وثيقة:بين اللغة والخطاب والمجتمع: مقاربة فلسفية اجتماعية
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
العنوان | بين اللغة والخطاب والمجتمع: مقاربة فلسفية اجتماعية |
---|---|
تأليف | الزواوي بغوره |
تحرير | غير معيّن |
المصدر | إنسانيات- المجلة الجزائرية في الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://journals.openedition.org/insaniyat/7093
|
تاريخ الاسترجاع |
|
قد توجد وثائق أخرى مصدرها إنسانيات- المجلة الجزائرية في الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية
مقدمة
1تتطلب مناقشة العلاقة بين اللغة والخطاب والمجتمع، النظر في مجموعة من العلاقات، كعلاقة اللغة بالسلطة والأيديولوجيا والثقافة، و طرح جملة من المستويات النظرية والمشكلات المعرفية، كأصل اللغة و سلطة اللغة والسلطة المساندة لها، و التمييز الذي تقيمه اللسانيات بين اللغة والكلام والخطاب والوحدات المشكلة للخطاب واللسانيات الداخلية والخارجية...الخ، وكذلك النظر في بعض المسائل الابستمولوجية التي تطرحها هذه العلاقة ضمن ميدان معرفي يحاول جاهدا التأسيس لمناهجه ومفاهيمه و مسائله، ونعني بذلك علم الاجتماع اللغوي و / أو اللسانيات الاجتماعية، الذي يثير صعوبات جمة ليس اقلها تلك المسالة التي ما تزال موضوع خلاف بين الألسنيين وعلماء الاجتماع حول الطبيعة الاجتماعية للغة.
كما انه من غير الممكن دراسة هذا الموضوع من دون استحضار تاريخ المشكلة وخاصة كما طرحها بعض الفلاسفة وعلماء الأنثروبولوجية. فمن المعروف أن الفلاسفة، قد ناقشوا مشكلة سلطة اللغة "الحركة السوفسطائية"، وعلاقة اللغة بالواقع والعالم الخارجي" أفلاطون"، و بنية وتركيب اللغة وعلاقتها بالمنطق والسياسة "أرسطو"، و علاقة اللغة بالفكر والمعرفة " ديكارت - لوك"، وعلاقة اللغة بالمجتمع "روسو" إلا أن الأنثروبولوجية الحديثة وخاصة مع" ادوارد سابير" هي التي أسست للمنظور الاجتماعي للغة. ومن دون الدخول في تفاصيل هذا النقاش العلمي والنظري لمجمل هذه المسائل، التي لا يتسع لها المجال فإننا نعتمد وجهة النظر التي ترى في اللغة خطابا وشكلا من أشكال الممارسة الاجتماعية، مع علمنا المسبق بما يثيره هذا التحديد الأولى من إشكاليات لسانية وخاصة على مستوى التمييز بين اللغة والكلام والخطاب والعلاقة بالمجتمع.
والـمقـصود باللغة بوصفها، شكلا من أشكال الممارسة الاجتماعية هو أن : ((اللغة جزء من المجتمع...ويعني ثانيا أن اللغة صيرورة اجتماعية. وثالثا أن اللغة صيرورة مشروطة اجتماعيا، أي مشروطة بالجوانب غير اللغوية من المجتمع). وسيتضح هذا التعريف الأولى، بتحليل منظورين مختلفين، سنعمل على إظهار تكاملهما و هما آراء "ميشيل فوكو" و"بيار بورديو" في اللغة والخطاب والمجتمع والسلطة، وهذا لجملة أسباب أهمها العلاقة الخاصة التي تجمع بين المفكرين، و خصوصية تحليلاتهما لهذه المسالة وما تمتلكه هذه المقاربة، في نظرنا، من قدرة في تحليل المشكلات اللغوية والدينية لمجتمع من المجتمعات.
أولا ـ بين السلطة و سلطة اللغة و الخطاب
من المعروف أن السفسطائية قد وقفت عند سلطة الخطاب عندما اكتشفت الإمكانيات التي تحملها اللغة كالمغالطة والقدرة على التمويه وإيقاع الخصم في الخطأ ودور الخطابة في تغيير الرأي والموقف، ومنذ ذلك التاريخ على الأقل، طرحت مسالة العلاقة بين اللغة والسلطة فهل للغة سلطة ذاتية أم أنها تستمدها من شيء خارج عنها كالسلطة السياسية والدينية وغيرها، وفي هذا السياق من الطرح العام للمسالة ظهرت تحليلات ميشيل فوكو في اللغة والخطاب وخاصة في ثلاثة كتب أساسية هي "L’archéologie du savoir" و "L’ordre du discours" و "La volonté de savoir"، فما هي وجهة نظره في هذا الموضوع؟ يقول في "أركيولوجيا المعرفة" : ( و على هذا النحو لا يبقى الخطاب، كما اعتقد الموقف التفسيري، كنزا مليئا لا ينفذ...بل إنه سيغدو ثروة متناهية، ومحدودة ومرغوبة ومفيدة لها قوانين ظهورها، وأيضا شروط تملكها، واستثمارها. ثروة تطرح بالتالي، ما إن تظهر إلى الوجود...مسألة السلطة، ثروة هي بطبيعتها موضوع صراع، صراع سياسي). لقد توقف عدد من الدارسين عند هذا النص، واختلفوا في فهمه و تقييمه والإجابة على سؤال العلاقة بين الخطاب والسلطة. فمثلا نجد "دريفوس" و"رابينوف" يزعمان أن فوكو يذهب إلى أن : (ثقافتنا تنزع إلى تحويل نسبة متزايدة باستمرار، من أفعالنا الخطابية العادية، إلى أفعال خطابية جادة، وهو يرى في هذه النزعة التعبير عن إرادة في الحقيقة، تستمر في التوطد والتجذر وفي فرض نفسها أكثر فأكثر). في حين يرى "شيريدان" أن فوكو اكتشف في "نظام الخطاب" سلطة الخطاب،وعليه غير منظوره المنهجي. وكيف نفهم ما قاله فوكو في "إرادة المعرفة" : (ففي الخطاب بالذات، يحدث أن تتمفصل السلطة والمعرفة. ولهذا السبب عينه، ينبغي أن نتصور الخطاب، كمجموعة أجزاء غير متصلة وظيفتها التكتيكية غير متماثلة ولا ثابتة. بصورة أدق يجب أن لا نتخيل عالما لخطاب مقسما بين الخطاب المقبول والخطاب المرفوض... بل يجب أن نتصوره كمجموعة عناصر خطابية تستطيع أن تعمل في إستراتيجيات مختلفة : الخطاب ينقل السلطة وينتجها، يقويها، ولكنه أيضا يلغمها، يفجرها، يجعلها هزيلة، ويسمح بإلغائها). لدراسة هذه المسالة، والآراء المختلفة، سنعمد إلى تحليل العناصر الموالية :
أ. بين الخطاب والممارسة السياسية
يرى ميشيل فوكو أن التساؤل حول علاقة الخطاب بالممارسة السياسية، يتطلب جانبين من التحليل، من جهة، ضرورة تحليل مختلف العمليات النقدية التي يقوم بها خطاب ما في ميدان خطابي معين. ومن جهة أخرى، تعيين حقل التحليلات ومجال الموضوعات التي يحاول الخطاب إظهارها وتمفصلها مع سياسة ما، أو ممارسة سياسية معينة. فبالنسبة للجانب الأول النقدي، يتطلب إقامة جملة من العمليات التي يمكن تلخيصها في :
إقامة حدود على عكس التاريخ التقليدي الذي يبقى حقلا لا متناهيا وغير محدود، مع إبعاد المسلمة التأويلية، ومسلمة الذات المؤسسة، ومسلمة الأصل.
محو التعارضات الشكلية من مثل القديم والجديد، الأصيل والمعاصر، التقليد والإبداع، الثبات والتغير، وإقامة حقل التحليلات التفارقية .
إلغاء الفروع العلمية المعترف بها، مثل تاريخ الفكر، وتاريخ العلوم، وغيرها، وتحليل الخطابات في شروط تكونها، وتحولها ومختلف علاقاتها.
بهذه العمليات النقدية، يظهر الخطاب، ويؤسس في نفس الوقت لاستقلاليته وسلطته، ويحقق هدفا أساسيا، هو إقامة تاريخ عام "Histoire Générale" للخطابات، بدلا من تاريخ كلي "Histoire Globale"، تاريخ يتأسس على وصف خصوصية الممارسات الخطابية. وفي إطار هذا التاريخ العام، يمكن إقامة ما يسميه فوكو بالتحليل التاريخي للممارسات الخطابية.
أما الجانب الثاني، فيتطلب في نظره، دراسة علاقة هذه الخطابات في فرادتها وخصوصيتها بالممارسات السياسية، وذلك بدراسة شروط ووظائف الخطابات العلمية، كالطب والاقتصاد، أو بصفة عامة خطاب العلوم الإنسانية التي اهتم بها الفيلسوف. وإن دراسة الخطاب العيادي الذي ميز الطب في بداية القرن التاسع عشر، يبين أن هنالك علاقة بين هذا الشكل من الخطاب العلمي وظهور بعض الأحداث السياسية، والتي يجملها في حدث الثورة الفرنسية.
وتتطلب دراسة الخطاب الطبي في علاقتها بالممارسة السياسية، النظر، ليس في التغيير الذي حدث في وعي الناس، وطريقة إدراكهم للأشياء، بل على أساس أن الممارسة السياسية : (حولت شروط ظهور الخطابات أو حولت طريقة وجود الخطاب الطبي). وهذا بناءا على جملة من الإجراءات، منها : تعيين الذين لهم الحق في امتلاك وإدارة الخطاب الطبي "الأطباء والتقنيون"، تقسيم جديد لموضوعات الطب بتطبيق سلم جديد للملاحظات، وظائف اجتماعية جديدة للمستشفى، أنماط جديدة للتسجيل والحفظ والتوزيع، للخطاب الطبي. وأخيرا وظائف جديدة للخطاب الطبي في نظام المراقبة الإدارية والسياسية للشعب.
وعلى أساس هذا التحليل، يمكن أن نحدد مختلف العلاقات بين الخطاب والممارسة السياسية، وتعيين جزئيات هذه العلاقة، والدور الذي تلعبه الممارسة السياسية في خطاب علمي معين، وكيف تنعكس هذه العلاقات على مجالات أخرى من الحياة الاجتماعية، وبتـعـبـير دقـيق، تعـيـين وضعـية الخــطــابات "Positivité des discours".
إن هذه المقاربة المعرفية الجديدة التي يقترحها فوكو لدراسة علاقة الخطاب، بالممارسة السياسية، نستطيع القول عنها، أنها مقاربة تبعده عن المفهوم المثالي للمـمـارسة الخطابية، و تؤسس إمكانية إقامـة ألسـنـيـة اجــتــمــاعيــة "Sociolinguistiques" تدرس علاقة المنطوقات الطبية مثلا، بمجال اجتماعي هو المستشفى.
لكن هذا المنحى الاجتماعي للخطاب، سيعرف تغيرا في "نظام الخطاب"، بحيث سيتم التركيز على سلطة الخطاب، وعلى مختلف أشكال الرقابة والمنع التي تقيمها السلطة او المجتمع على الخطاب، خاصة وان الخطاب لا يصبح أداة في يد السلطة أو نصا يعكس أهداف السلطة، بل يشكل في ذاته سلطة، كما هو واضح مثلا، في نص الأركيولوجية، الذي ثبتناه سابقا. وإن سلطة الخطاب قادرة على مناهضة وإقصاء أو إقامة السلطة، وهو ما يعبر عنه بوضوح نص "إرادة المعرفة" كما سبق وأن أشرنا إليه كذلك، ولذا لا يمكن فهم مختلف جوانب المسألة دون تحليل عميق للنظام والآليات التي تتحكم في الخطاب، وإلى البديل الذي يقترحه لدراسة السلطة وسلطة الخطاب.
ب. بين السلطة وسلطة الخطاب
يبدأ "نظام الخطاب" برسم ذلك التخوف من الخطاب، ذلك التخوف الذي يعكس في الحقيقة سلطة وقوة الخطاب، وهو تخوف تبديه الذات أو المؤسسة أو السلطة على السواء، تجاه ما يشكله الخطاب : (في حقيقته المادية، كشيء منطوق أو مكتوب، التخوف تجاه هذا الوجود العابر المتجه إلى الامحاء بدون شك، لكن خلال مدة لا نتحكم نحن فيها، التخوف من أن نحس بان تحت هذه الحركة، التي هي مع ذلك حركة يومية ورمادية، سلطا أو أخطارا لا نتصورها جيدا، التخوف من توقع وجود صراعات وانتصارات وجروح وعبوديات عبر الكثير من الكلمات، التي قلص استعمالها منذ زمن طويل، من فضاضتها).
إن الخطاب سلطة مادية، تملك القوة والقدرة، وتتضمن مخاطر ومخاوف وتحمل صراعات وما تسفر عنه من انتصارات وهزائم، من تحرير واستعبادات، سلطة تعبر الذات والمؤسسة على السواء، وتؤسس وجودها المستقل، هذا الوجود الذي يخيف الذوات، والمؤسسات، والمجتمعات، لذا يسعى المجتمع، وخاصة المجتمع الغربي، كما يشير إلى ذلك فوكو إلى فرض أشكال مختلفة لمراقبة الخطاب وسلطته. يقول فوكو :( أفترض أن إنتاج الخطاب في كل مجتمع، هو في نفس الوقت إنتاج مراقب ومنتقى ومنظم، ومعاد توزيعه من خلال عدد من الإجراءات التي يكون دورها هو الحد من سلطاته، ومخاطره، والتحكم في حدوثه المحتمل، وإخفاء ماديته الثقيلة والرهيبة).
إن مختلف الإجراءات والآليات التي يقيمها المجتمع والذات، لمراقبة الخطاب، تهدف إلى تحقيق هدف واحد وأساسي، هو الحد من سلطة الخطاب، وما يثيره من مخاوف وأخطار، هذه الآليات والإجراءات يصنفها فوكو في مجموعات ثلاث، تتفرع إلى إجراءات جزئية، نجملها فيما يلي :
أ. الإجراءات الخارجية
تتشكل هذه الإجراءات الخارجية من عمليات المنع والقسمة والرفض وإرادة المعرفة.
عملية المنع : تظهر هذه العملية في كوننا لا نملك الحق في قول كل شيء، ولا قول أي شيء، في أي ظرف من الظروف، فهنالك موضوعات ممنوعة، كالجنس مثلا، وهنالك طقوس لكل ظرف، و الامتيازات التي تملكها الذات المتحدثة. إن أشكال المنع هذه تظهر خاصة في موضوعات الجنس والسياسة. لذلك يستنتج أنه وبالرغم من أن : (الخطاب في ظاهره شيء بسيط، لكن أشكال المنع التي تلحقه، تكشف باكرا وبسرعة عن ارتباطه بالرغبة وبالسلطة).
عملية القسمة والرفض : تتجسد هذه العملية في التعارض بين العقل والجنون والذي درسه فوكو بتفصيل في "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" حيث بين أن خطاب المجنون كان يعد دائما إما خطابا فارغا ولا قيمة له ولا يمتلك أية حقيقة أو أهمية أو أن له قدرات غريبة، كالجهر بحقيقة مخفية أو التنبؤ بالمستقبل. وفي كل الأحوال، فقد كان خطاب الأحمق الموقع الذي تمارس فيه عملية القسمة والرفض.
إرادة المعرفة والحقيقة : وهي العملية الثالثة التي تبين ما هو حقيقي وما هو خاطئ، داخل خطاب معين أو ثقافة معينة. وهنا يرسم فوكو لوحة تاريخية للفكر الغربي، بدء من اليونان حتى العصر الحديث، لوحة يصف فيها مختلف الأشكال التي تظهر فيها إرادة الحقيقة، ومختلف التوزيعات التي تقيمها بين ما هو صحيح و ما هو خاطئ، بين خطاب العقل الأفلاطوني، وخطاب السوفسطائيين، بين خطاب عصر النهضة القائم على القياس والتصنيف، وخطاب العصور الوسطى الغيبي. إنها آلية واحدة، آلية إرادة الحقيقة، آلية سلطوية بالأساس، حاول بعض المفكرين والفنانين مناهضتها، من أمثال "نيتشه" و"ارتو" و"بتاي".
ب. الإجراءات الداخلية
إذا كانت الإجراءات الأولى خارجية تراقب الخطاب من الخارج، فإن فوكو يحلل مجموعة أخرى من الإجراءات الداخلية التي تخص الخطاب ذاته، وهي التي تمارس مراقبتها الخاصة : (إجراءات تعمل بالأحرى على شكل مبادئ للتصنيف والتنظيم والتوزيع، كما لو أن الأمر يتعلق هذه المرة بالتحكم في بعد آخر من أبعاد الخطاب : بعد الحدث والصدفة). وهي :
التعليق : كل ثقافة في نظر فوكو إلا ولها نصوص أساسية، تقوم بقراءتها وتأويلها وإعادة قراءتها، سواء تعلق الأمر بنصوص قانونية أو دينية أو أدبية، نصوص أولية يتم التعليق عليها دائما. فهنالك إذن نصوص أساسية وأخرى ثانوية، وإذا كانت العلاقة بينهما غير ثابتة ولا مطلقة، فإن المؤكد هو وجود تفاوت بين التعليق والنص المعلق عليه، مثلما هو الحال عليه في النص الأدبي. إن هذا التفاوت يحقق وظيفتين، فهو من جهة يسمح بتشكيل خطابات جديدة، ومن جهة أخرى فإنه لا يقول سوى ما كان منطوقا به بصمت ففي النص الأول، يتعين عليه أن يقول لأول مرة ما كان قد قيل من قبل، وأن يكرر بلا ملل ما لم يكن قد قيل أبدا. وهو بهذه الوظيفة يحد من صدفة الخطاب كحدث.
المؤلف : سبق لفوكو أن ناقش هذا الموضوع في دراسة خاصة بعنوان :"ما المؤلف" سنة 1969، وفي "أركيولوجيا المعرفة " و"نظام الخطاب"، وفي كل مرة يحاول أن يبرهن على أن المهم ليس المؤلف وإنما الخطاب. لذلك حاول في "الكلمات و الأشياء" أن يحلل تشكيلات خطابية، دون العودة إلى مؤلفيها، رغم استعماله لبعض الأسماء. وفكرة إنكار المؤلف عند فوكو، تعود إلى كونها تشكل : (اللحظة القوية للفردنة في تاريخ الفكر والمعارف والآداب، وفي تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم). إن هذه اللحظة يناقشها من الناحية التاريخية والوظيفية، حيث يرسم مختلف التطورات التي لحقت بمفهوم المؤلف، وبالوظائف التي يقوم بها، والهدف من وراء هذا التحليل هو التخلي عن فكرة المؤلف، والعودة مباشرة إلى الخطابات. لماذا؟
لأنه توجد خطابات بدون مؤلفين، كالأحاديث اليومية، والمراسيم والعقود، والخطابات العلمية التي لم تعد تسند إلى مؤلف بعينه، بالرغم من أنه قبل القرن السابع عشر، كانت الاكتشافات العلمية تسند إلى مؤلفين، ولكن الوضع قد تغير منذ ذلك التاريخ. أما الخطابات الأدبية والفلسفية فمازالت تعتمد هذه الصيغة، صيغة المؤلف .هذا الاعتماد في نظر فوكو يتجاهل الوظائف الاجتماعية للمؤلف، وتورطه في شبكة العلاقات الاجتماعية. صحيح أنه من العبث إنكار الفرد الكاتب المبدع، لكن المؤلف يحقق وظيفة اجتماعية، هدفها الحد من سلطة الخطاب، بواسطة لعبة الهوية، التي تتخذ شكل الفردية وشكل الأنا.
إن موقف فوكو من المؤلف، قريب من موقف "بارط" الذي أعلن عن : " موت المؤلف" باسم النص. حيث يرى أن المؤلف شخصية حديثة النشأة، ووليدة المجتمع الغربي، وبالرغم من كونها جديدة، إلا أن بعض الكتاب حاولوا خلخلتها، أمثال "مالارميه" الذي دعا إلى إحلال اللغة محل من كان، يعد مالكها. (فاللغة في رأيه كما في رأينا [رأي بارط] هي التي تتكلم وليس المؤلف، أن أكتب معناه أن أبلغ، عن طريق محو أولي شخصي...تلك النقطة التي لا تعمل فيها إلا اللغة، وليس "أنا"). ومن دون شك، فإن الموقف من المؤلف سواء عند فوكو أو "بارط" أملته التأثيرات البنيوية ومفهومها للغة، وموقفها من الذات، ذلك الموقف الذي عبر عنه بقوة "ليفي ستراوس" ولقي استحسانا كبيرا عند فوكو.
الفرع المعرفي : يعمل هذا الإجراء كذلك على الحد من سلطة الخطاب، وذلك بفرضه لمجموعة من المعايير، على انتماء القضايا إلى حقله، أو إبعادها عن مجاله، فهو يعكس بصورة من الصور إرادة الحقيقة. فلكي تنتمي قضية ما إلى فرع معرفي، فإنه :(يتعين عليها أن تسجل نفسها ضمن أفق نظري معين...وأن تستجيب لمتطلبات معقدة وثقيلة حتى تستطيع أن تنتمي إلى مجموع فرع معرفي ما، يتعين عليها أن تكون -و كما يقول كانغيليم- واقعة (ضمن الحقيقي)، قبل أن يستطيع القول بأنها حقيقية أو خاطئة).
والمثال الذي يتخذه دليلا على هذا، هو نظرية الوراثة عند "مندل Mendel" الذي كان يقول الحقيقة، ويستخدم منهجا علميا في التحقيق، ولكن نظريته لم تلق القبول والموافقة، بل اعتمدت نظرية أخرى لا علمية ولا حقيقية هي نظرية "شليدنSchleiden" ، لأنها كانت تندرج في الخطاب البيولوجي لعصره، ولأنها تجسدها إرادة الحقيقة، القائمة في تلك المرحلة. و معنى هذا أنه لا يكفي قول الحقيقة كما هو الحال عند "مندل" وإنما لكي يتحقق الخطاب وجب أن يتوفر على إرادة الحقيقة، وعليه فإن إرادة الحقيقة والفرع المعرفي يشكلان معا مبدءا لمراقبة عملية إنتاج الخطاب. إن : (الفرع المعرفي مبدأ لمراقبة عملية إنتاج الخطاب، فهو يعين له حدودا بواسطة لعبة هوية تأخذ شكل بعث دائم للقواعد).
وهنالك مجموعة ثالثة، تختلف عن المجموعتين السابقتين، ولا تبحث في آليات التحكم في الخطاب، ولا في سلطته ولا في الحد من ظهوره، بل تحدد شروط استخدام الخطاب، وتفرض قواعد على الأفراد الذين يستخدمونه، ويمكن تسميتها بإجراءات الاستخدام والتوظيف .
جـ. إجراءات الاستخدام والتوظيف
يعرف فوكو هذه المجموعة بقوله : (في هذه المرة يتعلق الأمر بالتقليل من عدد الذوات المتكلمة، لن يدخل أحد في نظام الخطاب إذا لم يكن يستجيب لبعض المتطلبات، أو إذا لم يكن مؤهلا للقيام بذلك، منذ البداية. و بدقة أكبر : ليست كل مناطق الخطاب مفتوحة بنفس الدرجة، وقابلة للاختراق بنفس الدرجة : فبعضها محروس وممنوع علانية...في حين أن البعض الآخر يبدو مفتوحا تقريبا أمام كل الرياح...). وتتكون هذه المجموعة من إجراءات ثلاث هي :
جمعيات الخطاب أو جماعات الخطاب "Sociétés de discours" مهمتها الحفاظ على الخطاب، وعلى تداوله في نطاق ضيق، وجعل مجاله مغلقا قدر الإمكان، كالأسرار التقنية أو التكنولوجية والعسكرية و الاقتصادية.
المذاهب الدينية والسياسية والفلسفية "Doctrines PH,R ,P" : على عكس جمعيات الخطاب، يميل المذهب إلى الانتشار، والقاعدة الأساسية التي يعمل بها هي الاعتراف بنفس الحقائق، وهو ما يحقق الانتماء المذهبي. وأما ما يخالف المذهب فيعتبر بدعة، لذلك تعتبر المذاهب شروط وحدود لتداول الخطاب وتعميم لوظائفه داخل المذهب الديني او الفلسفي او السياسي، وهدفه إخضاع الذوات والجماعات المنتمية لخطاب المذهب.
التملك الاجتماعي للخطابات "L’Appropriation Sociale des discours" :تعتبر التربية والتعليم الأداة الأساسية التي تمكن من امتلاك الخطاب، وأي نوع من أنواع الخطاب، إلا أنه وكما هو معروف، فإن المنظومة التربوية لا يمكن فصلها عن الإستراتيجية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمجتمع معين. وفي كل الأحوال فإن جماعات الخطاب والمذاهب والتربية هي الأشكال الأساسية الكبرى التي تحدد وظيفة الخطاب وتداوله وملكيته متعاونة مع المنظومة الخارجية والداخلية في مراقبة الخطاب والحد من سلطته. و في نظر فوكو، فإن تحرير الخطاب ومحو الخوف الذي يبعثه في الذات والمؤسسة، يتطلب :(اتخاذ قرارات ثلاثة يقاومها فكرنا اليومي، وهي تقابل المجموعات الثلاث من الوظائف التي ذكرتها منذ لحظة : إعادة النظر في إرادتنا للحقيقة، إعادة طابع الحدث للخطاب، وأخيرا رفع سيادة الدال). وهو ما يسمح بالحديث عن مبادئ تحرير الخطاب و هي :
مبدأ القلب Renversement : ويعني التخلي عن مبدأ المؤلف والفرع المعرفي وإرادة المعرفة، والنظر في الخطاب كحدث.
مبدأ الانفصال أو عدم الاتصال Discontinuité : ويعني دراسة الخطابات كممارسات غير متصلة أي متقطعة، واستبعاد مبدأ الاتصال والاستمرار الذي ثبته التاريخ التقليدي أو التاريخ الكلي.
مبدأ الخصوصية Spécificité : ويعني عدم إدراج الخطاب في دلالات ومعان مسبقة، أو إدخاله في لعبة التأويلات اللامتناهية، بل أن ننظر إليه كحدث متميز وكممارسة خاصة.
مبدأ الخارجية Extériorité : يجب دراسة الخطاب من حيث الظاهر دون البحث في المعنى الخفي أو الدلالة الباطنية، أي دراسة ما يظهر من الأحداث وما يرسم لها من حدود.
وعليه فان ما يثبته التحليل السابق هو أن الخطاب ليس أداة في يد السلطة، ولا انعكاسا لها فقط، بل يشكل سلطة في ذاته وهو ما يشير إليه نص "إرادة المعرفة" من كون الخطاب ليس مقسما إلى خطاب مقبول أو مرفوض، بل أن المعرفة والسلطة تتمفصل في الخطاب، وأنه يجب النظر إلى الخطاب كمجموعة عناصر تعمل في إستراتيجيات مختلفة. لذلك لا يمكن لنا أن نقول مع "دريفوس" و"رابينوف" أن هنالك فقط بعض الأفعال الخطابية التي تنزع إلى أن تكون ذات سلطة، لما تملكه من جدية، لماذا؟ لأن الخطاب يشكل في مجموعه سلطة قائمة بذاتها، وإن كانت منطوقاته تتفاوت من حيث القوة والقدرة.
كما لا يمكن أن نوافق على فهم "شريدان" القائل أن فوكو مع "نظام الخطاب" اكتشف مفهوم السلطة، لذلك غير منهجه لماذا؟ لأننا نرى أن فوكو قد حلل دائما الخطابات في علاقتها بالسلطة، دون أن نزعم أن مفهومه للسلطة قد تشكل وتبلور بشكل نهائي، بل نقول إن هذه الدراسات كانت مقدمة تجريبية لمفهوم السلطة وسلطة الخطاب، الذي يظهر فعلا بشكل واضح في "نظام الخطاب"، حيث تمت دراسته داخل حقل إستراتيجيات مختلفة وفي الوضعيات التي يحتلها .
إن ما لم ينتبه إليه جل الباحثين في فلسفة فوكو، هو أن مفهوم الخطاب لا يمكن فصله عن مفهوم اللغة، وعن ذلك التمييز بين لغة جدلية ولغة غير جدلية، بين لغة خطابية وغير خطابية، حيث تمتاز اللغة غير الجدلية وغير الخطابية بالاختراق والتجاوز والتعدي، وبالطابع الوجودي، بينما اللغة الجدلية أو الخطابية أو الخطاب بصورة دقيقة يمتاز بتلك الخصائص التي حاولنا تحليلها، والتي تختلف عن مفهوم اللغة وإن كانت تلتقي معه في المرجع والطابع الوجودي، فاللغة والخطاب لا يمكن إرجاعهما إلى الذات أو إلى المؤسسة، بل يتميزان بوجود مغاير وهو ما سمح للبعض استنتاج العلاقة البنيوية في مفهومها للغة. ولكن وعلى عكس اللغة التي ارتبطت عنده بتجارب شخصية وفنية، وأدبية، فإن الخطاب ارتبط بالدراسة العلمية، أو بلغة فوكو بالوضعية، لذا لا يجد أي حرج في أن يدرج في خانة الوضعيين، ألم يكن هدفه هو الكشف عن وضعية الخطابات وعليه يمكن القول انه عمل على :
تأسيس مفهوم جديد للخطاب لا يقوم على أصول ألسنية أو منطقية، بل يتشكل أساسا من وحدات سماها بالمنطوقات، هذه المنطوقات تشكل منظومات منطوقية، تسمى بالتشكيلات الخطابية، هذه التشكيلات تكون دائما في حقل خطابي معين، وتحكمها قوانين التكوين والتحويل.
على هذا الأساس يختلف الخطاب عن الجملة والقضية، كما يختلف التحليل الخطابي عن تحليل اللغة والتحليل المنطقي، ذلك أن تحليل الخطاب يعتمد على الوصف الأركيولوجي والتحليل الجنيالوجي، من أجل الكشف عن ندرة وخارجية، وتراكم وقبلية الخطابات، أو بتعبير دقيق يقوم على التحليل التاريخي للخطابات.
لا تعود مرجعية الخطاب إلى الذات أو إلى المؤسسة أو إلى الصدق المنطقي أو إلى قواعد البناء النحوي، وإنما إلى الممارسة. الممارسة الخطابية وغير الخطابية على أن لا نفهم العلاقة بين الممارسات على أساس السبب والنتيجة، وإنما على أساس العلاقة التبادلية.
إن تحليل الخطاب على هذا النحو، كشف عن سلطته وقدرته وفي نفس الوقت عن الآليات التي تحكمه وتحد من سلطته، كآلية المنع والرفض والقسمة وإرادة المعرفة وأشكال التملك والتمذهب...الخ. ولتحرير الخطابات من كل أصناف التأويلات والتحليلات الشكلية يقترح فوكو جملة من المبادئ، كالخصوصية والقطيعة والخارجية...إلخ، أي أن الخطاب مشروط بالصيرورة الاجتماعية ويشكل جزءا من المجتمع رغم ما يتميز به من قدرة وإمكانيات.
ثانيا – من سلطة الخطاب و اللغة إلى السلطة
ينتمي بورديو للجيل الناقد للوجودية والظواهرية، جيل"التوسير" و"بارط" و"فوكو" و "دلوز" و"دريدا"، أي ذلك الجيل الذي اهتم بالمفهوم و اللغة و تاريخ العلوم والابستمولوجيا، وكانت خلفيته العلمية تستمد قوتها من أبحاث "باشلار" و"كويري" و"كفايي "و "كونغليم"، من هنا فان المقاربة المنهجية المقدمة من قبل بورديو تجد خلفياتها العلمية في المدرسة الابستمولوجية الفرنسية بالإضافة إلى علماء الاجتماع كـ"ماركس" و "ماكس فيبر" و" دوركايهم" و" ليفي ستروس" وغيرهم، وهي خلفية ساعدته على طرح جديد ليس فقط لعلاقة الفلسفة بالعلوم الاجتماعية بل مكنته من تقديم منظور جديد للكثير من المسائل الفلسفية والاجتماعية، وخاصة في موضوع اللغة الذي سنحاول تقديم الملامح العامة لوجهة نظره.
لقد ساهمت أعمال ليفي ستروس في إعادة الاعتبار والاحترام للعلوم الإنسانية وخاصة بعد صدور الأنثروبولوجية البنيوية والفكر المتوحش، و دعوته إلى استلهام النموذج الالسني كما صاغه "دي سوسير" و "جاكبسون" و"حلقة براغ" عموما، ثم لحقتها جهود "فوكو" في الاركيولوجيا و"دريدا" في الغراماتولوجيا و"بارط" في السيميولوجيا. على أن بورديو رغم الأهمية التي أعطاها لفلاسفة وعلماء جيله إلا انه ترك مسافة ما بينه وبينهم، مسافة تنم عن عدم الرضا والتحفظ، فهو يرى إن هذا الجيل الذي تلا الوجودية : ((صحيح انهم أحدثوا قطيعة مع الفينومينولوجية السارترية والنزعة الانسانوية الهشة أو المجردة والمثالية، ولكنهم انضموا نصف انضمام الى المنهجية الابستمولوجية واعتنقوها نصف اعتناق)). وان عيب الفلاسفة يتمثل في الابتعاد عن الميدان والحياة العملية.
والنص الموالي يبين حجم وعمق المشكلات التي طرحها هذا الفيلسوف العالم، يقول : ((سوف تتخيلون إنكم في درس فلسفة لا في درس علم اجتماع. ولكن أرجو أن تعرفوا أن ما افعله ليس عملا نظريا بحتا، و إنما هو عمل نظري يجيء بعد انتهاء المعركة، أي بعد القيام بالبحوث الميدانية والتطبيقية …كان السؤال الأساسي الذي طرحناه هذا العام يخص العلاقة بين السلطة والمعرفة… وقد رأيت انه يجب تجاوز التضاد التقليدي المعروف بينهما … أريد أن أتجاوز ذلك لابين أن هنالك سلطة للنظرية، أو سلطة نظرية… لقد قمت بهذا التمرين النظري كعالم اجتماع وباحث ميداني، وحاولت تحديد قوانين السلطة النظرية و آليات اشتغالها : …وهذا ما ينساه الفلاسفة عموما، لأنهم يفكرون دائما بمصطلحات الجواهر الخالصة)). يطرح هذا النص الأسئلة الكبرى في كل علاقة ممكنة بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية، انه يطرح علاقة النظرية بالممارسة وكيفية تحققها، كما يطرح مسالة العلاقة بين العلم والسياسة ومكانة العلم بوصفه سلطة، ومساهمة العلوم الاجتماعية في تحليل هذه القضايا مقارنة بالفلسفة، وعلاقة المعرفة والسلطة كما طرحتها كتابات ميشيل فوكو.
و للخروج من الطريقة الفلسفية كما وصفها آنفا، يعلن بورديو انتماؤه إلى المنهجية المادية، ولكن ليس أية مادية و إنما المادية الناشطة وليس المادية السلبية، و بذلك يعيد أطروحة ماركس التي يعيب فيها على الماديين الذين تركوا الجانب النشط في المعرفة للمثاليين، وهذا ما يحاول بورديو انه يقيمه من خلال نظريته القائمة على : (( مادية الأشكال الرمزية)). وانه من اجل أن تعرف الذات موضوعها بشكل صحيح يجب أن تجاوز مرحلة النظر إلى مرحلة العمل، وان تدخل في الممارسة الميدانية، من هنا ممارسته للبحث الميداني في اكثر من عشرين وسطا اجتماعيا مختلفا.
ولقد انتقد بورديو البنيوية،و بين محدودية الطريقة البنيوية، رغم إقراره بأهميتها وخاصة في مسالة اللغة وطريقة معاملتها للأساطير والرموز، قائلا : (( ولكن على الرغم من ذلك جاء وقت أحسسنا فيه بالحاجة لأحداث القطيعة مع الاثنروبولوجيا البنيوية وليفي ستراوس بالذات. ذلك أن ليفي ستراوس قد حصر عمله فقط بتحليل الأنظمة الرمزية وخصوصا الأساطير، أي بالتصورات الفوقية. أما نحن فقد لزم علينا أن نذهب إلى ابعد من ذلك لكي نحلل العلاقات الاجتماعية بصفتها متماسكة وذات دلالة. بمعنى آخر فلقد نقلت البنيوية من مستوى التصورات والأساطير والمخيال إلى مستوى الممارسات الواقعية والعلاقات الاجتماعية. يوجد فضاء اجتماعي للعلاقات التي تشكل تصوراتها أو التصورات المشكلة عنها التعبير الرمزي)).
وفي الوقت الذي انتقد فيه بورديو البنيوية كما صاغها ليفي ستروس، فانه تقرب من فوكو وخاصة في مسالتين أساسيتين هما تحليل المعرفة والسلطة وتحليل اللغة أو الخطاب. ولأننا سنعالج المسالة الثانية بقليل من التفصيل لاحقا، فإننا نريد أن نشير باختصار إلى مسالة المعرفة- السلطة ، كما بينها في هذا النص الذي يقول فيه : (( إن موقفي، في خطوطه العريضة، قريب إلى حد كبير من موقف فوكو، ومع ذلك فهو مختلف جدا؟ لقد حاولت أن احلل منطق وآلية ما كنت قد أسميته بالسلطة الرمزية le pouvoir symbolique، أي السلطة التي تمارس نفسها على هيئة القدرة التي تجعلنا نرى أو نفهم أو نعرف أو نؤمن. وانطلاقا من ذلك يمكننا أن نتحدث عن السلطة النظرية أو سلطة النظرية إذا ما أعطينا لكلمة النظرية معناها الايتمولوجي الأصلي : أي برنامج الرؤية. كيف تمارس هذه السلطة دورها؟ كيف تمارس عملها؟ هنا ندخل في منطقة المعرفة/ الجهل، أو المعرفة/ واللامعرفة. ذلك أن السلطة الرمزية هي سلطة تعسفية في الأصل، ولكن الناس يعترفون بشرعيتها لأنهم يجهلون أنها تعسفية. وهذا هو الحال فيما يخص نظام الشهادات مثلا في مجتمعنا الحالي.(...) في الواقع أن السلطة ليست شيئا متموضعا في مكان ما، و إنما هي عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة، ونجد أن كل بنية العالم الاجتماعي ( =المجتمع) ينبغي ان تؤخذ بعين الاعتبار من اجل فهم آليات الهيمنة والسيطرة)). ولقد بلورة بورديو مفهوما أساسيا في تحليل السلطة و السلطة الرمزية بالخصوص وهو الرأسمال الرمزي le capital symbolique.
قلنا في الفقرة السابقة أن بورديو قد انتقد التمشي البنيوي على مستوى الأنثروبولوجية، هذا النقد في الحقيقة ينسحب بشكل أساسي على طريقة التحليل البنيوي للغة والخطاب والنص، وهو نقد طال بشكل أساسي لسانيات "دي سوسير" و" شومسكي "و مدرسة "اكسفورد" في تحليل أفعال الكلام أو الخطاب و مدرسة "فرانكفورت" وممثلها "هابرماس" في نظريته حول الفعل التواصلي، وهو نقد نقرؤه في مجموعة من الكتب أهمها : "Questions de sociologie" و " Chose dites " و "Ce que parler veut dire" و "Langage et pouvoir symbolique"، نقد يقربه من فوكو و في نفس الوقت يبين تميزه عنه وعن التيار الذي يسمى بما بعد البنيوية و بما بعد الحداثة، يقول : ( ليس التحليل البنيوي إلا تنويعا محدثا على التحليل الداخلي القديم الذي يعالج النص كشيء مستقل لا علاقة له بالخارج. (...) اعتقد فيما يخصني انه ينبغي الربط بين الفضاء الذي تتموضع فيه النصوص وبين الفضاء الذي يتموضع فيه المنتجون (أي الكتاب) ).
من هنا دعا إلى أحداث قطيعة مع القراءة الداخلية كما طبقها ليفي ستروس، والقراءة التي تربط بين الأثر وكاتبه بشكل مباشر، واعتبار النص مجرد انعكاس لحياة الكاتب الشخصية( منهجية لانسون). و كذلك مع ما يسميه بالطريقة الاختزالية التي تجعل من الأثر انعكاس مباشر للمجتمع أو طبقة معينة ( غولدمان على سبيل المثال) ليدعو إلى اعتماد ما سماه بضرورة الكشف عن : ( بنية العلاقات بين نصوص فترة زمنية محددة( وليس نصا معزولا بمفرده) وبين بنية المواقع التي يحتلها مؤلفوها داخل الحقل الأدبي ). و هذا ما سماه فوكو في اركيولوجيا المعرفة، بدراسة التشكيلة الخطابية لحقبة تاريخية معينة، و دراسة بنية النص والمواقع تؤدي إلى الحديث عن مختلف الوسائط التي تتحكم في عملية الإنتاج الثقافي.
بمعنى الاعتراف بالفضاء الخصوصي الذي ينتج فيه الكتاب أعمالهم، دون عزله عن الفضاء الكبير الذي هو المجتمع. أي أن بورديو يعترف بخصوصية الفضاء الثقافي و صراعاته و رهاناته وانه ليس فقط انعكاس آلي أو مباشر للمجتمع. فمصالح الفضاء الثقافي قد لا تكون هي نفس مصالح الفضاء الاجتماعي أو على الأقل قد تكون مصالح مختلفة. من هنا ضرورة تحليل الأثر الثقافي : (لذاته وبذاته قبل أن نربط بشكل عمومي وغامض بين الأعمال الأدبية والتشكيلات الاجتماعية الكبرى). أو كما يقول في مكان آخر : ( الشيء الذي يفرق منهجيتي عن منهجية هؤلاء هو أنني أدرس عناصر اللعبة التي تتولد فيها المصالح الخاصة للمثقفين والاهتمام الجزئي بمصالح الآخرين معا. إن مصالح المثقفين داخل الحقل الثقافي الخاص بهم لا يمكن أن تختزل إلى مجرد مصالح طبقية). لكن بورديو يعترف بان هذه المنهجية تواجه عقبات معرفية متصلة بتفسير الموهبة والإبداع والعبقرية، مؤكدا على أن هذه المفاهيم قبلية، تحول دون فهمنا من أن :( المبدع مهيأ سلفا عن طريق أوضاعه الاجتماعية الخاصة والملائمة لكي يحتل موقعا محددا داخل حقل ما. وغالبا ما يكون هذا الموقع غامضا في البداية).
وإذا ما تصفحنا كتابه الأساسي الخاص باللغة" ماذا يريد الكلام ان يقول "، فأننا نجده ومنذ الصفحة الأولى يناقش مختلف أشكال السيطرة التي يمارسها النموذج اللساني على العلوم الاجتماعية، وهو في هذه السياق قريب من حساسية فوكو من اللسانيات البنيوية، مبينا أن الحل الوحيد يتمثل في إظهار انه حتى العمليات اللغوية ذات أساس اجتماعي. وفي نظره فان القبول بنموذج دي سوسير في التحليل يعني معالجة العالم الاجتماعي بوصفه فضاء للتبادل الرمزي وبالتالي اختزال الفعل الاجتماعي إلى فعل الحوار او التواصل، الذي يجب أن ينحل بدوره إلى اللغة والثقافة.
وللقطع مع هذه الفلسفة الاجتماعية، ـ كما يقول، ما دام قد سبق له وان قدم نقدا ابستمولوجيا للبنيوية في كتابه "الحس العملي" ـ فانه يجب التأكيد على أن التبادل والتواصل يرتكز على علاقات قوى، داعيا في نفس الوقت إلى تجاوز النظرة الاقتصادية الفجة لأشكال التبادل الرمزي، مقدما مفهومه الأساسي في التحليل اللغوي وهو بنية السوق اللغويةstructure du marché linguistique فالنحو لا يحدد المعنى بقدر ما يحدده السوق، السوق اللغوي. وان الرسالة اللغوية لا تفهم ألا بوصفها نتاج لساني، و أن التأويلات تكون على قدر العلاقة التي يقيمها المنتجون. من هنا يعتقد أن (السوق ـ السوق اللساني ـ يساهم في القيمة الرمزية وفي معنى الخطاب معا). ولكن ما ذا يقصد بالسوق اللغوية ؟ يقول : (توجد السوق اللغوية عندما ينتج شخص ما خطابا موجها لمتلقين قادرين على تقييمه وتقديره ومنحه سعرا معينا. والسوق اللغوية شيء ملموس جدا ومجرد جدا في آن واحد. فمن الناحية الواقعية، تعتبر السوق وضعية اجتماعية رسمية مطقسنة إلى هذا الحد او ذاك، أنها بمثابة مجموعة من المتحاورين الذين يشغلون مناصب عليا إلى هذا الحد او ذاك في سلم التراتب الاجتماعي).
يتصل مفهوم السوق اللغوية بمفهوم الرأسمال اللـغويle capital linguistique الذي يعوض بوجه من الوجوه، الكفاءة اللغوية، وهو ما يعني وجود أرباح لغوية... وعليه فيمكن (للغة أن تقوم بالوظيفة التي يعتبرها اللغويون محايثة لها، أي الوظيفة التواصلية، دون أن تتوقف عن القيام بوظيفتها الحقيقية، أي الوظيفة الاجتماعية، فوضعيات علاقات القوة اللغوية هي الوضعيات التي يمكن فيها الكلام دون تحقيق التواصل. كحالة القداس مثلا). فمثلا : يكون للصراعات الدائرة بين الناطقين بالفرنسية والناطقين بالعربية في عدد من الدول العربية التي كانت تخضع للاستعمار الفرنسي سابقا، : (دوما بعد اقتصادي بالمعنى الذي أعزوه لهذه الكلمة، أي أن المالكين لكفاءة معينة يدافعون على يمتهم الخاصة كمنتجين لغويين من خلال الدفاع عن سوق معينة تلائم منتوجاتهم اللغوية الخاصة). أي أن النظرية التي يقترحها، بورديو تسمح لنا بفهم انه يمكن ألا تكون للصراعات اللغوية قواعد اقتصادية واضحة، ولكنها تتضمن فوائد حيوية للغاية تكون أحيانا اكثر حيوية من الفوائد الاقتصادية بالمعنى الضيق.
ولكن، إذا كانت اللغة تخضع للسوق اللغوية ويحكمها الرأسمال اللغوي بوصفه رأسمالا رمزيا، فان مشكلة الأسلوب Le style، بما هي دليل على حضور الفرد وتميزه، ذلك أن ما يتحرك في السوق اللغوية ليس اللغة ولكن خطابات متميزة أسلوبيا، سواء في طريقة إنتاجها أو منتجيها أو مستقبلها. فليس هنالك من كلمة محايدة، وكل كلمة يمكن أن تأخذ معاني متعارضة أو متضادة أو متناقضة، وذلك بحسب ما يقدمها المرسل ويستقبلها المستقبل. واحسن مثال على ذلك هو اللغة السياسية والدينية. إن هذه الاختلافات اللغوية لا ترجع في نظره إلى أفراد ولكن إلى بنية الفضاء الاجتماعي الذي يكون لاشعوريا وبنية الفضاء الثقافي لقائلي تلك اللغة. ولكن هذا لا يمنع من أن على علم الاجتماع أن يحترم استقلالية اللغة و منطقها الخاص و قواعدها الذاتية في العمل. فنحن لا نستطيع فهم الأثر الرمزي للغة ما لم نأخذ بعين الاعتبار الفكرة القائلة إن اللغة هي الآلية الصورية الأولى التي تملك قدرات عامة و لامتناهية. إذ من الممكن أن نتلفظ بكل شيء في اللغة، ولكن في حدود نحوها.
إذا كان بورديو قد طور قاموسا خاصا به في التحليل مثل مفهوم الحقل، والحقل اللساني، والرأسمال الرمزي، و السلطة الرمزية، والسوق اللغوية والرأسمال اللغوي ...الخ، فأننا نريد أن نتوقف بشكل خاص عند مفهوم سلطة الخطاب وخطاب السلطة. أي ما يجمعه بميشال فوكو، حيث نجده ينتقد أطروحة "اوستين" التي تعطي سلطة لبعض للــكـلمات كما طرحها في كــتــابــه" Quand dire c’est faire" أو "How to do things with words "، كما رفض ذلك التمييز "الساذج" ـ كما يقول ـ الذي أقامه دي سوسير بين اللسانيات الداخلية والخارجية، بين اللغة واستعمالاتها من قبل مستعمليها، نافيا فكرة سلطة الكلمات، معترفا بان القوة الخطاببة للعبارات لا تكمن في نفس الكلمات. وان كان هنالك حالات استثنائية فقط تختزل التبادلات الرمزية إلى علاقات تواصلية محضة. إن سلطة الكلمات ليس اكثر من السلطة المفوضة لناطقها، وان كلماته، أو مادة خطابه، ليست اكثر من شهادة من بين شهادات أخرى، لضمان التفويض الذي يتم استثماره.
يقول : ( فليست سلطة الكلام ألا السلطة الموكولة لمن فوض إليه أمر التكلم والنطق بلسان جهة معينة. والذي لا تكون كلماته (أي محتوى خطابه و طريقة تكلمه في ذات الوقت ) على اكثر تقدير، إلا شهادة، من بين شهادات أخرى، على ضمان التفويض الذي أوكل للمتكلم (وان) أقصى ما تفعله اللغة هو أنها تمثل هذه السلطة وتظهرها و ترمز إليها). فليس هنالك سلطة الخطاب هنالك فقط خطاب السلطة، وان هذا الخطأ ـ في نظره ـ وقع فيه اوستين ولحقه في ذلك هابرماس، وذلك عندما اعتقدا انه من الممكن أن يستخرجا من الخطاب ما يشكل فعالية الخطاب. إن هذا التحديد يتفق و يختلف في نفس الوقت مع فوكو، فإذا كان فوكو يعتبر أن للخطاب سلطته الخاصة وذلك من منطلق فلسفي وجودي، ينحو منحى نيتشه وهيدغر، فانه لا يفصل الخطاب عن السلطة والمجتمع معا، وهو ما بينه في مختلف الإجراءات الخارجية أي : (عمليات المنع والقسمة والرفض وإرادة المعرفة) والداخلية أي : (التعليق والمؤلف والفرع المعرفي) والتوظيف أي : (جماعات الخطاب والمذاهب الدينية السياسية والفلسفية و التملك الاجتماعي للخطاب) والتي تحدث عنها في "نظام الخطاب" وبيناها في العنصر الأول من هذه الدراسة، وإذا كان فوكو يقر بأهمية تحديد اوستين للملفوظ او للمنطوق، فانه يختلف معه في طريقة التحليل، تلك الطريقة التي تجد مجال تحققها في التاريخ وفي ربطها للملفوظ بالسلطة مع مفهوم جديد وخاص لها. من هنا فان فوكو وان كان تحليله للخطاب يتفق ومضمون المنطوق كما صاغه اوستين إلا أن منهج التحليل يختلف لأنه يجري في البعد التاريخي وفي إطار العلاقة بين المعرفة والخطاب والسلطة والخطاب، وبذلك يتفق مع تحليل بورديو الذي يلح على الطابع الاجتماعي للخطاب وعلى ارتباطه بالمؤسسة وبالسلطة الرمزية. هذه السلطة الرمزية التي لا يمكن أن تتحقق في غياب الاعتراف الذي يدلي به الخاضع لتلك السلطة.
ولكن تحليل الخطاب عند بورديو لا يمكن أن يكون تحليلا لذاته، أي لذات الخطاب، وهو ما يفرقه عن فوكو، لان الوحدات الصورية للخطاب لا تقدم معناها إلا إذا تم ربطها بالشروط الاجتماعية لإنتاجها، بمعنى للمكانة و الوضع الذي يحتله مؤلفوها في حقل الإنتاج، ومن جهة أخرى إلى السوق الذي انتج من اجله، و كذلك الاستحقاقات les echéants المطلوبة. يقول (( إن علم الخطاب بوصفه تداولية اجتماعية يوجد اليوم في مكان شاغر أو غير مشغول، رغم أن هنالك من سبق إلى ذلك لقد بدا مع بسكال في Provinciales و نيتشه في antéchrist و ماركس فيIdéologie allemande، ويهتم أو يعمل فعليا على الاكتشاف في الوحدات الأكثر صورية للخطاب، أثار الشروط الاجتماعية لإنتاجها و توزيعها)). وعلى التحليل أن يبين أو يعين الوحدات الاجتماعية للأسلوب والوحدات الاجتماعية للمؤلف، أي إلى " لسانيات اجتماعية" كما قال بذلك" كوبال و غاردان" في قراءتهما لفوكو.
يقول بورديو، مستخلصا النتائج القصوى لتحليلاته، ما نصه : ( نتبين الآن أن جميع المجهودات التي بذلت لترى في المنطق اللغوي الذي يتحكم في مختلف الأشكال الاستدلالية والبلاغية والأسلوبية، سبب الفعالية الرمزية لتلك الأشكال، لابد وان تبوء بالفشل ما دامت لا تقيم علاقة بين خصائص الخطاب وصفات من يلقيه وسمات المؤسسة التي تسند إليه أمر الإلقاء). فعلى سبيل المثال أن خطابا سلطويا كدرس الأستاذ و خطبة الواعظ الديني، لا يفعل فعله ألا شريطة أن يعترف به كخطاب نفوذ وسلطة. وهذا الاعتراف الذي يصاحب بالفهم أو بدونه، لا يتم بيسر وسهولة إلا ضمن شروط خاصة، وهي الشروط التي تحدد الاستعمال المشروع (فالخطاب ينبغي إن يصدر عن الشخص الذي سمح له بان يلقيه، أي عن هذا الذي عرف، واعترف له، بأنه أهل لان ينتج فئة معينة من الخطابات وانه كفء و جدير بذلك ...كما انه ينبغي أن يلقى في مقام مشروع، أي أمام متلقي شرعي... وأخيرا ينبغي للخطاب أن يتخذ الصورة الشرعية القانونية أي إن يخضع لقواعد النحو والصرف...).
وعليه فان القاعدة النظرية التي ستشكل منهج تحليل الخطاب عند بوردية :هي انه ( لا تحكم لغة السلطة وتأمر ـ كما يقول ـ إلا بمساعدة من تحكمهم، أي بفضل مساهمة الآليات الاجتماعية القادرة على تحقيق ذلك التواطؤ الذي يقوم على الجهالة، والذي هو مصدر كل سلطة). لذا يدعو إلى ما يسميه "تداولية اجتماعية une pragmatique sociologique" ومضمونها انه مادامت اللغة لا تتضمن في ذاتها سلطة، وان كانت تتضمن في ذاتها وفي منطقها الداخلي ما يؤدي إلى تجاوزات السلطة الذي هو البرهان الخاطئ أو القياس الخاطئ le paralogisme، أي القدرة على التضليل وهو ما ينسب إلى السفسطائيين كما ذهب إلى ذلك أفلاطون، السوفسطائيون الذين استفادوا من إمكانية أن اللغة قادرة على أن لا تقول شيئا وان تقول اللامعنى أو أن توجد في الكلمات وبواسطة الكلمات ما لا يوجد في الواقع. نعم للغة هذه الإمكانية ولكن، وباستثناء هذه الإمكانية، فان للغة وجودا اجتماعيا، وسلطتها مستمدة من ذلك الوجود، وحتى اللغة السوفسطائية مستمدة من قوة السوفسطائيين ،كما بين ذلك مرة أخرى أفلاطون.
وأن نظام التسمية و عبارة : أننا نسميك دكتورا،على سبيل المثال، تعني التسمية وفي نفس تعني شكلا من الوجود الاجتماعي. مما يعني أن القياس الخاطئ لا يمكن محاربته فقط بقياس منطقي، وإنما بإظهار خطئه اجتماعيا. صحيح انه في العالم الاجتماعي الكلمات بإمكانها أن تصنع الأشياء ولكن هذا لا يتم إلا وفق شروط معينة. وهو ما يعني أن العلم الاجتماعي له أسبابه ومبرراته التي لا يعرفها المنطق نفسه، وانه لمن المفيد أن نحاول تبرير فعالية شكل معين من العبارة كالخطاب السياسي او الأثر الأدبي افضل من هذه الوحدات الصورية.
من الواضح أن المفاهيم المستعملة من قبل بورديو ذات منشأ اقتصادي إلا أنها مكيفة لتحليل الحقول التي هي ليست اقتصادية بالمعنى الحصري للكلمة. ولكن من دون شك، فإنها النقطة التي تؤدي إلى سوء الفهم وخاصة النظر إلى نظريته بوصفها نوعا من الاختزال الاقتصادي. على انه إذا كان استعماله للمفاهيم الاقتصادية يمكن أن يطرح بعض المشاكل فان فكره من التعقيد ما يبعد عنه شبه الاختزال. ذلك انه لا يقوم برد لجميع الحقول الاجتماعية إلى الاقتصاد و لا كل الممارسات الاجتماعية إلى الاقتصاد كما تفعل الماركسية، ولكنه بالعكس يحدد الاقتصاد بالمعنى الحصري للكلمة بوصفه حقلا من بين حقول متعددة التي لا ترد الواحدة إلى الأخرى. وعليه فان الحقول التي لا تكون اقتصادية لا يمكن أن تعمل وفقا لمنطق اقتصادي أي محكومة فقط بالناحية المالية. ولكن من الممكن أن تخضع إلى المنطق الاقتصادي بالمعنى الواسع وذلك إذا توجهت نحو الزيادة في رأسمال معين كالرأسمال الثقافي أو الرمزي. وهو ما يعني أن بورديو يقيم علاقة بين الأفعال والمصالح بين ممارسات الفاعلين والمصالح، دون الإقرار بالضرورة أن هذه المصالح اقتصادية بحتة. فإذا ما أردنا أن نعرف المصالح التي يلعب بها او هي موضوع رهان في الإنتاج الأدبي أو الفني فيجب تشكيل الحقل الفني في علاقته بالحقل الاقتصادي والسياسي الخ.
و لا تخرج نظريته في اللغة والخطاب والتبادل اللغوي عن نظريته في الممارسة. فالمنطوقات والعبارات اللغوية هي أشكال من الممارسة، وهي وجهة نظر قريبة من فوكو الذي يتحدث دائما عن الممارسات الخطابية والممارسات غير الخطابية، وبوصفها كذلك يجب فهمها على أنها نتاج العلاقة بين المظهر اللغوي والسوق اللغوية. فالمظهر اللغوي هو مجموعة من الإجراءات المكون للمظهر اللغوي مثل عمليات تعلم اللغة في سياقات معينة كالأسرة والمدرسة. وان المظهر اللغوي مغروس في الجسد ذاته كالصوت مثلا او ما يسميه بالأسلوب في التلفظ. طبعا أن مثل هذه الآثار قد تم دراستها من قبل علم اجتماع اللغة و الانتربولوجيا اللغوية والمهتمون باللغات الشعبية أي ما يدخل في باب الجغرافيا اللغوية. وان أشكال النطق لا تلحق الجسد ولكن تلحق كذلك الطبقات والفئات الاجتماعية. فالنطق عند الفئات الشعبية يختلف عنه عند الفئات الأرستقراطية أو الثرية وكذلك الحال بالنسبة للريف والمدينة.
إن الملفوظات والعبارات اللسانية يتم إنتاجها دائما في سياقات وأسواق خاصة. وان هذه الأسواق تعطي لهذه المنتوجات اللغوية قيمة. والقيمة تخضع بالطبع لمبدأ الكفاءة العملية، وهو مبدأ غير متساوي يخضع لعملية الرأسمال اللغوي. وان كان الرأسمال اللغوي يؤدي إلى الرأسمال الاقتصادي والثقافي. وانه كلما كان رأسمال المتحدث مهما، كلما كان هذا الأخير له المقدرة في استغلاله لصالحه، أي أن هنالك نظام التفارق أو الاختلافات، وضمان بالتالي للمصلحة في التميزprofit de distinction. كما يربط اللغة كذلك بمسالة الرقابة واللغة الشرعية، ففي حديثة عن السلطة الرمزية يتحدث دائما عن الاعتراف والتجاهلreconnaissance et méconnaissance. يقول : ((فالخطاب ينبغي أن يصدر عن الشخص الذي سمح له بان يلقيه، أي عن هذا الذي عرف، واعترف له، بأنه أهل لان ينتج فئة معينة من الخطابات وانه كفء و جدير بذلك ...(كالقس أو [الإمام] والأستاذ والشاعر) كما انه ينبغي أن يلقى في مقام مشرع، أي إمام المتلقي الشرعي... وأخيرا ينبغي للخطاب أن يتخذ الصورة الشرعية القانونية (أي أن يخضع لقواعد النحو والصرف...) و هكذا فان ما يمكن أن نطلق عليه شروطا طقوسية، واعني مجموع القواعد التي تتحكم في شكل المظهر العمومي للسلطة ومراسيم الاحتفالات والقواعد التي تضبط الأعمال والتنظيم الرسمي للطقوس، لا تشكل إلا شرطا واحدا اكثر تجليا من بين مجموعة من الشروط التي أهمها هي تلك التي تهيئ للاعتراف أن يكون، في ذات الوقت تجاهلا وإيمانا، أي التي تهيئ لتسليم سلطة تعطي الخطاب المشروع قوته وتؤمن بنفوذه)). إن هذه الشروط ليست بعيدة عن مجمل الإجراءات الخارجية والداخلية والوظيفية التي تحدث عنها فوكو.
وعليه فانه و بعيدا عن مسالة أسبقية اللغة عن المجتمع او الخطاب والسلطة التي تظل مسالة مطروحة، فان دراسة العلاقات المختلفة بينهما، ذات أهمية أساسية، وخاصة دراسة علاقة اللغة بالسلطة و بالفاعلين الاجتماعين، وتبدو لنا مساهمة فوكو و بورديو، ذات فائدة منهجية في تحليل مختلف المشكلات اللغوية والرمزية للمجتمع، وذلك من حيث الربط بين الخطاب والممارسة او ما يسميه فوكو بالممارسة الخطابية وغير الخطابية، وما يسميه بورديو بنظرية الممارسة. وعلى الرغم من الاختلاف في القيمة المعطاة للخطاب، حيث نلاحظ اهتمام فوكو بمكونات الخطاب ذاته على حساب اجتماعيته أو اقتصاديته إلا أن تحليلاته وخاصة للجريمة و الجنس قد بينت مدى الأهمية التي يعطيها للمجتمع، وكذلك فانه وعلى الرغم من إصرار بورديو على الطابع الاجتماعي والاقتصادي للغة، إلا انه بين آليات عمل بعض الخطابات وخاصة الخطاب الديني و السياسي والأيديولوجي و أكد على استقلالية الآليات اللغوية. كما أن الجانب الذي يجمع بينهما هو نقد التيارات الأساسية في اللسانيات وفلسفة اللغة، رغم دعوة كل وواحد منهما إلى نظرية خاصة، كدعوة فوكو إلى التحليل الاركيولوجي الجينيالوجي للغة والخطاب، ودعوة بورديو إلى تداولية اجتماعية للتبادل اللغوي، و ما يجمعهم كذلك، هو هذا الإحساس بضرورة نقد النموذج اللساني والعمل على إظهار آليات السلطة والمعرفة في كل خطاب ولغة.
و إذا كان مجال تفكير وبحث فوكو هو التاريخ فان مجال عمل بورديو هو المجتمع، فان المشترك بينهما هو تحليل السلطة والمعرفة والخطاب من منظور العلاقات والممارسات، سواء تلك الممارسات التجريبية التي حللها فوكو او الممارسات الاجتماعية للرأسمالي الرمزي التي درسها بورديو، وعليه نستطيع التأكيد على أن ما يجمع المقاربتين، على ما فيهما من خلاف واختلاف، هو النظر إلى اللغة والخطاب بوصفهما شكل من أشكال الممارسة الاجتماعية.