وثيقة:من الغضب وإلى الغضب نعود
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | ديانا مجدي |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | مدى مصر |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://madamirror10.appspot.com/madamasr.com/ar/2019/02/04/opinion/u/من-الغصب-وإلى-الغضب-نعود/
|
تاريخ الاسترجاع | |
نسخة أرشيفية | https://archive.fo/i6Lub
|
قد توجد وثائق أخرى مصدرها مدى مصر
أنا نسوية غاضبة خاصة بسبب تجاهل الغضب النسوي. اخترت أن أخص الحديث هنا عن الغضب النابع من التجربة النسوية من نساء نسويات أو غير نسويات. بالتالي أركز على الغضب في إطار التجربة النسوية وأضفي على هذا النوع من الغضب الصفة السياسية، وكيف أنه أحد مظاهر الفعل النسوي السياسي. الغضب كما أزعم في تلك المقالة لا ينتج نقدًا نظريًا فقط، إنما يطرح سياقًا، وحالة حسية، وظرف الفعل الناتج عنه.
حاولت أثناء موجة غضبي العودة إلى تجارب نسوية سابقة، لأرى كيف تعاملت النسويات السابقات مع الغضب النسوي وموجات التحقير والتضئيل من غضبهن، وخاصة ممن يصفون أنفسهم بحلفاء تقدميين/ات. وعندما عدت لقراءة تلك التجارب، تعجبت من قيام كثيرين بتجريد تلك التجارب من المشاعر والأفعال الحسية التي قدمت لنا تلك المعرفة. وتساءلت عمّا إن كان علينا التعامل مع المعرفة المنقولة لنا كنص وشعارات مجردة من سياقها، أم يجب أن نلتفت لهذا السياق مع توسيعه ليشمل ليس فقط الحدث وتاريخه، وإنما ما صاحبه أيضًا من مشاعر وتأملات. ومن هنا يسعى المقال إلى ربط تجارب نسويات سابقات في مصر أو خارجها، من خلال مفهوم الغضب النسوي.
ماذا يعني أن تكوني نسوية؟ وما علاقة الغضب بالنسوية؟
تعلمت أن تقديم ذاتي كنسوية يأتي من وعيي النسوي، وهو -كما عرّفَته جردا ليرنر– إدراك وقوع تمييز مبني على النوع ضدي، وتعلمت كذلك أن هذا الوعي يصحبه فعل لرفض وتغيير هذا التمييز والقهر. أرى أن الغضب هو الشعور المحفز للوعي والفعل المبني على الإحساس. اللحظة التي أغضب فيها من واقع التمييز ضدي هي لحظة كاشفة تجعلني أستوعب أن هذا التمييز يتم لكوني امرأة، ويستمر الغضب معي لرفضي التصالح مع هذا الوضع أو الاستمرار في قبوله. من هنا، يتحول غضبي لفعل بالتواصل مع تجارب تتفهم هذا النوع من الغضب، ويتطور لتكوين حراك يسعى لخلق أدوات وآليات لوضع حد لهذا التمييز.
ولأتواصل مع النسويات الغاضبات، وأنظر لتجاربهن المختلفة ذات السياقات المتعددة، أعود مرة أخرى لأول المفاهيم التي تعلمتها وشكّلت ذاتي النسوية، وهو أن «الشخصي سياسي»، وهو عنوان مقالة كارول هانيش التي نُشرت لأول مرة عام 1970، بعد عام من كتابتها كمذكرة، كما أوضحت كارول في المقدمة التي ضمتها للمقال عام 2006؛ حتى تكشف لنا عن طبقات الغضب في السياق التاريخي لكتابتها لتلك المذكرة.
تذكر كارول كيف انبثقت «حركة تحرير النساء» من حركات فترة الستينيات التحررية، المناهضة للحرب والمدافعة عن الحقوق المدنية، من المجموعات اليسارية القديمة والجديدة. وتروي أنها انضمت إلى Southern Conference Educational Fund لكونها واحدة من المؤسسات الأكثر تقدمية المتمتعة بمواقف جيدة تجاه قضايا العرق والعمل على أساس العدالة السياسية والاقتصادية. بالرغم من ذلك، نالت كارول ومعظم زميلاتها في حركة تحرير النساء الكثير من الهجوم بدعوى أن حركتهم “غير سياسية” بالشكل الكافي من وجهة نظر المؤسسة والمجموعات الراديكالية وبعض النسويات الأخريات. كان هذا الهجوم ضد الحركة لأنهن أفردن مساحة كبيرة من العمل على مجموعات نقاش بين النساء تتناول أوضاعهن ومشاكلهن في المجال الخاص.
تكمن أهمية تلك المقالة في كونها الورقة الملهمة التي أصلت تسييس المجال الخاص وربطته بالمجال العام في ما يخص قضايا النساء. وهي بالأساس وليدة غضب كارول وزميلاتها. توضح كارول أن ما تحتويه ورقة «الشخصي سياسي» -التي ترد بها على كل من سخر منهن- والنظرية التي بها، كانت في خضم المعركة على الهجمات التي شنتها SCEF وبقية الحركة الراديكالية. «من المهم أن ندرك أن الورقة نتجت من النضال. ليس فقط نضالي الشخصي في SCEF ولكن نضال حركة تحرير النساء المستقلة ضد أولئك الذين كانوا يحاولون إما إيقاف الحركة أو دفعها إلى اتجاهات أقل تهديدًا».
تمكنت كارول في هذا الوقت من ترجمة غضبها وغضب المجموعة إلى خطاب ونظرية نقدية واجهت بهما المجموعات الأكثر تقدمية. تستدعي كارول الكثير من الغضب عند وصف شعورها تجاه تلك المجموعات التي «استخفت بنا بلا حدود لمحاولاتنا استدعاء ما سميناه بـ «المشاكل الشخصية» إلى المجال العام، وبشكل خاص «كل قضايا الجسد» مثل الجنس، والمظهر والإجهاض”. فقد تم وصف حلقات النقاش التي كانت تديرها الحركة بأنها حلقات «معالجة شخصية» وليست نشاط سياسي، وأنها لا تنتج حراك سياسي يعوّل عليه. تصف كارول ذلك قائلة: «من المهين لي أن يُعتقد بأني أو أي امرأة أخرى بحاجة إلى العلاج في المقام الأول. النساء مغبونات لا مخبولات!».
وهنا يتصاعد غضبي الشخصي؛ حيث أرى كيف أن النسويات عبر الأزمنة واختلاف السياقات لا يناضلن فقط ضد الدولة لإجبارها على أخذ النسويات على محمل الجد، ومن أجل جعل قضايا النساء ظاهرة ومطروحة، لكنهن يناضلن أيضًا ضد حلفائهن من التقدميين والمجموعات الديمقراطية. نجد أن حلفائنا يمارسون نفس المنهجية الأبوية التي تمارسها الدولة على النسويات؛ بتحديد ماهية أولوياتهن، وتقييم ما هو جاد وما هو ليس جاد، ما هو سياسي وما هو غير سياسي، وبالتالي ما يجب استدعاؤه في اللحظة الراهنة وما لا يجب.
في السياق الذي كتبت فيه كارول، كان يتم وصف النساء والموضوعات التي يتم نقاشها بأنها «apolitical»، «غير سياسية». أما هنا في مصر، فتوصف بعض النسويات مثيلات كارول وزميلاتها اللاتي لا تتفق أولوياتهن مع أولويات حلفائهن التقدميين/ات بـ «النسويات غير الجادات”. وإشكاليات هذا المسمى عديدة؛ أولًا، فكرة تصنيف النسويات من المجموعات التقدمية إلى مجموعات نسوية «جادة» ونسوية «غير جادة» هو بالأساس فعل أبوي سلطوي. ثانيًا، يتحدد بناء على هذا التصنيف من هم الأشخاص المؤهلون لتقديم النقد، من يستحق البحث في غضبه والإنصات لأفكاره، وبالتالي من سيتم الالتفات له ومن سيفَضَّل تجاهله.
يعتمد هذا التصنيف على عوامل عديدة من علاقات القوة، مثل تحديد الأشخاص الذين لهم باع وتاريخ في العمل العام والحقوقي والعلاقات الاجتماعية داخل هذا «التيار التقدمي». بالإضافة إلى ذلك، الخلفية الثقافية والمعرفية لأولئك الأشخاص تحدد بالتبعية أسئلة استنكارية نتج عنها أو لم ينتج سرد لمعرفة موسوعية عن النسوية والصراع الطبقي والنظرية الماركسية، وكأن التجربة والواقع المعاش لا ينتجان معرفة. بالتالي، فمن المرجح أن نجد كل النساء ذوات التجارب النسوية قصيرة العمر غير مؤهلات لإبداء الرأي أو الاشتباك مع نقدهن، ولا حتى الاعتراف بوجودهن كنسويات.
وهنا، أوجه غضبي لبعض النسويات اللاتي يقفن متفرجات في صمت على هذا التصنيف الأبوي الذي يبني جدارًا بين أجيال الحركة النسوية بدلًا من استمرارية الحوار والتواصل بيننا عبر مختلف الأجيال والتجارب النسوية.
ومن الغضب ما يقتل
بالنظر سريعًا لتجارب سابقة، نجد أن الغضب النسوي لطالما كان موجودًا في تراث الحركة النسوية في مصر كنتيجة شعور بالخذلان من الحلفاء حول ترتيب الأولويات الوطنية. نجد أيضًا أن مسمى «نسوية غير جادة» هو امتداد لمصطلحات تحقر من تجارب النساء في المجال العام وفي السياسة بشكل خاص.
على سبيل المثال، لم ترحم الدولة درية شفيق، واستمرت في التقليل من شأنها من خلال نعتها في الجرائد الوطنية بألقاب مثل «الزعيمة المعطرة»، و«زعيمة المارون جلاسيه»، و«عارضة الأزياء». كما لم ترحمها القوى المعارضة ورموز الحركة الشيوعية، الذين صوروها -كما تقول درية في مذاكرتها- بأنها «خائنة للثورة»، بعد اعتصامها داخل السفارة الهندية احتجاجًا على الممارسات السياسية لجمال عبد الناصر.
كان درية قد دخلت السفارة الهندية، في 6 فبراير 1957، وأرسلت بيانًا لعبد الناصر تقول فيه: «نظرًا للظروف العصيبة التي تمر بها مصر قررت بحزم أن أضرب عن الطعام حتى الموت، وأنا كمصرية وكعربية أطالب السلطات الدولية بإجبار القوات الإسرائيلية على الانسحاب فورًا من الأراضي المصرية.. وأطالب السلطات المصرية بإعادة الحرية الكاملة للمصريين رجالًا ونساءً، وبوضع حد للحكم الديكتاتوري الذي يدفع بلادنا إلى الإفلاس والفوضى، وقد اخترت السفارة الهندية لأن الهند بلد محايد، ولن أتهم بأنني فضلت معسكرًا ما».
فكما عانت كارول هانيش مع المجموعات التقدمية التي كانت ترى في تفرد واختلاف كارول وزميلاتها «تهديدًا» لأولويات الحراك، عانت درية من قمع الحركات التقدمية التي رأت في اختلافها تهديدًا للحركة الوطنية.
ردًا على اعتصامها في السفارة الهندية، صدر بيان «نساء مصر يستنكرن بيان درية شفيق»، في هذا البيان، نرى رموز الحركة النسوية، مثل سيزا نبراوي، والحركة الشيوعية، مثل إنجي أفلاطون، وأخريات يهاجمن ويستنكرن بشدة موقف درية الذي يشوه صورة الثورة. توثق إنجي في مذكراتها كيف اتحدن ضد درية وجمعن توقيعات تدينها. فقد وصفت إنجي اعتصام درية في السفارة الهندية بـ «المسرحية» التي أدت إلى انتهاز «وكالات الأنباء فرصة هذه المسرحية لزيادة حملة الهجوم على مصر الوطنية مدعية أن المرأة المصرية ضد الثورة وضد الحكومة الوطنية».
حتى الأن لا أستطيع استيعاب هذا النوع من القهر الذي مارسته هؤلاء النساء بمحاولة التبرؤ من فعل درية واستنكار اعتصامها وقطع أي صلة بها. فلم يكفيهن أن يتم تحديد إقامتها ومحو اسمها من التاريخ بأمر من الدولة، التي منعت ذكر اسمها في الصحف أو تسليط الضوء على إنتاجها الفكري أو ذكرها ضمن الشخصيات التاريخية المناصرة لحقوق المرأة في ذلك الوقت، بل تسابقن في جمع توقيعات من الشخصيات النسائية لضمها لبيان الاستنكار ضد تلك المرأة التي أصبحت وحيدة حبيسة منزلها لا يزورها أحد ولا تملك أي نوع من القوة. جدير بالذكر أنه كان هناك أصوات نسائية معارضة لهذا البيان رفضن الاشتراك بالتوقيع عليه، مثل الصحفية أمينة السعيد والنقابية وداد متري.
في المقابل تستمر إنجي في السرد عن نضالها ونضال نساء الحزب الشيوعي والاتحاد النسائي الدولي ونشاطاتهم حتى تصل لحملة اعتقالات 1959 التي طالتها. وتحكي عنها قائلة: «في هذه المرة لن تفرق الحملة بين المرأة والرجل، خصوصا وأننا نحن النساء قد أكدنا دورنا في الحزب الشيوعي، وفي الحياة العامة. قلت لنفسي ستشملنا الحملة ولن نفلت نحن النساء من الاعتقال». هنا يتصاعد غضبي الشخصي تجاه تلك الصياغة وهؤلاء النساء والنسويات اللاتي تواطأن ضد درية، ليس فقط من خلال البيان الداعم لبطش الدولة، بل أيضًا من خلال بنى سردية تقصي تجربتها وتشير لاستهداف الدولة للحركة الشيوعية ونسائها كسابقة كان عليهم هم فقط المعاناة منها ودفع ثمنها. وكأن تحديد إقامة درية في منزلها، ومنع ذكر اسمها في الصحافة والمجال العام، بالإضافة لحل اتحاد بنت النيل وإغلاق مجلة بنت النيل -التي كانت قد أسستهما- لم يكن استهداف جدي من الدولة، أو أن نضال درية كان نضالًا غير سياسي بالشكل الكافي في نظر إنجي.
حولت درية غضبها وشعور الخذلان إلى صمت وانسحاب. رأت في صمتها وعدم الاشتباك مع أي طرف، أيًا كان انتمائه في هذا المشهد، أفضل معارضة تستطيع أن تُرضي بها قيمها ومبادئها التي دفعت حريتها وحياتها ثمنًا لها. وأما من رفضت الصمت واختارت أن تُطلق غضبها فكان لها نصيب أيضًا من المسميات، وهو «الست المجنونة»، وأقصد هنا تجربة أروى صالح في الغضب.
رغم أن أروى صالح لا تصنف كنسوية، وكان لها الكثير من المآخذ على الفكر النسوي، إلا أن هذا لا ينفي قراءة تجربتها كتجربة نسوية ثرية. لا يمكن تجاهل كم الغضب والإحباط الذي يسود تجربة أروى -أحد أهم كوادر الحركة الطلابية وحزب العمال الشيوعي المصر- من «فشل مشروع التحرير الوطني، وفشل الشيوعية وحركة جيلها السياسية»، كما تقول سماح سليم في مقدمة ترجمتها الإنجليزية لنص أروى «المبتسرون: دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية».
وعلى الرغم من أن أروى قامت بإطلاق غضبها، لكن ذلك لم يكن كفيلًا بإنقاذها من الموت. كان «المبتسرون» نابعًا من غضبها الذي وصفت كتابتها عنه بأنها «اتسمت بالعنف والمرارة التي عابها عليّ بعض الأصدقاء الذين قرأوا هذا الكتيب قبل طباعته». كيف لا ترى هذا الغضب عندما تروي أروى كيف خُذلت من الرفاق، والمناضلين، والمثقفين المتشائمين، والعاشقين، لينتهي بها هذا الغضب والخذلان إلى الانتحار؟ وعندما نُشر كتابها قبل رحيلها، كالعادة لم يلتفت إليه النقاد من الرفاق، ولا يفاجئني ذلك؛ فهؤلاء الرفاق لم يستمعوا لها في حياتها ولم يهتموا بغضبها وإحباطها منهم، فهل سوف يستمعون لها عند مماتها؟
لكن الأسوأ من تجاهل نقد العمل والاستعلاء عليه، كان استغلال حالتها النفسية -حيث كانت تعاني من الاكتئاب الحاد ونوبات الشيزوفرينيا- لوصفها بالجنون، ما يجعل تصرفاتها وآرائها لا يعول عليها، فهي نتاج تلك التقلبات المزاجية، وبناء على ذلك، فهذا الكتاب لا يحمل سوى الإرهاصات التي لا يجب الالتفات لها.
عام من الغضب النسوي و«النسوية غير الجادة»
بدأ وسم #أنا_أيضًا كمساحة خلقتها النساء لحكي تجاربهن مع التحرش و العنف الجنسي المسكوت عنه. وهو يعود لعام 2006، عندما قامت الناشطة النسوية الأمريكية ذات الأصول الأفريقية تارانا بيرك بإطلاقه على موقع my space. في أكتوبر 2017، انتشرت الحركة إلكترونيًا على وسائل التواصل الاجتماعي لتصبح حركة واسعة لمناهضة الاعتداءات الجنسية. ومنذ ذلك الحين، شهد المجال العام في مصر عدة محطات للغضب النسوي.
وتماشيًا مع مبادرة #أنا_أيضًا العالمية، التي اهتمت بتسليط الضوء على رجال بارزين وفي مواقع سلطة وقوة في المجال العام، ممن مارسوا هذا النوع من العنف ضد النساء. تفاعل الأفراد والمبادرات النسوية الشابة في التدوين عن العنف ضد المرأة والتحرش الجنسي، وظهرت أسماء كثيرة لرجال من دوائر ثورية ومحسوبة على اليسار، وكان هناك الكثير من الغضب والدفاع عن هؤلاء الرجال من مجموعاتهم.
ثم جاءت الانتخابات الرئاسية في 2018 لتفجر موجة من الغضب شبيهة بموجة غضب النسويات المصاحبة للاغتصابات الجماعية للمتظاهرات في ميدان التحرير في يناير 2013، عندما رفضت بعض المجموعات التقدمية الثورية الاعتراف بوجود تلك الجرائم؛ حتى لا يتم تشويه صورة الثورة والثوار والميدان. تلك اللحظات، باختلاف سياقتها، كاشفة للتخاذل في جرائم العنف الجنسي من أحزاب سياسية أو مجموعات مجتمع مدني تدعي التقدمية.
أرى في تلك اللحظات امتدادًا وتواصلًا من الغضب النسوي تجاه تلك المجموعات بشكل يرسم خريطة بين الماضي القريب والحاضر، تلك المجموعات التي تدعي أنها تتبنى قضايا النساء في أجنداتها السياسية وتراعي وجود مقاربة جندرية أثناء طرح بدائل سياسية واجتماعية واقتصادية، ودائمًا ما تستدعي المجموعات النسوية لتكون حليفًا لأجنداتها السياسية، فتصبح المجموعات النسوية حليفة لها، لكن تتحدد مواقعها ومواقع قضايا النساء طبقًا لأولويات النضال التي تفرضها المجموعات «السياسية» عليهم.
عودة لانتخابات 2018، التي بدأت معركتها في نوفمبر 2017. تركز الغضب النسوي في هذه الموجة ضد المرشح الرئاسي، عن حزب العيش والحرية، خالد علي، والمكان الذي كان يرأسه، المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لاتهامه بالتحرش الجنسي بإحدى الموظفات السابقات، بالإضافة لتعرضها للاغتصاب من زميل آخر لها في نفس المكان، وهما الواقعتان اللتان تم الإعلان عنهما في رسالة أرسلتها المعتدى عليها بالبريد الإلكتروني.
نتحدث هنا عن الحزب الذي يقدم نفسه كأحد الأحزاب التقدمية في الحركة الديمقراطية السياسية على الساحة المصرية، وكحزب يهدف إلى تطوير الأجندات السياسة ببعد نسوي. بالرغم من علم قيادات الحزب بمحتوى البريد الإلكتروني المشار إليه والاتهامات الموجهة ضد مرشحهم، أخفت قيادات الحزب تلك المعلومة عن شركائهم، خاصة المجموعات النسوية الشابة الناشطة في المحافظات المختلفة، وظلوا يستغلون حشدهن لجمع التوكيلات التي تُمكِّن علي من الترشح، وإضفاء صورة تقدمية حول توجهه النسوي القاعدي. عندما غضبت هؤلاء النسويات الشابات، خاصة بعد نقاشات قيادات الحزب معهن عن غضبهن من استغلالهن، أصدرن بيانًا أول يشرحن فيه موقفهن تجاه الحزب. وبعده ببضعة أيام، أصدر الحزب بيانًا مخزيًا يتبنى نتيجة لجنة التحقيق، ألا وهي أن «اللجنة لم تجد وكيل مؤسسي الحزب مدانا بأي انتهاك جنسي باللفظ أو بالفعل، لكنها أوصت بالحرص على عدم التداخل بين الحياة العامة والخاصة حتى لا يؤثر ذلك على الكفاءة والسمعة أو فتح المجال أمام سوء الفهم والشبهات. أما بالنسبة للعضو الآخر غير النشط، فقد وجدت اللجنة أنه قام بسلوك مشين وأوصتنا بعدد من الاجراءات حياله لكن هذا العضو استقال فور صدور النتيجة».
في تلك الفترة بالتحديد ظهر مسمى «النسوية غير الجادة» لوصف هؤلاء النسويات الشابات بعد أن أبدين اعتراضهن الشديد على عملية التحقيق التي قام بها الحزب بحق علي، وعدم توفير مساحة آمنة للناجية، واستمرار لومها والاختلاف معها لغياب الشفافية، إضافة إلى اللغة المستخدمة ضدهن بشكل عام. فلقد وصفهن البعض بأنهن متواطئات مع الأمن ومُمَوَلات لتشويه رموز الثورة. مصطلح نسوية غير جادة الهدف منه الاستخفاف والتقليل من قدر هؤلاء النساء، وعدم احترام تجاربهن وآرائهن حيث تم وصفهن بأنهن مجرد فتيات يستخدمن حساباتهن الشخصية على الفيس بوك أو الانستجرام لممارسة النسوية.
سادت من بعد ذلك فترة من الهدوء ليعود الغضب مرة أخرى مع اتهام الصحفية مي الشامي رئيس التحرير التنفيذي لجريدة اليوم السابع، دندراوي الهواري، بالتحرش بها. لم يكن هناك أصوات معارضة لشهادة مي من المجموعات التقدمية اليسارية. وبدأت المواقف المزدوجة لتلك المجموعات مجددًا عندما ظهر للعلن خبر وقف برنامج يسري فودة في القناة الألمانية دويتشه فيله بعد الإعلان عن ثلاث قضايا تحرش من عاملات في القناة ضده. على الرغم من عدم إفصاح القناة عن هوية الأطراف، لكنها أصدرت بيانًا تقول فيه إن «الاتهامات المقدمة يمكن تصنيفها بأنها ذات مصداقية». توالى من بعد ذلك ظهور عدة شهادات من نساء يدعمن صحة الاتهامات المقدمة ضد فودة ويشاركن قصصهن وتعرضهن أيضًا للتحرش منه. للمرة الثانية على التوالي ترفض بعض المجموعات التقدمية والديمقراطية تصديق شهادات النساء، ووتتمسك بتصدير نظرية المؤامرة بأن تلك الشهادات وليدة مؤامرة أمنية لتشويه رموز الثورة. وكلل هذا الخطاب تعليق المحامي الحقوقي مالك عدلي بأن «صاحبة الطلعتين عندها ملفات في بوليس الآداب».
الحقيقة أشكر هذا المحامي «الحقوقي» على صراحته وظهور مثل ذاك الخطاب للعلن حتى يتم الرد عليه وإبراز إشكالياته والتصدي له في العلن أيضًا. تصنيف « عاهرة» هنا، ومن قبله «نسوية غير جادة»، وإطلاقه على النسويات الشابات، ووصفهن بأنهن «ممولات»، «مجنونات»، «ستات مأفورة»، «يحاولن جذب الانتباه»، هي تصنيفات متنوعة يتم الاعتداء بها على الصوت النسوي.
ما نجده في مثل هذه الخطابات هو إعادة إنتاج للغة الأخلاقية الأبوية، التي تصم النساء اللاتي اخترن الاشتباك مع قضايا المجال العام والسياسة، بالعهر. هذا الخطاب الصادر من بعض المجموعات التقدمية لم يكتفي باستباحة النساء وإطلاق أحكام أخلاقية بحقهن، بل تمتد إشكاليته لإطلاق اتهامات على من يختلف معهم مبنية على نظرية المؤامرة.
بذلك تكون المحصلة المخزية هي أن تلك الأفعال تحمل نفس فكر الدولة الذي تدير به خلافها مع بعض جهات المجتمع المدني المعارض لسياستها. تلك التصنيفات تعمل على إعادة إنتاج البنى الفكرية والاجتماعية والأيديولوجيات القائمة على تعزيز قهر النساء، التي من المفترض علينا التصدي لها كمجموعات أكثر وعيًا بتلك الإشكاليات، وأن نعمل معًا لتفكيكها وزيادة الوعي حولها.
الحق في الغضب
الغضب فعل سياسي، وقد اقترن بلحظات ثورية وتاريخية عدة. إنما السؤال هو إن كان الغضب مشروع ومكفول للجميع؟ بالنظر لما سبق، نجد أن الغضب النسوي دائمًا ما يقابل بالاحتقار والاستعلاء.
من التحليل الجندري، نجد أن كل ما هو إيجابي، مثل القوة، يرتبط بالرجل الذي يوصف بالهادئ المتزن، أما النسوية فالصورة النمطية لها هي المرأة الغاضبة المجنونة. وباعتبار أن صفة الغضب أحيانًا ترتبط بالضعف وفقدان السيطرة وعلو الصوت، فبالتالي النساء الغاضبات هن نساء ضعيفات لسن قويات لا يتحملن ضغوط المجال العام. ليصبح خلق تصور عن المؤهلات التي تجعل المرأة قادرة على إثبات وجودها في المجال العام هو فعل وتصنيف أبوي وذكوري من الدرجة الأولى. وهذا يفقدنا بوصلة معرفة لماذا ولد كل هذا الغضب؟ ويجعلنا نفقد الثقة في دوافع غضبنا.
بناءً على ما سبق، نجد كيف أن الهيمنة الأبوية والذكورية على لمجال العام تجرد النساء من الحق في الغضب، حيث يكون الهدف هو تهميش الغضب أكثر من فهم مصادره. ففي ظل تلك الهيمنة الذكورية لا يتعرض الرجال، بخلاف بعض الاستثناءات، لتجارب مثل العنف المبني على أساس الجندر، والتحرش أو الاعتداء الجنسي، أو استغلال السلطة لصالح المنفعة الجنسية. بالتالي تجارب الناجيات مع هذا النوع من العنف في المجال العام هي تجارب غريبة ودخيلة على العالم الذكوري ولا يستطيعوا تفهمها. مما يطرح سؤال إذا كان غضب النساء ككل مرفوض، كيف يصبح التعامل مع غضب الناجيات ممكنًا في ظل تلك الهيمنة؟ وهنا أنتقل إلى غضب أكثر تعقيدًا كغضب الناجيات من أحداث العنف الجنسي وإمكانية تطوير وعينا بهذا النوع من الغضب النابع من الصدمات التي مرت بها الناجية، بكل تعقيداته.
تصارع الناجية لكي تتغلب على ما مرت به من تجارب صادمة، وهي عملية لا تأخذ شكلًا واحدًا، سواء حصلت على دعم نفسي أو لا. وهنا يُصبح ضروريًا أن نعيد النظر في مفهوم «النجاة» والتعافي لتخطي تجارب العنف الجنسي. يُخيل لنا أن الآليات التي تختارها الناجيات لتجاوز تلك التجارب، سواء مع الحصول على الدعم النفسي أو بدونه، تستطيع أن تردع أشباح تلك التجارب من العودة. وكأن مفهوم النجاة هو أن تصبح تلك التجارب وما يصاحبها من مشاعر غضب، وإحباط، ووصم، وحزن جزءًا من الماضي ومنفصلة عن حاضرنا. نتيجة لذلك، ومع مرور الوقت، يتم التعامل مع غضب الناجيات بشكل مجرد على أنه غضب عشوائي غير مبرر. يتحول السؤال إلى: لماذا تغضب الناجية الآن؟ بدلًا من النظر لهذا الغضب على إنه إحدى صور ومظاهر الصدمة، أو ماذا يعكس هذا الغضب وعلاقته بالصدمات السابقة؟ وما هي تجارب الحاضر، مثل الإحباط من تواطئ المجموعات التقدمية والديمقراطية في التعامل مع مثل تلك التجارب؟ أو كيف يتم الاحتفاء بالمعتدين من الرجال ذوي السلطة المنخرطين في المجال العام؟، الالتفات لهذا النوع من الغضب يكون بداية لتطوير وعينا بغضب الناجيات لضمان إعادة إدماجهن في المجال العام حتى لا يصبح طاردًا للنساء.
تقول كارول هانيش في ختام مذكرتها:
«أعتقد أنه يجب علينا الاستماع لما تقوله من يُطلق عليهن النساء غير المسيسات؛ لا من أجل العمل على تنظيمهن بشكل أفضل، لكن لأننا معًا نمثل حركة جماهيرية. أعتقد أننا نحن، الذين يعملون بشكل دائم في الحركة، نجنح إلى أن نصبح ضيقي الأفق إلى حد كبير. ما يحدث الآن، أنه عندما تخالفنا النساء، غير المنضمات للحركة معنا، الرأي، نفترض في ذلك الخلاف أنه نابع من انعدام وعيهن السياسي، وليس أن مصدر الخطأ قد يكون في طريقة تفكيرنا. لقد تركت النساء الحركة بأعداد كبيرة».
حُسن الإنصات للغضب هو استثمار في الحركة، وهو فعل سياسي يبني لا يهدم. الغضب هو نقد حسي. الغضب تجاه اختلال ما، إحباط، التعرض للقهر، يفتح الكثير من الأسئلة والنقاشات. كان من الأجدر، بدلًا من استثمار الوقت والمجهود في سب النسويات وإطلاق التصنيفات، أن يتم طرح سؤال: لماذا هؤلاء النساء غاضبات؟، وكيف يُنظَر لذلك الغضب؟، وكيف علينا توظيف هذا الغضب؟، والأهم، كيف يكون هذا النوع من الغضب مرأةً لأخطائنا؟ كيف يكشف إخفاقنا في ما ندعو له من قيم عندما لا تعكس أفعالنا تلك القيم؟
النسوية ليست شكلًا واحدًا، وليست قالبًا واحدًا يجب على الجميع اتباعه. النسوية أطياف وتجارب متعددة لا يجب تصنيفها في إطار أوحد أو فئة واحدة، ولا يحق لغير النساء والنسويات فقط تحديد أولوياتهن وماهية القضايا التي عليهن دعمها. كمجموعات تقدمية ندعو إلى التعددية، بدلًا من الاستعلاء على تلك التعددية عندما تعكس مساوئنا، لينتهي الأمر بالإهانة والإقصاء لفئات النساء وتجاربهن وقضاياهن المتنوعة بناءً على سياقاتهن، مما يعني مزيد من القهر للنساء.