وثيقة:النسوية ما بعد الكولونيالية
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
العنوان | النسوية مابعد الكولونيالية - المرأة وسيكولوجيا الاستعمار في فكر فرانز فانون |
---|---|
تأليف | غير معيّن |
تحرير | غير معيّن |
المصدر | مجلة الجديد |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://aljadeedmagazine.com/النسوية-مابعد-الكولونيالية#off-canvas
|
تاريخ الاسترجاع |
|
قد توجد وثائق أخرى مصدرها مجلة الجديد
تعتبر النسوية حركة سياسية اجتماعية ظهرت في الغرب للمطالبة بحقوق المرأة، تعتمد على فلسفة تجاه الرؤية الذكورية التي شكلت وجودها القيمي. فالنسوية -كإطار فكري وفلسفي وحركة سياسية- تمثل توجها يدافع عن حقوق المرأة، ووضع حد لأشكال التحيز والتمييز التي عانت منها المرأة على مدى التاريخ. فهي تعني الاعتقاد أن المرأة لا تعامل على قدم المساواة في المجتمع الذي ينظم شؤونه ويحدد أولوياته حسب رؤية الرجل واهتماماته ( سارة جامبل: النسوية وما بعد النسوية تر. أحمد الشامي المجلس الأعلى للثقافة القاهرة مصر الطبعة الأولى ص13). وتتعدد نقاط النسوية بحسب تعدد تياراتها، فمن طلب المساواة بين الجنسين في الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إلى المساواة التامة على كل الأصعدة، وبعضها يدعو للتمركز حول الأنثى.
لم يظهر مفهوم النسوية دفعة واحدة، بل تكوّن على شكل موجات بحسب تطور الجدل الفكري ومسارات الصراع، ففي أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وبعد رواج الدعوة للحقوق بتأثير الثورة الفرنسية بدأت الموجة الأولى التي تشكلت عقب المراجعات النقدية لأطر الفكر الغربي أدت إلى بلورة رؤية أثبتت أن النظرة الدونية للمرأة ما هي إلا نتاج الثقافات السائدة إذ أنها نتاج النظام الأبوي الذي أدى إلى علاقات تراتبية بين الجنسين (مية الرحبي: النسوية مفاهيم وقضايا الرحبة للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 2014 دمشق سوريا، ص 16)، فتمت الدعوة لحق المرأة في التعليم الذي كان مقصورا على النساء النبيلات والرجال فقط، والدعوة لحق الملكية وحق الرعاية وحق إقامة دعوى الطلاق والمساواة القانونية وحق التصويت.
جاءت الموجة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية وازدهرت في الستينيات وحتى منتصف السبعينات، وكانت طليعتها المجموعة اليسارية، وتأثرت هذه الموجة بالأفكار الاشتراكية وحقوق العمال، وتم نقد التفرقة بين الجنسين باعتباره نتاج التنشئة والمجتمع الظالم، وطرحت فكرة المساواة الجنسية وفكرة الجندر، ودعت إلى إعادة تشكيل الصورة الثقافية للأنوثة (المرجع السابق ص17).
أعقب هذا التوجه ظهور مدارس نسوية متعددة تأثرا بالفلسفات الكبرى، فالنسوية الليبرالية نادت بالتدرج والاقتصار على القضايا التي لا تصادم المجتمع ولا تتناقض مع قيَمه الأساسية واقتصرت على حقوق المرأة السياسية والاجتماعية، وهوجم هذا التيار من النسويات الأخريات باعتباره منحازا لنساء الطبقة الوسطى. أما النسوية الماركسية فهي ثورية بطبيعتها ومنقلبة على المجتمع والفكر والفلسفة السائدة، ولذلك فهي تريد دمج المرأة في دورة الإنتاج. أما النسوية الراديكالية وهي القطاع الأوسع تأثيرا في نهاية هذه المرحلة فقد ركزت على هدم النظام الأبوي القائم على العلاقة الجنسية بين الجنسين.
وجاءت الموجة الثالثة بعد تحول النسوية لفكرة عالمية وسمّيت ما بعد النسوية واعتمدت على تحولات ما بعد الحداثة في النظر إلى الذات العارفة ودورها في عملية المعرفة وأضافت إليها تأثيرات الجنوسة (المرجع السابق ص 32)، فظهرت النسوية السوداء ونسوية العالم الثالث، وأصبح هناك اهتمام بسياسات الهوية والشواغل الثقافية للمرأة.
داخل هذا التيار، برز مفهوم النسوية الثقافية أو النسوية “التقاطعية” عندما صاغت الحقوقية الأميركية كيمبرلي ويليامز كرينشو هذا المصطلح سنة 1989 في مقالتها بعنوان “إلغاء الهامش: التقاطعية، سياسات الهوية والعنف ضد النساء الملونات”، لوصف وتحليل تجارب الاضطهاد والتمييز المتنوعة التي تتعرض لها النساء السود في أميركا، أو بالأحرى الإشارة إلى السبل المختلفة التي يتفاعل بها العنصر والجنوسة لتشكيل الأبعاد المختلفة لخبرات النساء السود (كيمبرلي ويليامز كرينشو”: إلغاء الهامش، التقاطعية سياسات الهوية والعنف ضد النساء الملونات ترجمة تامر مواقي وحدة الإنتاج المعرفي باختيار د/ت الصفحة 05). فكان مفهوم “النسوية التقاطعية” رداً على “النسوية البيضاء” التي كانت مُهيمنة على الفكر الغربي الأميركي والتي تُركز فقط على تجارب النساء البيض متجاهلةً تجارب النساء من باقي الأعراق والخلفيات والطبقات الاجتماعية. من هنا فإن مصطلح “النسوية التقاطعية” يُشير إلى كيف تُؤثر نُظم القمع والاضطهاد المنهجية على تجارب النساء المتنوعة وفقاً لتقاطع عوامل مختلفة كالجندر والعرق والطبقة الاجتماعية والدين والأصل الوطني والإعاقة والمستوى التعليمي والتوجه الجنسي.(المرجع السابق ص8). ففكرة التقاطعية (Intersectionality) كإطار تحليلي هو محاولة لفهم تجارب النساء الملوّنات وتقاطع مصادر الاضطهاد اللاتي تعانين منه سواء على أساس اللون (العرق) أو الجنس، بحيث يمكن الوصول إلى نسوية أكثر شمولية. وتطورت هذه النظرية بعد ذلك لتشمل كل تقاطعات أشكال وأنظمة القهر والهيمنة والتمييز وتفاعل ذلك مع الجندر والعرق واللون والطبقة الاقتصادية والاجتماعية والميل الجنسي والتوجه الجندري والقدرات العقلية والجسدية، لفهم تجارب النساء المركّبة.
تبنّت عدد من النّسويّات الملوّنات في الولايات المتّحدة ومن العالم الثّالث، المنظور ما بعد البنيويّ المقرّ بحقّ الاعتراف بالمختلف ثقافيا دون أيّ حاجة إلى إقصائه أو مواراته أو إبراز الجوانب الأكثر قبولاً على غيرها، عملاً بمعايير ثقافيّة ومجتمعيّة إقصائيّة، فالنسوية الثقافية عند ليندا ألكوف هي “أيديولوجيا لطبيعة الأنثى أو الماهية الأنثوية المعاد تخصيصها من قبل النسويات للإقرار بالأنثى المقلل من قيمتها (ليندا ألكوف الحركات النسوية الثقافية مقابل مابعد البنيوية ضمن كتاب النظرية النسوية مقتطفات مختارة ترجمة عماد إبراهيم مراجعة عماد عمر دار الأهلية للنشر والتوزيع عمان الأردن 2008 الصفحة 227).
انطلاقا من هذا المفهوم، هاجمت النّسويّات المنتميات لهذا التيار كل الحركات النسويّة المنادية بخلق مظلّة واحدةٍ، وأجندة عالمية تشترك فيها وتعمل على تحقيقها كل نساء العالم، سواء كانت هذه الأجندة ليبيرالية أو ماركسية أو راديكالية، فقد أكدت هذه النساء على أن تجاربهن وتورايخهن وقناعاتهنّ الثقافيّة تختلف عن تجارب وتواريخ وقناعات النّساء الغربيّات، فقهرهنّ كان قهرًا مضاعفًا من نتاج ثقافة مجتمعاتهنّ والاستعمار الغربيّ معًا، وهو استعمارٌ نفّذه كلّ من الرّجل والمرأة البيضاء، إعلاء لعقيدة الفوقية البيضاء، وتبني تراتبيّة ثقافيّة قائلة بأفضليّة الثّقافة الغربيّة على ما سواها من ثقافات، ومن هنا كانت شريكةً للرّجل الأبيض في استعمار الشّعوب واستعباد الملوّنين (شارون سميت في تنظير قمع المرأة: النسوية السوداء والتقاطعية شارون الحوار المتمدن -العدد: 6155/ 24-2- 2019). وتوظّف نسويّات العالم الثّالث والملوّنات هذا المفهوم للتّأكيد على أنّ رؤاهنّ وأطروحاتهنّ المتأثّرة بموقعهنّ الثّقافيّ ستنتج رؤى مختلفة، وبذلك سيكون لهنّ دور في إثراء الحركة النّسويّة ذاتها بطرح ما قد لا تراه الغربيّات النّاظرات من زوايا ومواقع ثقافيّة متشابهة، ومنه طورت النسويات السود، وبجانبهن اللاتينيّات والملوّنات الأخريات ومنذ وقت العبودية، تراثًا سياسيًا متمايزًا مستندًا على فهم منهجي لأنواع الاضطهاد المتشابكة: العرقية، والجندرية، والطبقية (المرجع نفسه).
النسوية وما بعد الكولونيالية
يعتبر مفهوم ما بعد الكولونيالية (Postcolonialism) مفهوما سياسيا في أساسه تحول فيما بعد إلى مصطلح نفذ إلى مجالات عديدة أهمها المجال الأدبي والنقدي والفكري ووصف مجموعة غير متجانسة من المواقف والمجالات الاحترافية والمشروعات النقدية (بيل أشكروفت وآخرون: دراسات ما بعد الكولونيالية المفاهيم الرئيسية ترجمة أحمد الروبي وآخرون المشروع القومي للترجمة القاهرة مصر الطبعة 1 2010الصفحة 285)، فهو حقل للدراسة ما بعد الاستعمارية يشكل جزءا من حقل النظرية الثقافية أو الدراسات الثقافية متعددة الفروع الذي يعتمد على الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع ودراسات الجنوسة والدراسات الإثنية والنقد الأدبي والتاريخ والتحليل النفسي وعلم السياسة والفلسفة، في تفحصه للنصوص والممارسات الثقافية المختلفة (دوغلاس روبنسون، الترجمة والإمبراطورية: الدراسات ما بعد الكولونيالية، دراسة الترجمة تر: ثائر ديب – المجلس الأعلى للثقافة القاهرة مصر الطبعة الأولى 2005الصفحة 27)، ثم أصبح هذا المصطلح أكثر شمولية بحيث ينطوي تحته كل ما تأثر بالكولونيالية و مفعولاتها وآثار الاستعمار على الثقافات والمجتمعات. فهو مجال يُعنى بكيف غزت الدول الأوروبية ثقافات “العالم الثالث” وسيطرت عليها، وكيف استجابت تلك الثقافات من العالم الثالث وقاومت. فما بعد الكولونيالية، كنظرية وكدراسة هو توجه نقدي لتعاملات سياسية وثقافية (نفس المرجع نفس الصفحة).
ويعرف سعد البازعي وميجان الرويلي مصطلحي الخطاب الاستعماري ونظرية ما بعد الاستعمار بالقول “يشير هذان المصطلحان اللذان يكملان بعضهما بعضا إلى حقل من التحليل ليس جديدا بحد ذاته، ولكن معالمه النظرية والمنهجية لم تتضح في الغرب إلا مؤخرا مع تكثف الاهتمام به، وازدياد الدراسات حوله. يشير المصطلح الأول إلى تحليل ما بلورته الثقافة الغربية في مختلف المجالات، من نتاج يعبر عن توجهات استعمارية إزاء مناطق العالم الواقعة خارج نطاق الغرب على أساس أن ذلك الإنتاج يشكل في مجمله خطابا متداخلا بالمعنى الذي استعمله فوكو لمصطلح خطاب (ميجان الرويلي وسعد البازعي: دليل الناقد الأدبي المركز الثقافي العربي بيروت لبنان الطبعة 3 2002الصفحة 158). أما المصطلح الثاني، ” النظرية ما بعد الاستعمارية”، فيشير إلى نوع آخر من التحليل ينطلق من فرضية أن الاستعمار التقليدي قد انتهى، وأن مرحلة من الهيمنة -الإمبريالية- قد حلت وخلقت ظروفا مختلفة تستدعي تحليلا من نوع معين. ولذا، فإن المصطلحين ينطلقان من وجهات نظر متعارضة فيما يتصل بقراءة التاريخ، وإن كان ذلك اختلافا في التفاصيل لا في الجوهر، فبينما يرى بعضهم انتهاء مرحلة الاستعمار التقليدي، وبالتالي، انتهاء الخطاب المتصل به، وضرورة أن يتركز البحث في ملامح المرحلة التالية، وهي مرحلة ما بعد الاستعمار، يرى بعضهم الآخر أن الخطاب الاستعماري ما يزال قائما وأن فرضية ‘الما بعدية’ لا مبرر لها (المرجع نفسه الصفحة نفسها).
فهو خطاب نقدي ينحو إلى تفكيك الخطاب الاستعماري، وإلى إعادة النظر في تاريخ آداب المستعمرات التي واجهت الاستعمار الأوربي. إن الهدف الأول لخطاب ما بعد الإمبريالية بجهوده الكبيرة هو إعادة كتابة تاريخ الحضارة الاستعمارية من وجهة نظر المستعمرين وهي في الحقيقة قراءة للفكر الغربي في تعامله معهم، من خلال مقاربة نقدية بأبعادها الثقافية والسياسية والتاريخية (بيل اشكروفت دراسات مابعد الكولونيالية المفاهيم الرئيسية ص 283). وبذلك أسهم في خلخلة جملة من التصورات والأفكار التي بنت عليها الإمبراطوريات الغربية مشروعها الإمبريالي، والتي بقيت سائدة في فترة الما بعد.
بدت ملامح النسوية في الفكر النسوي ما بعد الكولونيالي ضمن مقولات المركز/الهامش ليتحول الهامش النسوي داخل هذه النظرية إلى النساء المقهورات المضطهدات من قبل المنظومة الاستعمارية، والمنظومة الأبوية الذكورية التي مارست هي أيضًا تهميشًا للنساء. فالعلاقة بين النساء بوصفهن ذوات تاريخية وعمليات إعادة تمثيل المرأة التي تتم بواسطة الخطابات المهيمنة ليست علاقة هوية مباشرة أو علاقة تضمين إنما هي علاقات عشوائية تشكلها ثقافات بعينها (هدى الصدة: أصوات بديلة: المرأة والعرق والوطن في العالم الثالث ترجمة هالة كمال، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة مصر 2002 الصفحة 53).
ارتكزت تحليلات الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية على أفكار الرؤى الاستعمارية والاستشراقية تجاه النساء في المستعمرات القديمة وكنّ صُنعن طبقًا للمتخيل في أدبيات الرحلات الاستشراقية، ولا سيما تلك المرتبطة بالحريم الشرقي والبطريركية والإيروتيكية، والتي أدخلها الاستعمار ضمن مفهوم معرفة الشرق. ففي عالم التمثلات تصبح المعرفة مرتبطة بالسلطة المنتجة لها لذلك وجب تفكيك العلاقة الملتبسة بين الذات الاستعمارية والآخر الشرقي الأنثوي (آنيا لومبا، في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية، ترجمة محمد عبدالغني غنوم- دار الحوار للنشر والتوزيع سوريا ط1 2007، الصفحة 58).
فقد أبرز إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق امتدادات الخطاب السياسي وانصهاره في مختلف أشكال الإنتاجين المعرفي والثقافي (إدوارد سعيد، الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، تر. محمد عناني دار رؤية للنشر والتوزيع القاهرة مصر الطبعة الأولى 2006 الصفحة 29) ، أوضح إدوارد سعيد المنظومات الاستشراقية ومجازات الخيال الأوروبي كرموز جنسية نمطية للشرق المتخيل، قدمهتا الخيالات الذكورية الغربية، وكان في هذه الروايات الأوروبية التي تصف الآخر مقولتان لافتتان للنظر: الأولى: الإلحاح على الادعاء بأن الشرق هو (مكان الفسق والملذات)، والثانية: أن هذا الشرق هو (عالم العنف المتأصل). وكان لهاتين المقولتين أهميتهما في فكر العصور الوسطى، وظلتا تترددان بدرجات متفاوتة من القوة حتى وقتنا الحاضر (رنا قباني: أساطير أوروبا عن الشرق: لَفِّق تَسُدْ، ترجمة: صباح قباني، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، الطبعة الثالثة، 1993م ص 19-20).
إن مقولة إدوارد سعيد أعادت التفكير في العلاقات المتشابكة بين الشرق والغرب، حيث أدت نظرته إلى صقل المقاربات النسوية وتطوير الدراسات ما بعد الكولونيالية. فقد كان أول من ربط الخيالات الجنسية للرحّالة بنزعة الهروب إلى الشرق. ونتج عن هذا الوعي إنتاج فكري مهم حول الجندر في الحقبة الكولونيالية وما بعد الكولونيالية.
أنتجت «الدراسات ما بعد الكولونيالية» ما يطلق عليه «دراسات التابع” (Subaltern Studies)، (ديبيش شاكرابارتي دراسات التابع والتأريخ مابعد الكولونيالي ترجمة ثائر ذيب مجلة سطور القاهرة مصر العدد 3 2016 الصفحة 08)، وداخل هذا الحقل المعرفي برزت المنظرة الهندية غياتري سبيفاك التي اهتمت بالدفاع عن المرأة المضطهدة، وانصب عملها على الهامش والمركز للبحث عن خصوصية وضعية النساء بصورة مقارنة بين المرأة في العالم الثالث المهمشة، والمرأة في العالم الأول السائدة، فكشفت طبيعة التعارض بين الثقافات الأصلية والثقافات الاستعمارية. وطورت جوانب حيوية في مجال دراسة المرأة، حيث فُتِحَ مجالٌ أمام كتابة تاريخ جديد للأنوثة، عبر التركيز على دراسة مفهوم الجنوسة، لكشف الجانب المغيب للأنوثة لأن تمثيلها عرف غيابًا في خطابات مدارس الحداثة، وما بعد الحداثة (ريتا فرج النسوية مابعد الكولونيالية: تفكيك الخطاب الاستشراقي حول نساء الهامش، مجلة الفيصل ع 498 أبريل 2018 مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات- الصفحة 60).
في بحثها: «هل يستطيع التابع أن يتكلم؟» (Can th Subaltern Speak? ) (نفس المرجع نفس الصفحة)، تطرح سبيفاك سؤالًا جوهريًّا «هل توافرت السياقات الثقافية المواتية للتابع كي يتكلم؟ هل يتمكن من الحديث كي يسمع صوته؟ ويمكن متابعة هذه المسألة من طريق مثال “ساتي” (Sati) وهو طقس هندوسي تقوم فيه الأرملة برمي نفسها في محرقة زوجها؛ وهذا التقليد الهندوسي يساعد على فهم ما تطلق عليه سبيفاك «العزل المضاعف» للمرأة في الهند، وأن هذا الطقس الهندوسي منظّم بواسطة العادات الأبوية في الهند، والقانون البريطاني الاستعماري. فالوطنيون الهنود الذين يستندون إلى النظام الأبوي يؤسسون خطابًا، يرون فيه أن المرأة نفسها هي التي ترغب في أن تموت، في حين أن البريطانيين شرعوا قانون منع هذا الطقس عام 1929م أثناء انتدابهم للهند. كانوا يؤسسون تشريعهم هذا على أساس ينطلق من مفهوم التحضر الشامل، ؛ ولذلك فإن صوت المرأة يغيب في كلا الموقفين: الموقف الاستعماري، والموقف الأبوي. وتصل سبيفاك إلى نتيجة مهمة في فهم تاريخ «ساتي» تتمثل في أنه “تاريخ للقمع المضاعف وسرد يقوم على المرأة المهمشة والتابعة” (نفس المرجع نفس الصفحة).
فمن خلال قيامهن بطقس (ساتي)، تعبر النساء المهمشات من الهندوس عن صوتهن، صوت نعتبره اليوم غير مفهوم وغير منطقي. فثمة تضافر بين الهيمنات الكبرى للنصوص الدينية الهندوسية المشجعة على حرق المرأة، وبين فكرة تبعية المرأة للرجل بفعل هيمنة الثقافة الذكورية، ثم هيمنة الأبوية، والهيمنة الاستعمارية، وما دام الصوت تابعًا؛ وهو هنا المرأة التي وجدت أن فكرة الحرق تعبير عن الوفاء ، فهو -إذن- صوتٌ صامتٌ ومحكومٌ بالفشل؛ لأن قوة المتبوعين سواء كانوا تقاليد دينية، أو ثقافة أبوية، أو ثقافة استعمارية، تحول دون انبثاق صوت التابع، ولكنها تقترح حلًّا لا يقف أمام هذه النهاية، يتمثل في استعادة وعي التابع عبر صوت المثقف المنبثق من صلب الجماعة، لكي ينوب عنها في التعبير، لكن ذلك -في حد ذاته- يعيدنا إلى فكرة التمثيل، بما فيها التي طرحها ماركس حول عجز الشرقيين عن تمثيل أنفسهم. (نفس المرجع الصفحة61).
فرانز فانون والديالكتيك الكولونيالي
درس فانون العلاقة بين المستعمر والمستعمر ومنتجات العنصرية والدونية والفوقية البيضاء معتمدا على النظرية النفسية التحليلية لفهم الإحساس الصدامي للوضاعة أو النقص، الذي يحل على ضحايا الافتراضات العنصرية للقوى الاستعمارية المهيمنة. لقد فهم فانون بأن نهاية الاستعمار لا تعني نهاية الكولونيالية، فالعلاقة الموجودة بين المستعمر والمستعمر لا تختزل في الأبعاد المادية لأنها تنبني على حالة نفسانية وتقتضي أدوات تحليلية مختلفة فخروج المستعمر من الأرض دون خروجه من الذات لا يمثل سوى إعادة إنتاج لصيرورة كولونيالية يكتنفها الاستلاب (وحيد بن بوعزيز جدل الثقافة مقالات في الآخرية والكولونيالية والديكولونيالية، دار ميم للنشر الطبعة الأولى 2018 ص 31). فالاستعمار حسب فانون ليس آلة مفكرة ولا خطابًا يتم تفكيكه، ولكنه عنف هائج وقوة عمياء، وإذا كان من تعريف يمكن تقديمه للاستعمار فهو أنه اختراق عنيف لكل أوجه الحياة في المستعمرة؛ اختراقٌ للثقافة والقيم والموارد، إنه نفي منظم للآخر من حيث هو قرار صارم بإنكار أيّ صفة إنسانية للآخر(فرانز فانون، معذبو الأرض، ترجمة سامي الدروبي -جمال الأتاسي، مدارات للأبحاث والنشر القاهرة مصر الطبعة الثانية 2015 ص 200)، لذلك شكل التحرر البراديغم الغالب على تفكير فرانز فانون، وعلى غرار نقاد ما بعد الكولونياليية وجّه فانون نقدا للفعل الكولونيالي ومنظريه الذين حوّلوا المعرفة إلى أداة للسيطرة في السياق الاستعماري. فلا شيء غير العنف يمكن أن يُعرّف المستعمِر ويحلل فاعليته فمحو الاستعمار هو حدث عنيف دائما (نفس المرجع ص 39)، ويعطي فانون للعنف مضامين أخرى نفسية تتمثل في اتخاذ العنف وسيلة لتطهير النفس من السموم وتخليص المستعمَر من مركب النقص الموجود لديه، باعتباره غير قادر على ممارسة العنف على غرار المستعمِر، بل ويعتبر فانون العنف منسجمًا وطبيعة الأشياء، لأنه هو الوسيلة الرئيسية التي يستمد منها المستعمِر والمستعمَر معًا قوتهما، فعنف النظام الاستعماري وعنف المستعمر يتوازنان ويتجاوبان في تجانس مشترك (نفس المرجع الصفحة 81).
يضعنا فانون بهذا التصور أمام آليتين للعنف الأعمى لا تختلفان إلا في مقاصدهما، لكن ماهيتهما واحدة، فكما أن الاستعمار لا يكون إلا بالعنف، فكذلك التحرر واستعادة الإنسان المستعمَر لذاتيته وإنسانيته لا يتم إلا بالعنف أيضًا. وعليه فإن مقولة العنف عند فانون تصبح وضعية تاريخية وليس وضعية تيبولوجية، بمعنى أن العنف لا يمثل عند فانون شكله السادي حسب ما حاولت بعض الدوائر الكولونيالية توصيفه، بل رهان تاريخي يدفعه التحول في حياة المجتمعات خاصة حين تقابل بعنف. أما مسألة تصفية الاستعمار (الديكولونيالية) عند فانون فلا تخضع للمنطق الاستبدالي (استبدال أسماء الأماكن والذوات بأسماء وذوات أخرى) بل إن تصفية الاستعمار هي عملية تاريخية تدريجية ثقافية أكثر منها مادية، وهذا ما يفسر المحاذير التي ركز عليها فانون في ما بعد الاستقلال في أن الذوات ما بعد الكولونيالية تبقى حبيسة الشرط الكولونيالي بفعل المعايشة الطويلة مع المستعمر (وحيد بن بوعزيز: جدل الثقافة الصفحة 45). فصيرورة التحرر الفعلية حسب فانون هي التحرر بما هو استعادة وبناء للإنسان الجديد.
المرأة السوداء: الهذيان المانوي و تقويض مركزية الذكورة البيضاء
خصص المفكر فرانز فانون فصلا من كتابه “بشرة سوداء أقنعة بيضاء” لقضية المرأة السوداء وعلاقتها بالرجل الأبيض كقيمة، حمل عنوان “المرأة الملونة والأبيض” في سياق تقويضه لمركزية الرجل الأبيض عبر علاقته المرضية بالمرأة الملونة أو علاقة المرأة الملونة الهذيانية بالأبيض عبر تحديد يتجاوز حدود الحب كعاطفة إنسانية بل عبر تحديد المدى الذي يبقى فيه الحب الأصيل ممتنعا ما لم يطرد هذا الشعور بالدونية (فرانز فانون: بشرة سوداء أقنعة بيضاء، ترجمة خليل أحمد خليل دار الفارابي بيروت لبنان 2004 الطبعة الأولى الصفحة 46).
من خلال التوجه نحو تحليل العلاقة بين المرأة الملونة والرجل الأبيض وهي علاقة تشبه إلى حد بعيد بدايات الاستعمار وحتى بعده حين كانت ترمز الأجساد الأنثوية إلى الأرض المفتوحة (آنيا لومبا: في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية الصفحة 157) فإن فانون يشير للبعد النفسي في العقلية المستعمَرة الذي يحوّل بانتباهه إلى العلاقة بين المرأة الملونة والرجل الأبيض وكيف ساهم الوضع الاستعماري في خلق شرخ نفسي أدى إلى حالة عصابية للإنسان الأسود، أو ما يسميه فانون بالهذيان المانوي، والحال هذه تنطبق على حالات هذيانية عند المرأة الزنجية التي ترى خلاصها في الرجل الأبيض، فيقدم فانون لطبيعة هذا الانسلاب النفساني للأسود حين يقيم نقداً لكتاب “أنا مارتينيكية” (امرأة من المارتينيك) للكاتبة مايوتي كابيسيه، ولكي يوضّح أيضا أن الاستعمار ألحق بعض أدوات التي تعمق هذا العقدة الفوقية في ترسانته الأيديولوجية ليبقى متجدداً.
فيرى فانون، أن المستعمِر الفرنسي وجد صوت مايوتي حليفاً مثالياً، يثبت سياسة الاستعمار نحو الشعوب المستعمرة بتجديد خطاباته. فمايوتي كابيسيه، في كتابيها تشوّه الرجال الملونين، وترتاح لإنقاذ النساء الملونات على يد الرجال البيض الذين ينقذونها وأخواتها من العبودية. فمايوتي: تحبّ رجلاً أبيض تتقبل منه كل شيء فهو السيد، لا تسأله ولا تطالب منه شيئاً اللهم إلا القليل من البياض في حياتها (فرانز فانون: بشرة سوداء أقنعة بيضاء الصفحة 46). وتبرز العقدة من خلال توجه الكاتبة لعقد تماثل مانوي بين الأبيض صاحب القيم الفاضلة والأسود الدوني والبعيد عن هذه الصفات. وفي مقطع من الرواية تتحدث مايوتي عن فشلها في تسويد وتزنيج العالم لذلك ستحاول تبييضه في جسمها وفي لونها لأن الحياة صعبة بالنسبة إلى امرأة ملونة (نفس المرجع الصفحة 50).
كما يشير داباشي إلى مناقشة فانون لروايتها الثانية “الزنجية البيضاء” حيث لاحظ أن مايوتي وصفت كل رجل أسود بالتافه أو صفات غير لائقة وما قاله فانون: نستطيع أن نقول بأمان إن مايوتي كابيسيه دارت بظهرها إلى الجزيرة. في كلا كتابيها هناك منهج واحد متروك لبطلتها وهو الرحيل. هذه الجزيرة جزيرة السود الملعونة بالتأكيد (حميد دباشي: بشرة سمراء أقنعة بيضاء، ترجمة حسام الدين خضور دار نينوى للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 2012 الصفحة 27). والرحيل عن الجزيرة التي تمثلها جزر المارتينيك هو ارتحال عن الهوية وعن اللون وعن العرق نحو الأبيض رجلا كان أم هوية. وبهذا تقر مايوتي عدم الغرق في الزنوجة المفرطة عبر إنقاذ السواد نحو التبييض أو على الأقل نحو الأقل سوادا.
يذكر فانون ردود المرأة الملونة تجاه الرجل الأوروبي على مستويين ينقسمان وفق انقسام المرأة السوداء نفسها، فهناك الزنجية وهناك الملونة فالأولى ليس لها سوى وهم واحد هو التبييض أما الثانية فلا تطلب التبييض فحسب بل تريد تجنب الارتكاس (فرانز فانون: بشرة سوداء أقنعة بيضاء الصفحة 59)، ويدخل وهم المولدة أنها فتاة بيضاء لذلك تعتبر أن طلب الأسود الزواج منها ما هو إلا إهانة لها. أما الزنجية فتشعر بدونيتها وتتوق إلى أن تجعل من نفسها مقبولة في العالم الأبيض عبر ظاهرة تسمى التهيج العاطفي (Eréthisme Affectif)،( نفس المرجع الصفحة 65). ويخلص فانون إلى أن العبد مخلص لدونيته والأبيض مخلص لتفوقه. والأسود يتصرف وفق تصرف عصابي للتهرب من فرديته ومحاولة إعدام لوجوده مما يحيله إلى نوع من الاستلاب.
المرأة الجزائرية وديالكتيك التحرر
يرتكز المنظور النسوي الفانوني بالنسبة إلى المرأة في سياق الثورة الجزائرية على مرجعية ترتكز من ارتياب فانون من أن يحتل أيّ نسق فكري أو ديني محل الأيديولوجية التحررية والتي ولّدها النضال الشعبي من تحت إلى فوق (نايجل سي غيبسون: فانون المخيلة بعد الكولونيالية، ترجمة خالد عايد أبوهديب المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الطبعة الأولى 2013 الصفحة 15)، وهو يؤمن بأن العوامل الاجتماعية والسياسية والنفسية كلها مترابطة في إعطاء البعد التحرري، وعلى غرار تصوراته للعنف فإن تصوراته للنسوية يجب ألاّ تقطع من سياقها التاريخي.
بعنوان “الجزائر تلقي الحجاب” يطرح فانون فكرة أن قضية نزع الحجاب من قبل المستعمر كان رغبة مدفوعة بنزعات جنسية عدائية ودوافع سياسية وبحسب فانون، فإنها عملية ممنهجة لتحطيم أصالة الشعب وتفتيت أشكال الوجود المؤهلة لإبراز حقيقة وطنية من قريب أو من بعيد (فرانز فانون، العام الخامس للثورة الجزائرية، ترجمة ذوقان قرفوط، مراجعة عبد القادر بوزيدة دار الفارابي بيروت لبنان الطبعة الأولى 2004 الصفحة 25).
لقد كانت قضية الحجاب مسألة سياسة وأيديولوجية استعمارية تهدف لمحاولة خرق المجتمع الجزائري وإخضاعه وتفكيكه عبر مرافعات نموذجية وعلمية دقيقة تختفي وراء المدافعة عن المرأة الجزائرية التي حولها الرجل في -الزعم الاستعماري- إلى شيء عديم القيمة والحركة والفعالية. وباسم العلم تظهر فوقية المستعمِر، وهذا تبرير عقلاني لدخول الجمعيات وحركات التضامن لتنفيذ أو فرض هذا القانون الاستعماري عن طريق إشعار الشعب الجزائري بدونيته أمام الاستعمار. كما أن الدونية والابتزاز تفشيا من خلال العنف الرمزي الذي يمارسه مدراء أو أرباب العمل الأوروبيون على العاملين الجزائريين في وضعهم بين خيارين، إما قبول الإهانة، متمثلةً بجلب زوجته ليراها المستعمِر في الاحتفال، أو رفض الدعوة وبالتالي التعرض للطرد (نفس المرجع الصفحة 29)، إنها تمثيل للروابط والعلاقات التي تظهر بشكل سادي وفاسد وما تمثله على المستوى النفسي من مأساة النظام الاستعماري والصدام الذي يجري بين نظامين (نفس المرجع نفس الصفحة).
يعتبر المستعمِر خلع حجاب بعض الجزائريات نوعا من الانتصار في مهمة إخضاع المجتمع الجزائري وتفسيخه، فأيّ حجاب منزوع كان يكشف للمستعمر آفاقا كانت ممنوعة وبعد سفور كل وجه تظهر صورة المستعمر العدائية وآماله وتعلن المرأة بهذا السلوك على تفسخ النظم الدفاعية، وكل جسم يتحرر من وثاق “الحايك” التقليدي يكشف على نحو سلبي بأن الجزائر بدأت في التنكر لنفسها وتقبل بهتك سترها من قبل للمستعمر، وأن المجتمع الجزائري مع كل حجاب مهجور يعلن أنه يرضى بمجاراة السيد وتغيير عاداته لسيده (نفس المرجع الصفحة 32). لقد أحس المستعمر بأنه كسب المرأة الجزائرية إلى صفّه كحليف في تدمير الثقافة الجزائرية نتيجة لفوقيته و ذكوريته في نفس الوقت، أي أنه اعتبر المرأة الجزائرية متلقية سلبية.
لكن الرؤية الاستعمارية لسفور المرأة الجزائرية كان له رأي آخر لدى قادة النضال المسلح وفي هذه الحالة فإن سفور المرأة أدى إلى تحولٍ في مسرى الثورة. فبينما كان الرجال يحتكرون المقاومة، وفي ظل تخوفهم من أن تؤثر هذه التغيرات سلباً على مجرى الثورة، ارتأى قادة الثورة إدخال المرأة إلى النضال والكفاح وليس فقط كدور مساند، بل كدور مركزي، حيث أثبتت المرأة الجزائرية قدرتها على استخدام التقاليد والثقافة (والزيّ جزءٌ منها) كون المنظومة الجسديه تتأثر باللباس، معنى ذلك أن الخبرة الحياتية لهؤلاء النساء وإحساسهن بعملية التجسد تتغير بتغير ما يلبسن (كيلي أوليفر، النساء أسلحة حربية، العراق الجنس والإعلام ترجمة مجاهد شكري عبد المنعم العبيكان للنشر السعودية ط1 2008 الصفحة 68).
وكشفت قضية السفور المفروضة احتمالات جديدة في النضال تستطيع المرأة فقط تحقيقها أو تسهيلها. فالجسد الأنثوي في نفسه في أصل حضوره في وجوده يشار إليه بوصفه سلاحا (نفس المرجع الصفحة 08)، وكان ولوج المرأة للنضال التحرري تدريجياً بما يتلاءم مع واقع المجتمع،. وبذلك انتقل العمل الثوري للمرأة الجزائرية من مهام خفيفة من مراسلات إلى مراقبات (كشافات) إلى حاملات للقنابل والأسلحة، وفي هيكلة خلايا نسائية وقيادة نسائية. وبذلك تغير دور المرأة التقليدي أثناء، وكنتيجة للثورة، فمكّن انخراطها الكلي في صفوف المجاهدين، ثم إن انخراط المرأة في العمل النضالي أو في الثورة حوّل الخوف المجتمعي من العار إلى خوف على من كنّ أسرى العار، أي خوف على المرأة المناضلة من المستعمَر. وبالتالي كشف الكفاح عن علاقات جديدة ما بين الجنسين، غير مقتصرة على النظرة التقليدية.
كان نزع الحجاب أمراً تحررياً، ولكن ليس بسبب الاستعمار الفرنسي، بل بفعل خلقه مساحة للمرأة بالانخراط في الثورة التي أعادت تشكيل وصياغة دورها وأهميته في استمرارية الثورة. ومع أن المرأة الجزائرية أعادت الحجاب قياسا للبعد الصارم في الفصل بين الجنسين، إلا أن قيمة الحجاب ورمزيته تجردت من البعد التقليدي(فرانز فانون: العام الخامس للثورة الجزائرية الصفحة 57).
يتناول الفصل الثالث التغيرات التي طرأت على شكل العائلة أثناء الثورة، وكنتيجة لحرب التحرر، ويعكس من المنظور الاجتماعي ارتباط المرأة بالنظام الأبوي الذكوري وكيف حرّكت الثورة التحريرية نظام الذكورة وأعادت تأسيس منظومة قيم اختلفت عما عهدته النساء وعهده الرجال من وقت بعيد. فغياب العمل الثوري قبل اندلاع الثورة مبقياً على علاقات عائلية ومجتمعية تقليدية لم تكن قد كسرت الحواجز بعد، وبعد استنزاف الوسائل السلمية في الصراع تم كسر العديد من الحواجز، أهمها العائلية في هيكليتها الأبوية. لم يعد الأب هو قدوة العائلة في القيم حيث سعى كل فرد إلى تحديد قيمه بنفسه.
كانت علاقة الأب بالابنة قبل الثورة مرتهنة إلى منظومة التقاليد وتأخذ مكانها في شبكة التقاليد المنزلية المتوارثة في المجتمع الجزائري(نفس المرجع الصفحة 109)، فقد كان الذكر هو ما يمثل الوصيّ عليها فبينما كانت الابنة بعيدة عن الأب وتمثل عبئاً على الأب يضطر إلى تزويجها لكي لا يموت، ويتركها بلا سند، وارتبطت هذه العلاقة بنوع من الارتباط التماثلي النفسي فأصبح الأب يرى المرأة في ابنته، والابنة ترى الرجل في أبيها (نفس المرجع الصفحة 111).
تحول وضع المرأة وبعد انخراطها في الثورة فلم تعد تنظر في التفاصيل الخاصة بتصرفاتها المسلكية القديمة خاصة في الجبال بصحبة المجاهدين لفترات قد تصل لأشهر،. فكسر حاجز العار الذي ارتبط بالعادات والتقاليد وكسرت الهيمنة الأبوية للأب على ابنته، فأصبحت الابنة المجاهدة تتحدث إلى الأب بثقة، ويفتخر الأب بابنته، وفرحته بعودتها سالمة كسرت عنده حاجز النظر إليها كعبء. بمعنى آخر لم تعد المرأة تابعاً للذكر حيث أن دخول المرأة في الثورة أثّر على علاقتها بالمجتمع ككل فتغيرت نظرة الأب لنساء المجتمع الأخريات، كما اختلفت نظرة المرأة لنفسها، وأصبحت أكثر وعياً لدورها الفعال في الوطن وتنصلت من موروث “كلمة الرجال”. فالمجتمع الجزائري وهو في معركة التحرير وفي التضحيات التي يسجيها في سبيل تحرره من النظام الاستعماري يجدد نفسه ويوجد قيما لم تكن معروفة مبنية على علاقات جديدة بين الجنسين فقد كفّت المرأة عن كونها ذيل الرجل (نفس المرجع الصفحة 113).
مما لا شك فيه أيضاً أن العلاقات الزوجية تأثرت كغيرها، فبينما كان الزوج يكتم عمله الثوري عن زوجته تحوّل مفهوم الزوجة لزوجها فرفضت خنوعه للنظام وعدم فاعليته في الثورة، بل أصبحت النساء تطمح بالزواج من الفدائي، ولا ترضى غير ذلك. وأصبح من الضروري إشراك الزوجة أو إطلاعها على مجريات العمل، هذه العلاقات أعادت تشكيل علاقات القوى بين الزوجين، فلم تعد الزوجة تابعة أو مكملة للزوج، بل شريكته في العمل النضالي. وبطبيعة الحال تغيرت علاقات الزواج والطلاق فأصبح المجاهدون والمجاهدات يتزوجن دون إذن العائلة أو الأب، بينما لم يكن كذلك قبل الثورة. أصبحت المرأة قادرة على اختيار زوجها بنفسها أيضاً (والانفصال عنه) ما نفى دور الأب في هذا المجال. كما ظهر شكل مختلف للعائلة وأطفال الثورة المولودين في الجبال وبين الثوار.
لقد حركت الثورة المجتمع النسائي خاصة بتحول المرأة ومواقعها المادية والمعنوية في الأماكن وفي الوظيفة فوجه الهجرات التي يرغم عليها الأهالي يختل نظام الهيئة الاجتماعية وعالم الإدراك فيعاد بناؤها من جديد (نفس المرجع الصفحة 123)، فلم تعد الولولة والنحيب وتخديش الوجوه على الميت أمورا ذات أهمية بل يعاد صياغة نموذج جديد يتمثل في الزغاريد وصرخات الفرح، وبذلك تحولت الآلية العاطفية لدى هؤلاء النسوة بتعطيل أشكال اليأس والحزن المعتادة خاصة على مستوى الإدراك بأن الموت أصبح من فعل الآلة والقمع الاستعماري.
إذا نظرنا إلى تحليل فانون في هذه الفصول فإننا نرى أن تمكين المرأة كان بفعل قادة الثورة، أو بمعنى آخر الرجل الجزائري الثوري. ولكن ضرورة الثورة سمحت بهذا التغيير، بل وتطلبته، والنتيجة كانت كسر ثوابت المجتمع التقليدية وتغيير المنظومة الأسرية التقليدية.
خاتمة
مثلت النسوية كنظرية وفلسفة رؤية تجاه القيم الذكورية التي شكلت وجودها القيمي، وكذا أشكال التهميش والاضطهاد التي عانت منه المرأة عبر التاريخ، وقد تكوّن هذا الاتجاه على شكل موجات بحسب تطور الجدل الفكري ومسارات التاريخ ووضع المرأة داخله. وقد بدت ملامح النسوية في الفكر النسوي ما بعد الكولونيالي ضمن مقولات المركز/الهامش وارتكز التحليل ما بعد الكولونيالي داخل هذه النظرية حول النساء المقهورات المظطهدات من قبل المنظومة الاستعمارية والمنظومة الأبوية الذكورية التي مارست هي أيضًا تهميشًا على النساء. وداخل الاتجاه ما بعد الكولونيالي درس فرانز فانون المنظور النسوي انطلاقا من نظرته للعلاقة بين المستعمر والمستعمر معتمدا على النظرية النفسية التحليلية لفهم الإحساس بالنقص، فخصص المفكر فرانز فانون فصلا من كتابه ”بشرة سوداء أقنعة بيضاء” لقضية المرأة السوداء وعلاقتها بالرجل الأبيض، حيث أشار للبعد النفسي في العقلية المستعمَرة، التي تعكسه العلاقة بين المرأة الملونة والرجل الأبيض وكيف ساهم الوضع الاستعماري في خلق شرخ نفسي أدى إلى حالة عصابية وهذيانية للإنسان الأسود والمرأة السوداء.
أما بالنسبة إلى المرأة في سياق الثورة الجزائرية فقد خصص فانون تحليلاته أولا حول قضية الحجاب التي رأى أنها مسألة سياسة وأيديولوجية استعمارية تهدف لمحاولة خرق المجتمع الجزائري وإخضاعه وتفكيكه عبر مرافعات نموذجية وعلمية دقيقة تختفي وراء المدافعة عن المرأة الجزائرية والتي استطاعت أن تتجاوزه بانخراطها في الثورة وتغير معطيات النظرة الاستعمارية بأكثر فعالية. كما أشار فانون إلى التغيرات التي طرأت على شكل العائلة والنظام الأسري أثناء الثورة، وكنتيجة لحرب التحرر.. وعكس من المنظور الاجتماعي ارتباط المرأة بالنظام الأبوي الذكوري وكيف حركت الثورة التحريرية نظام الذكورة وأعادت تأسيس منظومة قيم اختلفت عما عهدته النساء وعهده الرجال من قبل.