وثيقة:الميبون والطفّار
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | خوخة ماكوير |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | جيم |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://jeem.me/جندرجنسانية/خوخة-ماكوير/الميبون-والطفّار
|
تاريخ الاسترجاع | |
نسخة أرشيفية | https://archive.fo/4Ue7g
|
قد توجد وثائق أخرى مصدرها جيم
رغم جهود الخطاب المثلي في تخطّي ثنائية الفاعل والمفعول به، إلا أن الميبون والطفّار ما يزالان -إلى اليوم- الشخصيتان المثليتان الأكثر تواترًا وشعبية في الثقافة واللسان التونسي. من هنا تكمن أهمية الكتابة حولهما؛ إذ تعودان بنا إلى فترة ما قبل الخطاب المثلي-الصوابي، وتكشفان لنا النقاب عن انفصام جوهري وضارب في القدم، يشوب تعاطينا مع قطبين أزليين من أقطاب العلاقة المثلية؛ الفاعل والمفعول به.
قبل وفود الخطاب المِثلي وسياسات الهوية، لم يكن في لساننا التونسي لفظ يجمع بين الفاعل والمفعول به في العلاقة المثلية. لم يكن للسان التونسي من خيار سوى الانقسام عند نعته للمثليين، منشطرًا كانشطار الأدوار الجنسية والجندرية بين مبدأي الفاعلية والمفعولية، فِعلي الإيلاج والاستقبال، وصفتي الأنثوي والذكري.
بينما لم يكن من قاسم مشترك يجمع أطراف العلاقة المثلية تحت مسمى واحد كمصطلح مثلي أو كويري أو ڨاي، سادت ثنائية الميبون والطفّار. حتّمت على اللسان التونسي التزام الثنائية عند الحديث عن المثليين.
ورغم جهود الخطاب المثلي في تخطّي ثنائية الفاعل والمفعول به، إلا أن الميبون والطفّار ما يزالان -إلى اليوم- الشخصيتان المثليتان الأكثر تواترًا وشعبية في الثقافة واللسان التونسي. من هنا تكمن أهمية الكتابة حولهما؛ إذ تعودان بنا إلى فترة ما قبل الخطاب المثلي-الصوابي، وتكشفان لنا النقاب عن انفصام جوهري وضارب في القدم، يشوب تعاطينا مع قطبين أزليين من أقطاب العلاقة المثلية؛ الفاعل والمفعول به.
تكمن أيضًا أهمية الكتابة عن الميبون والطفّار في ما قد تزوّدنا به معالجتنا لهذا الثنائي من فهم لتصوّراتنا المحلية حول مفهومي الجنسانية والجندر. فهذا الطابع الثنائي الذي يقسم "الهوية" المثلية شطرين ما هو إلا انعكاس لثنائيات أعمّ وأعمق تحكم قراءتنا لهذين المفهومين.
ميبون، من الشتائم الأوسع انتشارًا في تونس وهي حليف التونسيّين الأول عند التعبير عن الخصومية، وعن الرفض والاحتقار. أصلها في اللسان العربي مأبون، وخُفّفت الهمزة في لساننا لتصبح ياء. المأبون لغة هو صاحب أُبنة، أي من به عيب أو داء. اصطلاحًا هو "الذي يشتهي أن يأتيه الرجال لعيب فيه، كأن تكون في دبره دودة لا تهدأ إلا بماء الرجال". أما شرعًا فهو "من يتكسر في كلامه كالنساء، أو من يشتهي أن يُفعل به ولم يُفعل به، أو من كان يُفعل به وتاب وصارت الألسن تتكلم فيه"1. أما المأبون كما وردت في العنوان (مُعرّفة بالألف واللاّم) فتعني المُتّهم.
على خلاف كلمة مأبون وافرة الشروحات، تعذّر عليّ إيجاد كلمة طفّار في الكتب والقواميس أو أي امتداد لها خارج اللسان التونسي. فاجتهدت في تقفّي جذورها في لسان العرب، ولعلّي وجدت بعضًا من آثارها.
يُقال أَطْفَرَ الراكبُ بعيرَه إِطْفَارًا إِذا أدخل قدميه في رُفْغَيه إِذا رَكِبَه، والرُّفْغُ هي أُصُولُ الفَخِذيْنِ من باطن. ويقال تَرَفَّغَ فلان فوق البعير إِذا خشي أَن يَرْمِيَ به فلَفَّ رجْلَيه عند ثِيلِ البعير، أي عند قضيبه. وقال أَعرابي: تَرَفَّغَ الرجلُ المرأَةَ إذا قعد بين فخذيها لِيَطأَها.
إنّ ما يدفعني لترجيح علاقة محتملة بين الطفّار والمعاني الآنف ذكرها، هو امتداد المعجم الحيواني عند وصف المثليّ في تونس. تعكس هذه الخيارات المعجمية، حسب أستاذة اللغة والأدب العربي والباحثة السوريّة هنادي آل السمان، انتزاعًا لآدمية "المثلي-السالب" بتحويله رمزيًا إلى حيوان2.
ففي سياقنا المعاصر "يُطلق على المثلي-السالب في تصوّرات المجتمع التونسي: حصان، أي الجواد الذي يقع امتطاؤه من قبل فارس يعتليه ويُخضعه. ولا يُعتبر المثلي-الموجب مثليًا، بل ذكرًا شديد الفحولة. حتى أن له اسمًا في اللهجة التونسية: طفّار، إنّه الذكر المولِج، النائك، الواطئ، المنتصر، المقتدر"3، حسب الأخصائي في علم النفس والكاتب عدنان خالدي.
الطفّار هو إذن الفاعل الذي يقوم بالوطء في العلاقة المثلية. والوطء مصدر من وطِئ أي هيّأ أو داس. يقال وطئ الرجل الفرس إذا اعتلاها، ووطِئ زوجته إذا جامعها، وإنما سُمي بالوطء لأن الجماع فيه استعلاء، ويقال أيضًا وطِئْنا العدوّ أي غزوناهم.
بعيدًا عن الحقل المعجمي المحيط بالطفّار وما يطرحه من فرضيات حول أصول الكلمة ودلالاتها، من أهم ما شدني من علاقة لغوية بين المأبون والطفّار هو حدّة التباين في بنية العبارتين. فكلمة طفّار التي تفيد الفاعل في العلاقة الجنسية تَرِد على وزن فعّال. وفعّال بدوره هو صيغة مبالغة من فاعل وتعني كثير الفعل، نافِذ، مؤثِّر، مُفيد.
أما الفعّال فهو اسم من أسماء الله الحسنى، وقد ورد في سورة هود وتحديدًا في الآية 107 ما يلي: "إنّ ربّك فعّال لما يُريد"، ومعناه الفاعل فعلاً بعد فعل، كلَّما أراد فَعَل، وليس كالمخلوق الذي إن قدِر على فعلٍ عجز عن غيره.
تتضاعف فاعلية الطفّار بمعيّة الأداة اللغوية، وتتضاعف معها مفعولية المأبون، فهذا الأخير ليس فقط مفعولا به لوقوع فعل "الطفارة" عليه، هو مفعول به وإن انقطع فعل الفاعل أو لم يتحقق. هو مفعول، في جوهره وبالأساس، لمجرد افتراض غرض المفعولية لديه، أي لمحكوميته بداء الأبنة.
يحمل التباين بين المأبون والطفّار أبعادًا وجذورًا لغوية ومعرفية، تمتد آثارها لتشمل مستويات عدة من اللسان والممارسة والمخيال العربي. وتجد هذه العلاقة التقابلية محاملها الخطابيّة خاصّة في المجالات ذات الهيمنة الفحولية؛ مثل الرياضة والسياسة والدّين.
لا يتجه القرآن، عند مخاطبته لقوم لوط، إلى فئة المَلوط بهم (المأبونين). بل يخاطب اللاّئطين أي القائمين بفعل الإتيان "إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ" (الأعراف 81). ما من دال على مخاطبة الكتاب للمنكوحين على وجه الخصوص. وهو ما دفع الفقهاء أمثال السفاريني في كتابه "قرع السياط في قمع أهل اللواط" لتفسير عمل قوم لوط بالإيلاج، أي أنّ اللواط هو حصرًا إتيان الذكور في الأدبار.
وقد ذهب الأكاديمي بجامعة هارفارد الأمريكية خالد الرويهب في عرضه لملامح قوم لوط، كما أتى على ذكرها القرآن وشرحتها التفاسير، بأنهم ناكحون للصبيان (pederasts) أو متوحشون يواقعون الرجال الزائرين أو المارين عنوة؛ "في كلتا الحالتين، تفترض التفاسير بأن اللوطيّ هو الطرف الفاعل أو المولج"4.
إلا أن تغييب المأبون وشطبه من الخطاب القرآني ليس في اعتقادي من قبيل التنزيه، بل ربما من باب الإغفال أو الترفّع، مثل تغليب الرجال على النساء، أو بالأحرى، تغليب الرجال الفاعلين على بقية الكائنات الما-دون-رجالية، أي المفعولة أو المنكوحة أو السالبة.
ليس من العجب أن يخص الكتاب في مخاطبته لقوم لوط الفاعلين جنسيًا دون المفعول بهم. فالقوم "اسم يقع على جمع من الرجال"، "سمّوا بذلك لقيامهم بالعظائم والمهمّات". والقوم نسبة إلى القيام والقوامة وهي خصال ينفرد بها الرجال لما تقتضيه من فاعلية تلخّص جوهر الرجل وما يميزه عن المرأة.
في هذا التمايز الجوهراني بين الرجل والمرأة وعملية الإسناد الجندري لمبدأ الفاعلية والمفعولية، يقول ابن قيّم الجوزية: "أحسن أشكال الجماع أن يعلو الرجل المرأة مستفرشًا لها (...) وبهذا سميت المرأة فراشًا (...) وهذا من تمام قوامية الرجل على المرأة (...) وأردأ أشكاله أن تعلوه المرأة ويجامعها على ظهره وهو خلاف الشكل الطبيعي الذي طبع الله عليه الرجل والمرأة فإن المرأة مفعول بها طبعا وشرعا وإذا كانت فاعلة خالفت مقتضى الطبع والشرع"5.
المأبون، وهو الذي حاد عن جوهر كينونته كرجل، متنازلًا عن فاعليته وامتيازه القضيبيّ المتجسد في الوطء والإيلاج والاستعلاء، ينحدر من مصاف الرجال وتُرفع عنه القوامة فيُقصى من القيام بـ"العظائم والمهمات". يقول مالك شبل في مقاله البحثي عن الجنسانية والسلطة في الإسلام، "لا يمكن للسلطة بأن تحلّ لعاجز أو عقيم أو مأبون أو مخنث".
كيف للمأبون أن يمتلك السلطة وهو الذي يقبع تحت وطأة الرجال؟ كيف له أن يكون فاتحًا يذود عن الأرض وهو مفتوح، وموطوء، ومهزوم على عكس الطفّار الفاتح، الوالج، الواطىء، القوّام، المهيمن، المقتدر، النافذ، والمنتصر؟
وفي هذا السياق، يقول بيار بورديو في كتابه الهيمنة الذكورية، إن "تقسيم الأشياء والنشاطات (الجنسية أو غيرها)، بحسب التعارض بين المُذكر والمُؤنث، باعتباره تقسيمًا اعتباطيًا في حال كان معزولا، يتلقّى ضرورته الموضوعية والذاتية من خلال إدراجه في نسق تعارضات متجانسة، أعلى/ أسفل، فوق/ تحت، أمام/ وراء، يمين/ شمال، مستقيم/ مقوّس (ومخادع)، جاف/ رطب، رخو/ جاف، مبهر/ باهت، مضيء/ معتم، خارج (عمومي)/ داخل (خصوصي)، إلخ، الذي يتوافق بعضها مع حركات الجسد (أعلى/ أسفل/ صعود/ نزول/ خارج/ داخل/ خروج/ دخول). هذه التناقضات المتشابهة في الاختلاف متطابقة بما فيه الكفاية لتدعم بعضها بعضًا، في لعبة لا تفنى من التحويلات العملية والاستعارات، وهي متباعدة بما فيه الكفاية لتضفي على كل واحدة منها نوعًا من السمك الدلاليّ المتحدّر من التحديد المفرط بالتناغمات وبالتضمينات وبالتوافقات"6.
لا يخلو الموروث العربي من تكثيف لهذه الثنائيات ففي معرض تفضيله للبطن (الأمام) على الظهر (الخلف)، كناية عن الأدوار الجنسية، يسترسل الجاحظ في تكثيفه لهذه الأضداد: "لم نرهم وصفوا الرجل بالفحولة والشجاعة إلا من تلقائه، وبالخبث والأبنة إلا من ظهره. [...] وشتّان بين الوصفين: بين من يلقى الحرب بوجهه وبين من يلقاه بقفاه، وبين الناكح والمنكوح، والراكب والمركوب، والفاعل والمفعول، والآتي والمأتيّ، والأعلى والأسفل، والزائر والمزور، والقاهر والمقهور"7.
يتسلح نعت ميبون بترسانة من المرادفات، تعزز نسيجه المفاهيمي وتكثف من دلالاته. لعلّ أفصحها في رسم معالم المهزومية لدى المأبون كلمة العطّاي، وتعني كثير العطاء، الفيّاض الذي يمنح بكثرة دون مقابل. وهي اختصار لـ"عطّاي ترمتو" أي المعطاء لدبره. يُسمّى بالعطّاي أيضًا فرج المرأة المتاح، وقيل في ذلك المثل التونسي "كان مانعرفكش يا صرمي، ما نسميك العطّاي" (لو لا معرفتي بك يا فرجي لسميّتك المعطاء).
إن صفة المعطاء ليست بكناية عن النبل أو الكرم، فتلك من صفات الرجولة التي لا يحظى بها المأبون. بل تفيد شدّة التفريط، عدم امتلاك الجسد أو انتفاء حرمته. يتلخّص العطّاي في جسده الممنوح، المُضيف واللاّ-ممانع. انطلاقًا من هذا المبدأ، يختزل المؤرّخ الفرنسي بول فاين أوجه التباين بين الطفّار والمأبون، في ثنائية "انتزاع اللذة بفحولة أو منحها في خنوع" على حسب تعبيره في مقاله البحثي "المثليّة الجنسيّة في روما".
من أفضل ما يجسد هذا التقابل بين الفحولة والخنوع أو الحفاظ والتفريط، المقولة "الوطنية" الرائجة: "ستبكون كالنساء على وطن لم تحافظوا عليه كالرجال". اقتباس انتشر على مواقع التواصل كالنار في الهشيم، غالبًا ما يرفق بصورة لأبرز الشخصيات الفحولية المعاصرة: صدام حسين.
ترتبط الهزيمة والنصر في لسان الشارع التونسي ارتباطًا وثيقًا بالفاعلية والمفعولية الجنسية. يقول التونسي "تحشالي" أو "قعدت عليه" أو "فڨست"، كناية عن استقبال القضيب، للتعبير عن الانهزام. و"حشيتو"، "حشيتهولو" أو "قعدّتو عليه"، كناية عن إيلاج القضيب، للتعبير عن الانتصار.
هذا الاقتران بين صفات الإيلاج والنصر من جهة، والاستقبال القضيبي والخيبة من جهة أخرى، يجد جذوره في اللسان العربي، حيث تمتزج المشهدية الجنسية بالمعجم الحربي؛ فيقال عن الجيوش المنهزمة "ولّوا الأدبار"، وفي وصف السيف المنتصر يقال "فَعَلَ/فَتَكَ في أدبارهم" على حدّ ذكر خالد الرويهب، وفي ذلك قال الشغري: "أبيضًا ذكرًا إذا ما انسلّ يوم كريهة *** جعل الذكور من الأعادي حيضًا"8.
سادت في السياق السياسي والمحلي المعاصر، صورة الفحل السياسي المخضِع والفاعل جنسيًا بخصومه ورعاياه. لنشر الهلع في صفوف معارضيه، ابتكر النظام البائد أساليب تعذيبية نُقشت في المخيال التونسي، من أبرزها اغتصاب الذكور. تواترت قصص اغتصاب النظام للمعارضين الإسلاميين خصيصًا. ولئن اختلفت الوسائل، تبقى قوارير المشروبات الغازية "فانتا" أشهر أداة.
إبان الثورة ومع تحرير الخطاب واعتلاء الإسلام السياسي للسلطة، تحول اغتصاب الخصوم بواسطة الفانتا إلى ممارسة خطابية. تحولٌ ترى فيه فرنسواز دوفور "تصريفًا للعنف المادي، لما في ذلك من استجابة لمقتضيات الضرورة الاجتماعية". مع انقلاب موازين القوى لصالح الإسلاميين، استعاد معارضو الإسلام السياسي الفانتا وحوّلوها من خازوق إلى شعار: "سنُولج قوارير الفانتا في أدباركم".
أما في سياق أحدث، فقد شهدنا خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة تواتر المعجم المأبوني في شتم المرشح نبيل القروي. حلّت الاستعارات من قبيل "ميبون تونس" محل الإسم الأصلي لحزبه "قلب تونس". أما مبادرته الخيرية "يرحم خليل"، والتي يكرّم من خلالها خليل ابنه الراحل، فقد استبدلها خصومه بـ"يرحم عمّي"، وهي مرادف إضافي لكلمة ميبون.
في رصدها لشتائم النشطاء الإلكترونيين تجاه خصومهم السياسيين، لاحظت رشا مزروي تواتر عبارة ميبون. وفي إشارة إلى دور الشتيمة في تحديد موقع الشاتم كطفّار، تقول: "الشتيمة الجنسية تحدد طرفي الصراع: أعداء الثورة الذين يوصفون بالمثليين-السالبين، والناشط الإلكتروني الفحل والفاعل، الذي يضاعف من فحولته بوطئه رمزيًا لخصومه"9.
عريقة هي هذه الصور والممارسات، قدم الحضارات التي توالت على تونس. فمن أشعار كتولوس اللاتينية التي يتوعد فيها خصومه بالإيلاج، إلى الممارسات الديكتاتورية والخطابات الإخصائية المعاصرة، مرورًا بالموروث العربي الزاخر باغتصاب الذكور، فعلا ومجازًا، ترمي كلها لتأنيث الخصم بوطئه وجعله موضع المأبون، خطابيًا أو فعليًا.
هذه الديناميكيات ليست حكرًا على الحقل السياسي، إذ "يمكن للشتيمة أن تكون سياسية خارج الأطر السياسية، أو بالأحرى، هي دائمًا سياسية بطبعها". لا بل يعتبر بول باكو الشتائم "مسيِّسة لا محالة".
تتكاثف ثنائية الفاعل والمفعول في الصراعات الكروية أيضًا، وتُصاغ حولها الشعارات. من أبرزها ما خلدته الذاكرة الشعبية: "سليم شيبوب رضّاع زبوب" و"يا ساحلي يا حاوي". سليم شيبوب هو من أشهر من ترأسوا فريق "الترجي الرياضي التونسي". دأب خصوم الترجي على تلقيبه برضّاع "الزبوب" (جمع زب) حتى صارت من أشهر الجمل التي رافقت اسمه. أما خصوم "النجم الرياضي الساحلي" فكرّسوا صورة "الحاوي" لتقترن بذكور منطقة الساحل. ويطلق لفظ حاوي اليوم على العاجز جنسيًا، بينما كان يعني قديمًا العاملين بالجنس.
هذه المنشآت الخطابية التي تترجم علاقات السلطة من خلال الجندر والجنسانية، تربط الثقافة بالسياسات. كالسياسات العسكرية التي تحجّر على "المأبونين" الالتحاق بمؤسساتها، أو السياسات القضائية التي تعتمد لإثبات جريمة "اللواط" على الفحص الشرجي، مستهدفة بذلك "الملوط بهم" لحملهم دليل الجرم في أدبارهم.
يحدّد الرويهب الفرق بين المأبون واللائط، بإتيان المأبون في دبره هو مجرد فعل يقوم به اللائط، أما الأبنة فهي صفة تختلج المأبون. يضفي ذلك طابعًا جوهرانيًا على الأبنة، ألهم الرازي ترجيح العامل الخلقي كأحد أسبابها. إذ يعزو الأبنة لدى المولود الذكر لغلبة منيّ الأم عند الجماع و"قهره" لمنيّ الأب. في وصفه لجسمانية المأبون، يشخص الرازي أعراض الأبنة بانسحاب أعضائه إلى الداخل كآلات التناسل عند الإناث، وبضعفها وصغر حجمها10.
في كتابه عن فترة ما قبل المثلية في الحضارة العربية الإسلامية، رصد خالد الرويهب الأصول المرَضيّة للمأبون، راسمًا بعض ملامحه انطلاقًا من الموروث الطبي. يقول خالد الرويهب: "غالبًا ما يكون المأبون أنثويًا، يعاني من الترهل والسعال، كسول النظرات، جاف الشفاه، مكتنز الوجه، عريض المؤخرة"11، مُضيفًا بأن حاجة المأبون المرَضيّة لاستقبال القضيب استدعت تفاسيرًا أكثر طرافة. كقول ابن نجيم الحنفي بأن "الأبنة في العرف عيب شديد، إذ لا يقدر [المأبون] على ترك أن يؤتى في دبره بسبب دودة ونحوها"12.
تجد سردية الدودة والمأبون امتدادًا لها في اللسان التونسي إلى اليوم، حيث يلتجئ التونسي في وصفه أو شتمه للمأبون إلى المرادف "مدوّد". على نحو أدق تُستعمل عبارة "تاكل فيه الدودة"، أي أن دبره يتلهف لاستقبال القضيب بفعل ما تحدثه الدودة من دغدغة. لم يقف أثر هذه الأسطورة عند الاستعارات اللغوية. ففي شهر أفريل الماضي، عادت إلى الواجهة على لسان أكاديمية كويتية، زعمت اختراعها لتحاميل شرجية تشفي ما أسمته بالجنس الثالث والرابع. لخصت السيدة سبب العلّة لدى هذه الأجناس في دودة شرجية تتغذى على المنيّ وتسبب إفراطًا في الشبقة الجنسية. هذه التصورات، تصب جميعها، في وضع المأبون موضع المُبتلى المعلول والفاقد لزمام الأمور. في المقابل، تضع الطفّار، ليس فقط في موقع المتحكّم المسؤول عن فعل "اللواط"، إنما في موضع المخلّص الذي يشفي بمائه سقم المأبون. فلا ننسى بأن لصاحب الأبنة "دودة لا تهدأ إلا بماء الرجال".
إذا كانت الأبنة والطفارة تختلفان من حيث طبيعتهما، باعتبار الأبنة جوهرًا والطفارة سلوكًا، فبعض التفاسير ذهبت إلى حد وصف الطفارة بالسلوك التعويضي. تتعدد الاعتقادات في هذا الصدد، فمنها ما يعتبر الطفّار "شديد الشبق، إلى درجة تجعله يصيّر الرجال نساءً لفرط شهيته"13. ومنها ما يعزو انخراط الطفّار في الجنس المثلي لتعذّر الجنس الغيري، إما لأسباب اقتصادية كمحدودية الموارد، أو اجتماعية كتشديد الحظر على أجساد النساء، أو لتوفر الاختلاط السهل أو الحصري بين الذكور.
لعلّ المأبون معيب لكونه، بالرغم من مفعوليته، يقوم ببعض الفعل، فهو "يتكسّر" وهو أيضًا يشتهي بأن يؤتى في دبره. إن الحضور الجوهري لرغبة المأبون في اللغة والخطاب، يجعل منه أكثر انقلابية (subversion) من الغلمان. وهو ما قد يُفسّر احتفاء الأدب القديم (أو بعضًا منه) بالغلمان، مقابل نبذهم للمأبون. فثنائية السيد والغلام لا تتحدّى منظومة المعايير الغيرية بل تكمّلها وتذوب وسطها.
عادة ما تخطئ القراءات المعاصرة عند تسويق الماضي العربي كجنة المثليين المفقودة. تسعى تلك القراءات لتفنيد سردية العرب المسلمين المعادين للمثلية، باستحضار الغلمانيات كدليل على ماضٍ عربي أكثر تقبلا للمثليين. معتّمة في نفس الوقت على الكره العميق والعداء المتأصّل تجاه المأبون. يعتبر الرويهب أنه "من الطبيعي أن يُغفل المؤرخون المعاصرون الفوارق بين اللواط وحب الغلمان، وبأن يعتبروا كلا النشاطين تمظهرات مثلية"14. يضيف الباحث بأنه رغم إجماع الفقهاء على تصنيف اللواط كأشنع الأفعال، لم يجد العديد منهم حرجًا في عشق الغلمان.
لم يتبادر لنا الكثير عن رغبة الغلمان، ولم يطنب موروثنا في الحديث عنهم كذوات راغبة. فما تعتبره مجتمعاتنا أدوات جنسية، نساء أو صبيانًا، دائمًا ما يوظفون كأدوات سالبة. ما يزيد المأبون إرباكًا، محورية الرغبة لديه. فقد صوره الموروث كذات شبقية تُختزل في رغبتها وليس موضوعًا للرغبة أو مجرد وعاء سالب لاستقبال القضيب.
يستبعد فوكو في كتابه "تاريخ الجنسانيّة" بأن تكون الجنسانية "مجرد اندفاع جامح وعاص في وجه سلطة تستنفذ قواها لترويضه، بل كنقطة عبور كثيفة لعلاقات السلطة". يجعل ذلك من المأبون مُخضَعًا لكن ذا جنسانية انقلابية (subversive) مقوضة لأهم الأسس الفحولية، في سياق تتمحور فيه لذة الذكور البالغين وحياتهم وأدوارهم الجنسية حول الإيلاج والمتعة القضيبية.
للمرحلة العمريّة (نسبة إلى العمر) الكلمة الفصل في قبول العرب لمفعولية الذكور. قبول يعود حسب تعبير رايوين كونل، عالمة الاجتماع الأسترالية، لكون "الأطفال، على اختلاف جنسهم، يفرض عليهم تبوّء وضعٍ أنثوي، لضعفهم إزاء البالغين"15. ومع بزوغ اللحية ينتقل الطفل أو الغلام من الوضع الأنثوي كوعاء وموضوع لرغبة الرجال إلى ذات قضيبية فحولية راغبة. ومن أبرز ما قيل في هذه الهندسة الجنسانية، شعرٌ أورده ابن كنان الصالحي: "ابن عشرٍ من السنين غلام رُفعت عن نظيره الأقلام. وابن عشرين: الصبا والتّصابي ليس يثنيه عن هواه ملام. وإذا عاش بعد ذلك عشرًا فكمالٌ وقوةٌ والتّمام"16. لا تنأى هذه الأبيات عن عادة الشعراء العرب في ترك التغزل بالغلمان أو مواقعتهم إذا ما ظهرت لحيتهم. هذا العُرف الذي ينظّم الهندسة الجنسانية بين الذكور، تناقلته العرب عن الإغريق كتناقلها للغلمانيات. يقول سولون، رجل القانون الأثيني والملقب بمؤسس الديمقراطية: "تحب غلامًا بهيًّا، طالما لم تبزغ لحيته".
ربطت العديد من البحوث بين قبول القدماء العرب والمتوسطيين للنشاط الجنسي بين الذكور بشرط إبقائه على التراتبيات الجندرية والطبقية والاجتماعية. ففي كتابه "الجنسانية في الإسلام"، يعتبر المفكّر التونسي عبد الوهاب بوحديبة اللحية من أبرز ما يشير إلى رتبة الرجل، ويقرّ الباحث بوجود رابط وثيق بين اللحية والنفوذ والحكمة والسلطة ورجاحة العقل. أما الرويهب فيضيف بأن اللحية رمز لشرف الذكور، وهي ما يحلف به ويشتم به، كما يُفترض بألاّ يطلق العبيد لحيتهم، أما نتف اللحية فهو فعل مشين يدلّ على رغبة الناتف في تلقّي القضيب17. تقول المؤرّخة الفرنكو-تونسيّة جوسلين داخلية: "تمثّل اللحية المكتملة، بمفردها، رمزًا للفحولة. لذلك، تفرض موانع صارمة على من يحلقها/ينتفها، ففي ذلك محاولة للتشبه بالمرد والغلمان. أن يكون [الذكر] موضوعًا لرغبة الرجال فذلك أمر مشروع وطبيعي بالنسبة للغلمان، أما لرجل مكتمل فهو من غير الطبيعي".
بكسره لهذه القاعدة استرعى شبق المأبون ومفعوليته مخيّلة الأدباء. من ذلك ما أورده الاسحاقي في كتابه "أخبار الأول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول"، عن رجل ابتلي بداء الأبنة فصنع لنفسه من الخشب ما يشبه الذكر. فإذا تحرّك عليه المرض عالج نفسه بالخشبة إلى أن يغيب عن الوجود.
تفتح الجنسانية مجالا شاسعًا للصراعات الجندرية والمعرفية. وفي سعيه وراء المعنى، أعاد الموروث شيطنة الأنثوي حين شرح أسباب اللواط. فأوكله لقدرة الأنثوي على إغواء الرجال وجرّهم نحو المعصية، في تماهٍ مع سردية الخطيئة الأولى وقصة طرد آدم من الجنة. يُقال بأن إبليس أتى قوم لوط "في صورة حسنة فيه تأنيث عليه ثياب حسنة فجاء إلى شباب منهم فأمرهم أن يقعوا به، فلو طلب إليهم أن يقع بهم لأبوا عليه، ولكن طلب إليهم أن يقعوا به فلما وقعوا به اِلتذوه، ثم ذهب عنهم وتركهم فأحال بعضهم على بعض"18. هذه الرواية مازالت رائجة إلى اليوم في المخيال التونسي، إذ يقول المثل الشعبي "آخرة الطفارة وبنة". أي أن "الطفارة" (صفة الطفّار) قد تحيد في آخر المطاف لتأوول إلى أبنة. غالبًا ما يطلق هذا المثل في إطار التحذير، ليس من الطفارة -والتي لا تشكل عيبًا في حد ذاتها- إنما من مغبّة الانحدار من مصاف الفاعلين والمولجين إلى درك المفعولين المأبونين.
يتحدث بول فاين عن رفض روما القديمة لصفة "المثلي السالب" أي ما يرادف المأبون في ثقافتنا، وعن قبول روما بـ"المثلي الموجب" أي ما يوافق الطفّار. ويعزو فاين رفض روما للمأبون إلى رفضها للمفعولية لدى الذكور وتقديسها للفاعلية الجنسية كمرادف للفحولة. فالرجل "السالب" أو المفعول به حسب فاين ليس معيبًا لمثليته بل لنقص في رجولته يدفع به نحو المفعولية، وهذا النقص في الفحولة يظل عيبًا حتى في غياب المثلية.
هذا الإرث الممتد من الكراهية ما يزال يطارد المأبون عبر ضفاف المتوسط، ملاقيًا صداه إلى اليوم في تونس. فالمأبون حسب الأخصائي في علم النفس عدنان خالدي هو "أشدّ ما يكره التونسيون". إن هذه الكراهية التي تشمل الميبون دون الطفّار قد تبدو للبعض على أنها رهابٌ معادي للمثلية، وهي ليست في جوهرها إلا "كراهية دفينة تجاه النساء والأنثوي".
هوامش
1.محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، الجزء الأول، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2016، ص517.
2.Al-Samman, Hanadi, Out of the Closet: Representation of Homosexuals and Lesbians in Modern Arabic Literature, Journal of Arabic Literature, Vol. 39, No. 2 (2008), p. 280
3.الاقتباس مأخوذ من مقال بعنوان "العنف ضد النساء: برجولية"، نشر المقال بالفرنسية على موقع هافپوست المغرب الكبير والذي توقف عن العمل منذ ديسمبر 2019.
4.El-rouayheb, Khaled, Before Homosexuality in the Arab-Islamic World 1500 –1800, The University of Chicago Press, 2005, p.17
5.ابن قيّم الجوزيّة، زاد المعاد في هدي خير العباد، الجزء الرابع، مؤسسة الرسالة، مكتبة المنار الإسلامية، بيروت - الكويت، 1986، ص 240 و241.
6.بيار بورديو، الهيمنة الذكوريّة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009، ص 24 و25.
7.رسائل الجاحظ، الجزء الرابع، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ص 161. متوفرة على الرابط: https://foulabook.com/ar/read/%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D8%A6%D9%84-%D8%A7%D9%8...
8.ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، الجزء الأوّل، منشورات دار الكتب العلميّة، بيروت، ص 199.
9.يُمكن مراجعة مقال رشا مزروي عن الشتائم في الفضاء الإلكترونيّ والذي نُشر في كتاب تحت عنوان "شبكات التواصل الاجتماعي في زمن التحولات الديمقراطية"، ضمّ مجموعة من المقالات راجعته وحقّقته سهام نجّار وهو صادر عن معهد البحوث المغاربية المعاصرة بتونس.
10.يمكن مراجعة شهاب الدين أحمد التيفاشي، نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب، تحقيق جمال جمعة، رياض الريّس للكتب والنشر، لندن- قبرص، الطبعة الأولى حزيران/يونيو 1992، ص ص. 302-304.
11.El-rouayheb, Homosexuality in the Arab-Islamic World, p.17
12.ابن نجيم الحنفي، البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومعه منحة الخالق، الجزء الخامس، منشورات دار الكتب العلميّة، بيروت، 1997، ص 78.
13.Habib, Samar, Queer Names and Identity Politics in the Arab World, Global Encyclopedia of Lesbian, Gay, Bisexual, Transgender, and Queer (LGBTQ) History. 2019, pp.1317-1321.
14.El-rouayheb, Homosexuality in the Arab-Islamic World, p.3
15.Connell, R. W. Masculinities - 2nd ed, University of California Press (2005), p.16
16.يوميات شامية - الحوادث اليومية من تاريخ أحد عشر وألف ومية، محمد بن عيسى بن محمود بن كنان، نسخة إلكترونية، ص 253. متوفرة على: http://www.liillas.com/up/uploads/files/liillas-e65e782b92.pdf
17.El-rouayheb, Homosexuality in the Arab-Islamic World, p.26
18.يُمكن مراجعة كتاب الكافي للشيخ الكليني الجزء الخامس، الصفحة 544.