund, and Philip Rieff. 1997. Sexuality And The Psychology Of Love. 4th ed. New York: Touchstone.p150-155
  14. Hennessy, Rosemary. 2000. Profit and Pleasure. 1st ed. New York: Routledge, p228.
  15. Marx, K. (1915). Capital, Vol I. Chicago, IL: Charles H. Kerr. p81.
  16. Bourdieu, P. (1993). Sociology in question. London: Sage. P. 138.
  17. Freud S. (1985), Civilization and its discontents. Penguin Freud Library, Vol 12.
  18. Sigmund Freud, On the Sexual Theories of Children, 1908.
  19. باستلهام عن ألتوسير يدّعي مهدي عامل أن الممارسة الأيدولوجية المجتمعية هي بالضرورة ممارسة الفكر المهيمن والمتسق مع مصالح الطبقات البرجوازية. يحمل هذا الادعاء إشكاليات عدة لا نريد إلا التحفظ من أهمها وهي أننا لا نقصد بذلك غياب الوعي النسوي والطبقي عن الجماعات المقموعة (بسبب هيمنة أيدولوجيا السلطة) بل نقصد أن لصهر السلطة الأيدولوجيّ وقعاً يومياً على تاريخ الممارسة البشرية لا يمكننا إلغاؤه وغض النظر عنه. عامل،مهدي(1985)، مقدّمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرّر الوطني، دار الفارابي، بيروت. ص٦٠.
  20. "يرى ماركس أن "استمرار الحفاظ على الطبقة العاملة وإعادة إنتاجها يظل شرطا ضروريا لإعادة إنتاج رأس المال ولكن بوسع الرأسمالي ان يوكل هذه المهمة، باطمئنان، إلى العمال انفسهم متكلا على غريزتي حفظ الذات والتكاثر. انظر: ماركس، كارل، وانجلز فريدريك (2016)، الأيديولوجية الألمانية، ط1، دار الفارابي، بيروت. ص38 وما بعدها
  21. ماركس، كارل، وانجلز، فريدريك (1975)، البيان الشيوعي، ترجمة: العفيف الأخضر، ط1، دار ابن خلدون، بيروت. ص56
  22. Chibber, Vivek. 2013. Postcolonial Theory And The Specter Of Capital. 1st ed. London: Verso. p 150-151.
  23. عامل، مهدي (1985) ، مقدّمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرّر الوطني، ط4 دار الفارابي، بيروت ص٦١.وفيما يخصّ مفهوم نمط الإنتاج الكولونياليّ كنمط ذي خصوصيّة إنتاجيّة لا يسعنا إلا نتساءل عن مدى هذا الخصوصيّة. ألا يقوم الواقع الاقتصادي الكولونيالي على أساس طبقي رأسمالي لصالح رأسمالية المركز؟ هل يغيّر شيئا من المنفعة الطبقية باستخراج فائض القيمة؟ لا يمكن أن تحتل هذه التساؤلات في هذا النص أكثر من تنويه على هامشه.
  24. المرأة والرجل في فلسطين، قضايا واحصاءات، تشرين ثاني ٢٠١٣، الجهاز المركزي الفلسطيني، ص ٣٤.
  25. أي انتقلت من معدل طلاق خام 1.7 لكل ألف من السكان لمعدل طلاق خام ١.٢ لكل ألف من السكان. مركز المعلومات الوطني الفلسطيني - وفا نقلا عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني
  26. معهد فان لير، كتاب المجتمع العربي في اسرائيل (٨) شريحة سكانية، مجتمع، واقتصاد. (٢٠١٦) تحرير: رمسيس غرّة.ص ٣٠-٣٤
  27. ووفقا لتوقعات التغيرات الديمغرافية التي نشرتها دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية أن نسبة العرب ستنخفض من 21% عام 2016 إلى ما يعادل 19% في حلول العام 2065. معهد فان لير، كتاب المجتمع العربي في اسرائيل (٨) شريحة سكانية، مجتمع، واقتصاد. (٢٠١٦) تحرير: رمسيس غرّة.ص ١٧.
  28. https://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2011/09/28/194983.html
  29. بحسب إحصاءات الجهاز المركزي الفلسطيني التي أجريت عام ٢٠١٣ والتي مسحت مناطق في الضفة الغربية وقطاع غزة " ارتفع العمر الوسيط عند عقد القران للذكور في عام ١٩٩٩من ٢٤.١ إلى ٢٤.٦ في العام ٢٠١١، في حين ارتفع العمر الوسيط عند الزواج الأول لدى الاناث من ١٨.٨ عام ١٩٩٧ إلى ٢٠ سنة عام ٢٠١١". المرأة والرجل في فلسطين، قضايا وإحصاءات، تشرين ثاني ٢٠١٣، الجهاز المركزي الفلسطيني، ص ٣٤.
  30. استنادا إلى نتائج مسح الأسرة الفلسطيني للجهاز المركزي الفلسطيني (والتي لا تنظر إلى العائلة الفلسطينية في مناطق ال٤٨) فقد "طرأ انخفاض على معدل الخصوبة الكلية، حيث بلغ ٤.٤ مولودا للفترة ٢٠٠٨-٢٠٠٩ مقابل ٦.٠ مولودا في العام ١٩٩٧".انظري: المرأة والرجل في فلسطين، قضايا واحصاءات، تشرين ثاني ٢٠١٣، الجهاز المركزي الفلسطيني، ص ٣٤. وفي أراضي ال٤٨، هناك ارتفاع أيضا في سنّ الزواج الأول يمكن ملاحظته في العقدين الأخيرين. وبحسب معهد فان لير الاسرائيليّ ارتفع معدّل سنّ الزواج لدى الرجال من ٢٦ عام ٢٠٠١ إلى ٢٧ عام ٢٠١٢، أما لدى النساء فارتفع من ٢١ إلى ٢٢ في ذات الفترة.انظري: معهد فان لير، كتاب المجتمع العربي في اسرائيل (٨) شريحة سكانية، مجتمع، واقتصاد. (٢٠١٦) تحرير: رمسيس غرّة.ص ١٧-١٨.
  31. انظري: مقدّمة اشتهاء العرب. مسعد، جوزيف(2014)، اشتهاء العرب، ترجمة: ايهاب عبد الحميد، ط2، دار الشروق، القاهرة. ص21