وثيقة:كيف نشفى من جرح الأم؟

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

نحو وعي نسوي.jpg
تدوينة
العنوان كيف نشفى من “جرح الأم”؟
تأليف سارة قدورة
تحرير غير معيّن
المصدر نحو وعي نسوي
اللغة العربية
تاريخ النشر 2020-04-13
مسار الاسترجاع https://feministconsciousnessrevolution.wordpress.com/2020/04/13/كيف-نشفى-من-جرح-الأم؟/
تاريخ الاسترجاع 2020-05-15
نسخة أرشيفية http://archive.vn/dnD3J



قد توجد وثائق أخرى مصدرها نحو وعي نسوي



تعرّفت بالصدفة على مفهوم “جرح الأم” (The Mother Wound) منذ عدّة سنوات، وهي عبارة تدّل على الأذى والمسؤولية التي تنتقل من أم لابنتها – أم مستقبلية أخرى – لأسباب عدّة، منها عدم قدرة الأم الأولى على أخذ خيارات جيّدة فيما يخصّ إبنتها، تحت ظلّ أبوية تحصر خياراتها بين قمع الابنة والحصول بالتالي على بعض الحصانة الاجتماعية أو بناء علاقة صحيّة معها وخسارة الكثير من الحماية والمكانة في المجتمع.

“جرح الأم” بدأ كمفهوم تشخيصي لشرح آثار ذلك على نفسية الابنة، كالذنب الذي تحمله حيال أمّها، والذي تعذّيه الأم عبر التلاعب العاطفي في كثير من الأحيان، والتقنيات السيئة للتعامل مع الضغط الاجتماعي التي تجعل أولئك الأمهات عنيفات وسيئات تجاه بناتهن.

صدرت كتابات نسوية منذ فترة أعطت للعبارة بعض الشهرة، فابتعدت قليلاً عن البعد التشخيصي لتركّز على الديناميات الموجودة في علاقاتنا مع أمهّاتنا في ظلّ الشبكة المعقّدة من المسؤوليات والذنب والعنف والخوف. الفكرة بحد ذاتها ليست بجديدة، فعندما ننظر لمؤسسة العائلة وكيف تعيد إنتاج نفسها وإنتاج الأفكار المهيمنة في المجتمع، يصبح من السهل فهم تلك الحالة العامّة جدّاً، وفي الوقت نفسه، نسف مصداقية عبارة “المرأة هي أكبر عدو للمرأة”. ففي كل مرّة نسمع خبراً عن امرأة عنيفة أو ظالمة بحق إبنتها، إن كان عبر قصص إجبار الأمهّات لبناتهن على الخضوع للختان، أو تزويجهن غصباً، أو التشجيع على تأديبهن بشتّى الطرق عند إخلالهن بمعايير الأنوثة والشرف، يقال لنا أنّنا نحن المسؤولات عن العنف ضدّنا. ثقافة تلوم النساء على العنف الذي يخضعن له هي ثقافة وليدة للأبوية، متماشية مع ثقافة لوم الضحيّة عندما تتعرض للإغتصاب والتحرّش، ثقافة تسألنا عمّا فعلت ضحيّة القتل على يد شريكها لتتعرض لهذا كله.

نتعلّم إذاً كنسويات عند محاولتنا فهم العالم عبر فحصنا له بأدوات نسوية جديدة، أنّ العائلة ليست مجرّد مؤسسة عاطفية، بل هي مؤسسة سياسية بإمتياز، ومسؤولية التربية ليست بمسؤولية عبثية، بل تمّت هندستها جيّداً ليكون دور الوالدين فيها تعليمي، والأم عليها المسؤولية الأكبر كالراعية الأساسية. فنقل الأخلاقيات والسلوكيات والأفكار الأبوية يقع في صلب دور الأم التعليمي، ومن مهامها التأكيد على نشأة جيل جديد يعرف أدواره الجندرية الاجتماعية، ويتصرف حسب ثنائية بنت/صبي، ولا يتحدّى تلك الأفكار. فإذا الأم قامت بمهمتها تلك على أكمل وجه، وربّت أطفالاً يعرفون حدودهم الاجتماعية ويعيشون حياة ذات مسار تقليدي، نجحت في أن تضمن أن المجتمع لن يحاسبها، بل سيكرمها كأم مثالية، مربيّة ومضحية (وعلى الرغم من كل ذلك، يجد المجتمع أسبابه ليحاسب النساء). أمّا إذا فشلت الأم في نقل تلك الأفكار، أي إذا لم تنجح في ضمان أن أولادها يتصرفون كالرجال وبناتها كالبنات، ولاحقاً كالنساء، فهي الملامة لتقصيرها، وهي التي ستتلقى العقاب على هذا التقصير. يأتي العقاب بأشكال عدّة تمتد من النقد الدائم إلى الضرب.

لذا، تجد الأمهات أنفسهن بين خيارين قاسيين، أحياناً لا يعين دورهن بها، لكنهن يعين تبعات أي مسار يتخذنه. فالأم التي تجبر بناتها على أمور ذكورية، لا تضمن ألّا تُعاقب وحسب، بل تضمن ألّا يتم معاقبة إبنتها أيضاً من قبل المجتمع. فالعذاب النفسي والجسدي والعاطفي التي تمر به البنات لا يُقارن بالأذى الذي سيلحقهن إذا كسرن القواعد النمطية للأنوثة والشرف. الأم نفسها مرّت بنفس المسار، ربما كرهته، وربما وجدته طبيعياً لأنّه المسار الذي تمر به جميع البنات، ولكن في الحالتين، حتّى إذا أرادت التمرد يوماً ما، يعاد ترويضها عندما تصبح أمّاً من خلال التهديد الدائم بالعقاب. فالنساء مضطرات أن يستبطن أنّ اضطهادهن مجتمعياً هو لمصلحتهن والمصلحة العامة، وإلّا لما استطاع النظام الأبوي الاستمرار.

لذا، تجرح الأمّهات بناتهن، وتكبر البنات ليصبحن أمّهات، فيعدن ليجرحن بناتهن بدورهن. فتخلق حلقة من “جرح الأم” يصعب دملها أو التصالح معها إلا إذا ما كسّر الفكر النسوي والوعي بالظلم الجندري تلك الحلقة. وعندما يكسرها، أعي أنا البنت ذاك الجرح وأعي آثاره، وأجدها في تصرفاتي وسلوكياتي، وفي مشاعري تجاه الأمومة، وفي علاقاتي مع الآخرين. أجد ذلك الجرح في ردّات فعلي على العنف والأذى، وفي تصالحي معه، وأجدني أحمل ذنباً لا أعرف التعامل معه، وأحمل معضلةً تحوم كغيمة فوق علاقاتي مع أمّي.

كيف نسامح أمّهاتنا على ذلك العنف، إن كان جسدياً أو نفسياً أو عاطفياً؟

الأجوبة تختلف على اختلاف أمّهاتنا وعلاقاتنا بهنّ. فهناك أمهّات أهملن دورهن الأمومي بدلاً من تأديته، والجرح الذي يتركنه عند بناتهن يختلف بعض الشيء عن الجرح الذي يُترك من قبل أمّهات منحن الحب ومارسن العنف سويّاً. أمّي اعطتني حبّاً وعنفاً. فهي سمحت لي بحدودٍ من الحريّة وضعتها في موقع نقد مستمر من محيطها، وأعطتني مجالاً للثقة والحديث عن أموري الخاصّة دون محاسبتي عليها، لم يكن متوفراً لبنات كثيرات. لكنها مع ذلك عاقبتني بعنف كل مرّة أخلّيت بقيمة تلك “الحرية”، والحريّة عندنا لها حدود. كما ربّتني وأخوتي عبر الضرب عندما وجدت نفسها أرملة في سن صغيرة مع ثلاث أطفال عنيدين. ربطت حبّها بعنفها، ووجدت نفسي لا أستطيع التعامل مع أحدهما دون الآخر. استخلصت أن حبّها كرهٌ، وعلاقتي معها لم تكن جيّدة حتّى تركت البيت، وعندما تركت البيت، أصبحت نسوية.

هل أسمّي النسوية ولادة أخرى؟ أم بلوغًا ثانيًا؟ الأكيد هو أنّ النسوية ساعدتني أن أرى أمّي كإمرأة، لا كأم فقط. أصبحت أراها فعلاً، بكل تفاصيلها وتعقيداتها، بمجابهتها لمسؤوليات النظام الأبوي وباستسلامها له، بأسلوبها بالحب وأسلوبها بالكره. تيقنت أنّها تحبّني، وأن عنفها كان حقيقياً أيضاً، وأن الاثنين يمكن أن يأتيان من نفس الشخص. بررت لها عدم معرفتها لأسلوب أفضل بالتعامل أحياناً، وشعرت معها في الظروف التي جعلتها وحيدة ومسؤولة عن تربية ثلاث أطفال، تحت رقابة كل رجل وامرأة في المجتمع، في وقت كانت مسؤولة عن حماية صورتها أيضاً كأرملة أمامهم. علاقتنا تحسنت كثيراً عندما لم أعد أعتمد عليها بشكل أساسي لصحتي النفسية والعاطفية، وعندما أصبح من الصعب عليها أن تؤذيني جسدياً. فأنا الآن امرأة، في نظري عالأقل، أراها كامرأة، أؤنبها عندما تخضع لمعايير الذكورية، وأشعر بها عندما تشتكي من قساوة الذكوريين في حياتها معها. نحن الآن امرأتان، نفهم بعضنا البعض.

لكن الأصعب من كلّ ذلك هو الوقت الذي أقضيه وتقضيه نساء كثيرات غيري في التأمل في تصرفاتنا وسلوكياتنا اليوم. فجرح الأم لا يلتئم إذا فهمنا أمّهاتنا فقط. قلقنا لا يختفي، وخوفنا من أمور بسيطة لا يزول، والذنب، أصعب المشاعر وأثقلها، صعب تفكيكه والتخلص منه. الذنب الذي نحمله لأجيال، والذي يجعلنا نتردد حيال فكرة أن نصبح أمّهات ذات يوم، يتطلب الكثير من الجهد ليصبح أقل وطأة على القلب. ذلك الذنب كفيل بأن يعرقل أي مخطط إذا ما تسلل وأشعرنا بأننا سنؤذي أمّهاتنا، وأنهن يحتجن لتضامننا، لا لقسوتنا، ليقفن ضد النظام.

كلنا نتعافى بطرقنا الخاصة. العديد من النساء قررن كسر الحلقة فأصبحن أمّهاتٍ نسوياتٍ حاضناتٍ لبناتهن. أخريات كسرنه نهائياً فقررن الاستغناء عن مسار الأمومة. نساء كثيرات ابتعدن عن امهاتهن لأن “جرح الأم” لم يكن سهلاً أبداً، وأخريات حاولن معالجته عبر مواجهته ومواجهة العائلة. العدد الأكبر منّا لا يزال يحاول فهم ذلك الجرح. أنا، كغيري من النساء، أحاول أن أفرّق بين الأم التي لم تملك أدوات نسوية ولا قدرات مادية واجتماعية لحمايتها من العنف إذا لم تعنفني هي بنفسها، وبين الأم التي حاولت كلما استطاعت أن تحتضنني وتقيني من الشرور خارج المنزل، لأنها هي أيضاً تحمل “جرح الأم” الخاص بها. أن أسامح الأولى وأحبً الثانية. أحاول أن أتعافى فأتأمل بالآثار المتبقية، أفكك خوفي وشعوري بالذنب، وأحيط نفسي بحب لا يأتي معه عنفٌ، حبٌّ نستحقه جميعاً.