وثيقة:مينا: أجساد موشومة

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

Circle-icons-document.svg
مقالة رأي
تأليف عبد الله البياري
تحرير غير معيّن
المصدر جدلية
اللغة العربية
تاريخ النشر 2014-06-06
مسار الاسترجاع http://www.jadaliyya.com/Details/30780/مينا-أجساد-موشومة
تاريخ الاسترجاع 2018-03-06



قد توجد وثائق أخرى مصدرها جدلية



(قراءة نقدية في رواية "مينا" للكاتبة اللبنانية المصرية: سحر مندور – دار الآداب اللبنانية – بيروت – 2013)

تبدأ الرواية بسؤال السرد النسوي الذي يجعل من الجسد والسلطة وتداعياتهما مركزًا ديناميًا للسرد، باعتبارهما منطلقًا نقديًا لكل الأبنية السلطوية الذكورية ومرجعياتها الثقافية، سؤال يؤسس للحفر في اليومي من الحياة اليومية، المار كبديهيات سائلة في مكاننا، لا ظل لها، فتقول مينا (الشخصية الرئيسية في السرد/الرواية): "كل حياة تستأهل أن تُروى. لكن، هل في نائج السرد ما يستأهل الإقدام عليه؟" السؤال على بداهته يجعل من "السرد" بكل تمثلاته وما قد يندرج تحته من تعاريف وانعكاسات، كشفًا للعلاقة بين السارد أيًا كان والمسرود أيًا كان، وهي الحالة التي تضمن دمجًا بين "السرد على لسان.." و"السرد عن.." وهذا الدمج يجعل السرد الروائي سردًا نسويًا، لأنه بذلك يضمن حضور أحد المكونات الثلاثة الآتية أو جميعها معًا: "نقذ الثقافة الأبوية الذكورية ومرجعيتها- أولًا، وطرح رؤية أنثوية للعالم – ثانيًا، والإحتفاء بالجسد الأنثوي – ثالثًا، وهو ما يضمن التفرقة بين كتابة النساء والكتابة النسوية، باعتبارالأخيرة تفترض رؤية أنثوية للذات والآخر والعالم متضمنة ومؤسسة لكل مقولاتها السردية، ولعل هذا ما يُمكننا من فهم "ارتباكٍ" تلبس جوليان، لا بصفته السردية في الرواية فقط، ولكن بصفته سفيرًا للآخر الذكر في فضاء السرد فقط والمجتمع والثقافة ولكنه وجه جنوسي/جندري للمرجعية الثقافية المذكرة التي تحرك كل تلك الأنساق، بداية من مينا وجوليان وصولًا للقارىء الفاعل في مجتمعه وآنيته، فـ"مينا" كمقولتها الأنثوية "تطرح الأسئلة عندما تتفادى تقديم الإجابات"، فالسرد ليس مطالبًا بتقديم الإجابات، بقدر ما هو دائر بين "الفاعلية والمفعولية" السردية التي تضمنها الأسئلة لا الأجوبة، فالأجوبة مركزية الأنا، وتلك عنجهية الذكر/الفحل/الأنا، أما الأنثى/المرأة/الآخر فهي فضاء التأمل والنقد والتفكيك.

التسمية

اللغة مؤسسة ذكورية/فحولية، ومن ملك ناصية اللغة، ملك ناصية الوجود، فأول ظهور الشيء في اللغة. عندما إختار الأب (والد "مينا") بكل ما في مركزية الأب في بنيان الأسرة والمجتمع تسمية مينا بإسمها "مينا"، فهو يؤكد أن التسمية أول الإمتلاك، وهو إمتلاك حاضر بالمنطق الذاتي/البيولوجيا والموضوعي/النسب، فاللغة بالتسمية هاهنا إمتداد لامتلاك الجسد والوجود وشمًا أبديًا، باعتباره نتاج تجربة الإستيلاد/الخلق، وهو إمتداد الإسم/النسب في الزمان والمكان. ولأن أنساق الذكورة تتآلف وتتواشج، كان الميل لنسق سلطوي آخر وهو التاريخ في صورته الفرعونية التي تعد بنية ذكورية مفرطة الفحولة والمركزية، قامت على الإستعباد/التأليه، فكان أن وضع الأب إحدى إسمين: "مينا" و/أو "حتشبسوت"، وكان نصيب "مينا" من إسمها ما كان، على أن الأم باعتبارها النقطة الطرفية في العائلة التي تقوم على الأب/الذكر في مركزها، ماكان لها من إمتيازات إلا أن تتقرب من قرار الأب واختياره، بأن "فاوضته"، و المفاوضة لا تتضمن حرية الإختيار ولا حتى المشاركة، إنما هي صورة تبعية، وهادنت الاسم بتقريبه موسيقيًا لأسماء أخرى أحبتها، وكذلك مادفع الأب/المركز من "حيل يومية" ابتكرها "ليبقيني واعية[مينا] إلى أنني أحمل اسمي الملكين الفرعونيين معًا.

كيف؟

مينا: يختار لي لقبًا يوميًا من القابهما يناديني به، أذكر "يا موحدة القطرين" "أيتها الأولى بين النساء".

وبالتالي فوجود "مينا" "في الحياة اليومية" لا يتحقق بذاته سباقًا على ذكورة التسمية ومرجعيتها التاريخية، إنما بما يراد للجسد/الذات المؤنث/الموضوع أن يكونه، في وعي "مينا" بذاتها اليومي عن طريق "الحيَّل" الأبوية السياسية. حتى ومع إنتهاء الرواية لانجد أن مستوى رفض تلك الأوشام السلطوية المقيدة الواقعة على الذات والموضوع المؤنثين يرقى إلى درجة رفض اللغة والتسمية باعتبارهما أول القيد والسلطة.

المكان

للفضاء المكاني في المشهد السردي دلالته، فالتدرج من البناية التي تسكنها مينا وصولًا إلى مدن كبيرة كبيروت وباريس وكان، دلالته وبالذات إذا أعدنا قراءة تلك النصوص المدينية في عدة أنساق تواترت على السرد: النسق الفردي لعلاقة مينا ببيتها وبنايتها، وعلاقة مينا كلبنانية بمدينتها التي نشأت فيها، وهي بيروت، وعلاقة الأخيرة بذاتها في زمنية بالغة الفحولة المركزية في صورتها "الأنوية" –من الـ"أنا"- القاتلة وهي الحرب الأهلية، وكان وباريس الأولى الأخف حضورًا لارتباطها بحدث سردي متخيل معين، والثانية باعتبراها مهربًا ماديًا وثقافيًا وروحيًا من أثر الإجحاف السياسي والمادي والروحي والشخصي والأيديولوجي الذي مرت به الشخصيات في السرد –وليس مينا وحدها- ، محققةً –باريس- مكانًا مستقلًا ومرتفعًا عن صراعات المرجعيات المختلفة التي تمر بها الشخصيات السردية وصراعاتها، إلا أن كل تلك الأمكنة ترتبط سويةً بخيوط رفيعة، بديهية الإدراك كأن يحمل أحدهم "جوليان" إنتمائه الفردي والعائلي الأيديولوجي معه خفيفًا لباريس، وتراقب فيها أيضًا "كرمة" علاقتها بـ"ينا"مينا فيها مدينيًا، وغير ذلك دون تمام تحرر أو إنغلاق.

يبدأ التدريج التواشجي بين المكان والذكورة في أول تصاوير المكان: البناية حيث تسكن "مينا"، فتتدرج الألوهة والثبات: "عند المدخل الأمامي، ينتصب اسدان حجريان، ليزيدا من ثبات المبنى على الأرض، ومن حرصه على استقلاليته. هما الحارسان لآلهةٍ صغار يعيشون كل في بيته، يحيكون أقدرًا ويرتدونها". هنا استعارة لتقسيمات جنسانية بالمعنى الفيزيولوجي للجنوسة: توزيعات الخارج الظاهر الذكر، "القوي" "الإلهي" "الملكي" (باعتبار رمزية الأسد لا اللبوءة)، مقابل الداخل الحميمي الأنثوي، الذي يقوم بالحياكة، حياكة الأقدار. ولعل موقع اسم المكان/البناية من حقيقته التاريخية "الوطنية"، تشي بجانب ما سيأتي في السياق لاحقًا بأثر الذكورة/الفحولة على الوطن، وما آل إليه من أنوية متهتكة، تسمي نفسها "وحدة وطنية" في بلاد تتآلكها المحاصصة والطائفية والحرب الأهلية التي تبدأ قضية وتنتهي جريمة، كما ورد الوصف على لسان أحد الشخصيات الخفيفة الوزن على السرد، ويأتي توضيح نسبة "الوحدة الوطنية" إلى تاريخانية النسق الكولنيالي الفرنسي.

يأتي خلط تالٍ على تصاوير المكان/البناية بين الأسد/ملك الغابة، والغزال/ ضحية ملك الغابة، وهو خلط يؤسس لحالة صحية من الإلتباس نجد خلال الرواية تكثيفًا صحيًا لها في حياة "مينا" والمحيطين بها ونظرتها ذلاتها والآخر معًا، إلا أنه إلتباس لا يخل بمركزية العلاقة بين الذات والآخر إلا أنه يضمن توضيحًا وجوديًا سرديًا للشخصيات، وهو مايمكن إحالته إلى متواليات مرآوية سردية أنتجتها ذات "مينا" السردية في علاقتها بالهستيريا و"دورا" و"كرمة" و"جيزال"، بالتماهي مع الذكورة المسيطرة على الأجساد في بيروت وباريس في زمنية الحرب وزمنية الفضيحة وزمنية السينما ومهرجان كان، وماوشمته كل تلك المتواليات على الجسد المؤنث لـ"مينا" وبيروت وباريس ودورا وكرمة وغيرهن.

بيروت المدينة هاهنا، ليست حيزًا جغرافيًا فقط، إنما بيروت تمثل الفضاء العام للظهور والتمثل، فنرى تحذير "بيار" لـ"مينا" في نهاية الرواية : "إنتبهي عند السير في الشوارع". بيروت مرآة الوعي الخاص بـ"مينا"، خوفها من الحيز المديني العام وانتهاكاته المتحققة والمحتملة والمتخيلة للجسد هو مرآة لخوفها من أن تسقط مينا من ذاتها، وأن يعلق إسمها فيها – بيروت- دونها، فيما مثلته "الفضيحة" (إنكشاف ميولها الجنسية "المثلية") وكيفية إستقبال أصدقاء الجامعة لتلك الفضيحة وتصوراتهم عن "مينا" بعدها. بيروت المدينة – كأي مدينة- هي تمثل مادي للعلاقة اللغوية بين الذات والذات والذات والآخر، وبالتالي فهي خاضعة لمرجعياتها الذكورية الحاكمة لأنساق الثقافة والسياسة والمجتمع والإقتصاد الذكورية (كحال مدننا العربية باختلاف مقدارية بسيطة)، لذا كان المكان هجوميًا وعدائيًا إتجاه جسدي "مينا" و"كرمة" وقت انكشاف "الفضيحة"، فالخاص الأنثوي عام ذكوري: "لا أريدها[حياتي: "مينا"] أن تصبح مجموعة من المواجهات أخوضها كلما خرجت من بيتي"، والإشارة هاهنا إلى الفضاء العام وعلاقته بالفضاء الخاص هي إشارة لسلطة الجنوسة التذكير والتأنيث على هندسة الفضاء العام المديني: العام/الخاص، الداخل/الخارج، البيت/الشارع، فعبارة "كيف تكون الحياة عندما تصبح واضحة على أجسام الناس؟" هي الثيمة العامة للسرد والتي تندرج تحتها ثيمات فرعية ليست المثلية إلا إحداها، وما ينتج عن ذلك من عمليات وشم تخضع لها الأجساد.

بالعودة إلى مدخل البناية حيث تسكن "مينا" في بيروت، تتكشف مع السرد وتورط المتلقي و"مينا" معًا في المشهد، تفاصيل وتأويلات لهندسة المكان لم يكن من الممكن إلا لعين متأملة وكاشفة وأحيانًا مهزومة وملتبسة كعين "مينا" أن تلاحظها: "هذان الأسدان ليسا أسدين. لماذا كلما نظرت إليهما رأت أسدين أولًا؟" هنا العين وأسبقيتها وتواطؤها مع السلطة البصرية والمعرفية تؤسس لتحايل على الذات المؤنثة المقهورة والمستلبة الحرية، سرعان ما تفككها العين الأنثوية: "غزالان وامرأة ووردة إلى اليمين، وغزال وامرأة إلى اليسار... وكل منهما تنظر إلى الأخرى، كأن خط النظر بينهما يحكم إقفال الحاجز الرمزي الحامي لمدخل البناية" ، إقفال الحاجز الرمزي الحامي للمكان، هو نمط مقاوم للأنثى/"مينا"/المرأتين في التمثالين، باعتبار أن السلطة إذا تحكمت في الواقعي، فإن الرمزي موجود خارج نفوذها – بودليارد، وهو ماقرأته ذات مينا في إرتباطها في متوالياتها الأنثوية: "جيزال"/"دورا"/"كرمة"، وفي سياق أكثر تحررية: بيروت وباريس، وهو ما يبرر الإشارة لفنون الأونا-كابوكي، وإن ظلت نمطًا خطابيًا أنثويًا لا يكسر سلطة الذكر.

ديناميات السرد الأنثوي المقاوم

تحقق العبارة التالية: "لو كان التاريخ قد انتهى، لحاولت أن أفهمه.. لكن قرفه مستمر! لم ينته شيء، لكي آخذ مسافة منه.. نحن لا نزال في قلب المعركة! ألن يشتهوا حرقي لو عرفوا عني؟ ألن يتمنوا حرقك لو قرأوا أفكارك؟ جميعنا، لا نزال تحت الخطر. أي تحليل هذا الذي يستقيم تحت الخطر؟ مثلما يرفضونني دون نقاش سأرفضهم دون نقاش"، دمجًا لمكونات السرد الأنثوي الثلاثة الواردة في إفتتاحية المقال، في النظر إلى الجسد والذات الأنثوية والآخر، وتداعيات ذلك على النسق السلطوي في التاريخ. وكما هو الحال مع التاريخ باعتباره بنيانًا ذكوريًا، يتجلى الطب وعلاقته بالجسد باعتباره هو أيضًا بنيانًا ذكوريًا، مهما تنكر بالمادية الموضوعية، يشخص الأمراض جنوسيًا ويعلن تحيزاتها الذكورية لصالحه، بما يضمن له السيطرة الذكورية على أنساق ما بعينها: الدين و الأخلاق والمجتمع والوراثة، فـ"في العام 1855، وصف الطبيب بول بريكيه بشكل منهجي، الظواهر التي رصدها لدى 430 مريضة في "مستشفى المحبة" في باريس. وعرف الحالة حينذاك كالآتي: داء في الجهاز العصبي في الدماغ، تقوم ظواهره المرئية، بشكل أساسي، على اختلال في الأفعال الحيوية، مايؤدي إلى ظهور أحاسيس عاطفية وشغف. وأحصى وجود حالة "هيستيريا" واحدة بين الرجال مقابل كل عشرين حالة بين النساء. وادعى أن تلك العاطفة تغيب عن النساء المتدينات، وتبدو رائجة بين عاملات الجنس"، فكان من الطبيعي هنا أن تستحضر "مينا" تساؤلًا يستبطن الأنساق الفحولية: "الإسلام هو الحل!"

إلا أنا "جيزال" التي تمثل صرامة الإنضباط المؤنث للأنساق العلمية الذكورية، برغم توقها المستتر والمستبطن لكسر قيد النسق العلمي، "تبتسم جيزال لها بفرح، ثم تكمل: "وكمان.. قال أن الهيستيريا مكونة من عامل وراثي، وإن نسبة 25 في المئة من بنات النساء الهستيريات، تضحين كأمهاتهن.. وقرر أنها تمس الطبقات الإجتماعية الدنيا، وقال إنها أكثر إنتشارًا في الريف منها في المدينة"، فهندسة الجسد الإنساني الصحية ليست فقط خاضعة لسلطة الذكر البادئة بالتسمية (أبقراط) ولكنها أيضًا إنتصار لكامل الأنساق الذكورية: الدين والأخلاق والمدينة، فهو هوس يصيب الجسد المؤنث بوشمٍ من جنون وفرط شغف وعاطفة، لأنه نابع من "رحم" لم يمسه ذكر وهنا الذكر هو مصدر العلاج والطهر بمنح الرحم قيمته، فيقيه الجنون والهوس، ومانح المرض بغيابه عن الرحم، وهنا نسق ذكوري سلطوي يصنف الأجساد فيزيولوجيًا بأوشام دونية وفوقية.

بنية السرد وشخصياته

لعل ما يستوقف القاريء/المتلقي هاهنا للسرد، هو الإنتقالات السردية بين المشاهد، وهي تتميز ببنية سينمائية سلسة وسيالة، إذ للزمن حركة تستدعي تكوينات تخيلية بصرية للمشهد بمجرد الخول إليه، بل وأن تلك التكوينات قد تسبق في بعض الحالات المشهد السردي التالي عليها، وهو مايمكن إحالته لدور الراوي في السرد، فـ"الراوي" السارد، والضمير المذكر هنا للإشارة وليس للوجود، إذ يتلبس لبوس المؤنث - ضميريًا تارةً، وأخرى الضمير المذكر، ليقدم خطابًا بالغ الحياد في بعض المشاهد محكومًا بضدية جنوسية تجاه "مينا" والشخصيات والسرد، ومرات أخرى يبالغ في التحيزات بل والمشاركة في تشكيل الحدث والحوار، وهندسة النتائج والقرارات السردية، هو راوٍ يبني الحدث في وعي المتلقي مستخدمًا تشكيلًا سينمائيًا مرات ينتصر لبنية الصورة في ذاكرة بصرية عربية في عصر الإعلام والصورة السريعة، محركًا لها من خارجها مرات، ومراتٍ أخرى يبني الحدث بشكل حواري خطي، يصبح هو ذاته طرفًا غير معرَّف فيه ولكنه دافع للشخصيات، لاتخاذ وتبني قرارات ما بعينها، وكأنه جزء حاضر من بنية الآن – هنا السردية.

ليست "مينا" هي الشخصية الرئيسة، ولكنها الشخصية الوحيدة في المشهد السردي على إمتداد مايزيد عن الثلث الأول من الرواية (75 صفحة)، وتعدداتها الذاتية هي من يملأ المشهد السردي تباعًا، ماعدا بعض الإنفصلات اللازمة عن "مينا" لاعطاء الفرصة لتشكيل المشهد السردي الذي سرعان ما يتقاطع مع "مينا" في طريقه، مثلما حدث مع "نايلة" عندما تقاطع مشروعها الكتابي مع شهادة "مينا" عن الحرب الأهلية دونما تخطيط. الحرب التي حضرت بمعية دخول كرمة للمشهد السردي، وإن كان لا يعني أن الحرب إنتهت طالما أن إنتهاك الأجساد ووشمها لا يزال حاضرًا بقوة في العديد من المشاهد: "الفضيحة" "حرب 2006"، ولكن تلك المعية أشارت إلى الحرب باعتبارها نشاطًا ذكوريًا/فحوليًا يقوم في أساسه على انتهاك الأجساد من أجل أهداف السلطة الحاكمة، وهو تماهي سردي مع حرب أخرى لا تزال تخوض "مينا" و"كرمة" و"جوليان" و"بيروت" و"باريس" تبعاتها بدرجات مختلفة، وهذا التماهي بين الحربين فحوليًا هو ما يعطي السرد الأنثوي قيمته النقدية، وهو أيضًا ما يفسر التوازي بين الحرب والجسد في متواليات: "مينا"/دورا و"مينا/"كرمة" و"مينا"/بيروت و"مينا"/باريس، و"كرمة"/"بيروت" ، كل تلك التوازيات المزدوجة، مرت بمرحلة ما من الـ"هيستيريا" (المهندسة فحوليًا) وهو مايمكن أن نراه جليًا واضحًا في مرآوية "مينا" و"دورا"، والرحم الذي يخضع لسلطة الأم والأب في البحث عن إمتدادهما في/من جسد "مينا"، وهو نفس الرحم الذي سمح للمجتمع في إنتهاك جسد "مينا" وقتما أرادت لنفسها إرادة خارجة عن إرادة ذكورة ذلك المجتمع، فنجد إستعارات حوارية نصية ذاتية لـ"مينا" مع نفسها على لسان "دورا".

"نايلة" هي نقطة تجمع ضوئي لكل تلك الانكسارات ولملمتها، فهي حالة الحوار بين النظرة الأنثوية والذكورية للذات والآخر، ففي حوارها مع شهود الحرب وتوثيقها تلك التجارب نجد أن الأغلبية (15 شهادة) من الشهادات (22 شهادة) التي استخدمتها كمادة لمشروع كتابها هي شهادات لسيدات، وهي بذلك تكسر حالة رفض "مينا" للحوار مع التاريخ، برغم تأثيره على متوالياتها السردية.

الجسد والوشم والأبد

ينتهي الجسد حيث يبدأ، في الفراغ ومنه، هناك، منتهى خفته وتحرره من آخره، يقول "جوليان" متحدثًا عن "مينا": "لم تعد تريد أن تحمل شيئًا معها "إلى الأبد"، تريد أن تخرج عن سياق مدينتها. لا تريد أن تكون كما بيروت، مرتعًا للقصص القديمة التي تتخفى وراء نكهات جديدة، لتعد بنهايةٍ ما. تريد أن تقفل ملفات وتفتح أخرى. فالنهاية الكبرى ليست وعدًا" وفي موضع آخر: "حين اختفيت شعرت بخفةٍ غريبة. خفة تلقفت الإنهيار التام، قالت لي أنها شعرت بأنها قادرة على حياكة قصة جديدة لحياتها، تمضي فيها ولعلكما تلتقيان على الطريق يومًا ما" هنا تتحرر "مينا وتخرج إلى مرآتها: "تعرف أنها، في هذه اللحظة تحديدًا، عندما ضحكت، كانت قد خرجت من واقعها، وتفرجت على نفسها في المرآة. امرأةٌ تعرضت لانتهاك. كل موقف حاد يمكن أن يضحي مضحكًا عندما يشعر الإنسان بأنه لا يعيشه، وإنما يؤديه"، هنا استعادت "مينا" زمانها وتحررت من مكانها، ولعل تغير علاقتها بالمكان متمثلًا في باريس المدينة التي شهدت فجائع معينة يجسد تغير تلك العلاقة المرآوية، فكانت كمن يقرأ ذاته، وهي قراءة تتوازى مع شهادات شهود "نايلة" عن الحرب اللبنانية، إذ استبقوا الأبد في زمنية الحرب وتحرروا منه وحرروا كذلك أماكنهم منه، وهو مافعلته "مينا" أن إنتهى دورها المؤدى وتأملت مرآتها الذاتية، وأول المرآة الجسد، فتحررت من حربها مع الأبد وتخففت من حمولاتها الأبدية التي مرت ببيروت حربًا ومرت بها "فضيحة"، إنتهكا أجسادًا.

يبدأ الجسد حيث ينتهي، في الفراغ ومن الفراغ، ومتى تأسس الفراغ مكانًا كانت السلطة، سلطة الجسد، العين، المعرفة، الامتلاك، الحرب، الاسم، وهنا خُلقت الحاجة الوجودية للالتباس التي تظهر على امتداد البنية السردية منذ لحظة تعريف الأسد والغزال، فالالتباس في كل شيء هو تحريره من قيد المفروض عليه، فـ"مينا لا تقفز من نقيض إلى نقيض". ولحضور الموت باعتباره فراغًا، وماقبل الموت، باعتباره ماقبل الفراغ تأثير على السرد وعلى الجسد، وحتى على مفهوم "الأبد" والمشهد السردي، وعلى المكان/المدينة باعتبارها فضاءًا حاويًا للعلاقة بين الذات والآخر، فموت والدي "مينا" باعتباره فراغًا يؤسس لإنتفاء/انتهاء الجسد على مقياس الأبد، حدث في باريس/المدينة، وهي نفس المدينة التي تكسرت عليها ثنائيات الجسد/الأبد، بداية في الإنفصال بين "مينا" و"كرمة" وثانيًا بمرض المخرج "بيار"، وهنا تنتصر"مينا" لالتباس الجسد على الأبد، فـ"بيار" استحضر لها بخفة جسده المرضية كل جميل في حياتها هزمه الجسد أو/و الأبد، بما في ذلك والدها، الذي ما مات وقت وافته المنية، بل "توفي لأنها خرجت دون علمه" كما قالت لها مرآويتها مع "دورا"، هنا أعطت "مينا" للالتباس معنىً من خفة وتحرر، فـ"خرجت من مرض بيار أقوى (...) كأن والدها سلم إليه الشعلة عند رحيله المفاجئ. أي شعلة، مينا؟

شعلة تأمين حاجتي من الإحساس بأني ملك وملكة في آن واحد، ولا أقل من ذلك". وتلك الشعلة ليست نفسها التي لا تزال مضاءة على امتداد التاريخ المكتوب بيد ذكر مفرط الفحولة، يوشم الأجساد التي يريد بما يريد ويحرقها لأنها تجرأت وخرجت عن طوعه وإرادة صولجانه، التي هي مركز التاريخ والثقافة والدين والمجتمع والمدينة والاقتصاد، جان دارك أحرقوها بتهمة السحر، وهي التي قاومت في وقت أصر التاريخ على الاستسلام، فلم يكتفي بجسدها الموشوم تاريخيًا.