وثيقة:وماذا عن الجسد؟
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | زبيدة |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | البوصلة |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر |
|
تاريخ الاسترجاع |
|
نشر هذا المقال في العدد الرابع من مجلة البوصلة المعنون "المرأة المصرية .. أسئلة الجسد والثقافة والسياسة" يوليو (2007)
قد توجد وثائق أخرى مصدرها البوصلة
مر ما يزيد عن مئة عام على حركة تغيير أدوار المرأة، بمشاركتها فى الشأن العام. فترة ربما تسمح لنا بأن نتأمل مدى هذا التغير، مقارنا بحركات التغير الأخرى، سواء من حيث الزمن أو الجهد. ربما كان أول ما نلاحظه هو أن المرأة أكبر فئة عددية تعرضت للقهر في التاريخ، وفى نفس الوقت كانت حركة تحرر المرأة آخر ما ظهر تقريبا من حركات التحرر، بعد حركات التحرر السياسي واستقلال الأمم والمساواة بين الأجناس، والأهم حركات تحرر العبيد.
ويمكن للمتأمل أن يشهد توجهات مختلفة فيما يسمى عموما حركة تحرر المرأة، تؤثر على كل منها خصائص المجتمعات والأديان والأعراف المسيطرة على المجتمع الذى تعمل فيه. ويبدو لى أنه يمكن تقسيم الآراء والنظريات المتعلقة بمساواة المرأة بالرجل في الحقوق الاجتماعية والقانونية إلى قسمين أساسيين: قسم "توسيع الأسوار"، وقسم إزالتها. ترمى الأفكار التى تنتمى إلى القسم الثانى إلى المساواة الكاملة، أو حتى إلي الاستقلالية وحق تقرير المرأة لمصيرها. ولكن كانت الصدارة غالبا للقسم الأول، فقد اضطرت القيادات الفكرية لحركات المرأة فى معظم الأحيان لتشذيب أطراف الدعوة حتى لا تلقى النفور من بداياتها، لتقتصر على بعض المكاسب الفئوية. فهى حركات تبغي إعطاء الكائن المؤنث "بعض الحقوق" المنتقصة، وتفخر بإنجازاتها إذا نجحت فى تحقيقها، وتباهي بها المرأة. لقد صارت فكرة "توسيع الأسوار"، باعتبارها الهدف الأساسي لحركات تحرير المرأة، أو تمكينها، أو أيا كانت الأسماء، هي المسيطرة على أفكار ونظريات المتكلمين.
ليس "توسيع الأسوار" عيبا في حد ذاته، وإنما المشكلة أن المدافعين عن يصورونه كمساواة كاملة بين الرجال والنساء. من هنا تلك العبارات التي نسمعها كثيرا من نوع: "إن المرأة في الغرب حصلت على كامل حريتها" أو "إن المرأة الشرقية حصلت على حقوقها". هذه العبارات تُفهم بالضرورة على أحد وجهين، أولهما أن المتحدث يعني إن ما حصلت عليه المرأة من حقوق حتى هذه اللحظة هو "كافة حقوقها"، الأمر الذى يتناقض مع فكرة العدالة بمعنى المعاملة المساوية للبشر. والثانى أن المتحدث يظن أن المرأة تعامل بالفعل معاملة مساوية للرجل، وهو جهل بين، يكفى أن نذكر بشأنه فحسب المهن التي تُحرم المرأة من ممارستها قانونا، ناهيك عما تُحرم منه عرفا وواقعا.
أيا كان الوجه الذى تُفهم به هذه العبارات، فإنه يبدو لى أن الحائط الذى تصطدم به دعوى المساواة هو حائط الجسد. فالمتحدثين باهتمام حقيقي واستعداد لتفنيد المعتقدات والمسلمات - أى مع استبعاد "قُطاع طرق الحديث" الذين يبرزون فجأة ليعلنوا متوارثا أو مسلمات دون التفكير فيها أو حتى الاستعداد لمناقشتها - يبدأون بشعار شديد الدلالة: "وأنا هنا لا أتحدث عن الجسد". لأنك إذا تجرأتِ وتحدثتِ عن حرية الجسد ستترجم العبارات على الفور إلى " الحرية الجنسية" للجسد. هذه الترجمة "الفورية" التى تبدو للكثيرين بديهية، إنما تعكس ببداهتها نفسها أن الجسد – وجسد المرأة خصوصا – محصور في الأدوار الجنسية.
بخلاف إحباطي الشخصي من هذا النوع من الأفكار، فأننى أعجز عن فهم حرية لا تتطرق للجسد، بحكم كونه الأداة أو الكيان المادي الذي لا ينفصل بحال عن غير المادي. فأنا لا أرى كيف يمكن أن تكون حرا في السير مثلا وأنت ترفع شعارا يقول: "وأنا لا أتحدث عن الساقين"! وقد أحببت أن أضع اسما لهذا "المرض"، هو "وماذا عن الجسد؟". لأن كل حق تطالب به المرأة لابد وأن ينتهي إلى تلك الجملة من قبل المعارضين والمجتمع، والتى تشكل أيضا معيارا لقبول أو رفض مطالب المساواة: فلو تبين أن المطلب ينطوى على ما يتعارض مع فكرتهم عما يجب أن يكون عليه جسد المرأة يتم نبذ الفكرة واعتبارها غير صالحة للاستخدام الآدمي، مهما بدت منطقية أو عادلة.
والفكرة الأساسية عن جسد المرأة هنا هى أنه غير مساو لجسد الرجل. وهى فكرة محورية ترتبط باعتبار الجسد بالأساس موضوعا جنسيا، بتركيز الاهتمام على نشاطه الجنسي، تليه كل الأنشطة الأخرى. وهو أمر غريب حتى من الناحية البيولوجية، فكما هو معروف النشاط الجنسي آخر ما يصل إليه الإنسان في النمو، بل إن الفسيولوجيا تختار أن تُعَلِّم به بوادر انتهاء النمو، كما أنه، ومعه النشاط الإنجابي، أول ما يفقده الإنسان في حالات الضغط أو المرض أو أية أزمة جسمية.
وتنتهى فكرة عدم مساواة جسدى المرأة والرجل إلى التأكيد على ضرورة اتخاذ إجراءات خاصة مترتبة على القول بعجزه عن القيام بما يقوم به جسد الرجل، وهى فكرة ثابتة، لا يزعزعها أن هناك نساء استطعن فعلا القيام بما ينكرون قدرتها على فعله. أذكر مناقشة دارت على المدونات بحدة بالغة ووردت فيها تساؤلات من نوع: "هل تستطيع المرأة أن تكون ضابطا للعمليات الخاصة؟"، "هل تستطيع المرأة أن تكون عاملة في منجم؟". وهكذا أصبحنا نتساءل بشكل فرضي عما حدث فعلا! إننا، في انغلاقنا داخل مجتمعاتنا نظن إن الدنيا تنتهي آخر الشارع الذي نسكنه، والذي لسوء الحظ ليس فيه ضابطة عمليات خاصة أو عاملة في منجم.
وتتخذ مسألة انتهاء الدنيا آخر شارعنا أبعادا أخرى أخطر. فالقول بعجز جسد المرأة يتجاوز قضية العمل، ليصل إلى القول بأنه غير مساو جنسيا لجسد الرجل. يقال أنه "مختلف". إننى أجد هذه الكلمة غريبة بعض الشيء لأن جسد الرجل أيضا "مختلف"، فالاختلاف علاقة متبادلة بين المختلفين. ليس المقصود إذن مجرد الاختلاف، وإنما هى كلمة مراوغة للقول بأن جسد المرأة غير مكافئ. ولا يغفل ذلك المنطق إسقاط مواصفات "نفسية" مصدرها جسدي على تصرفات المرأة. فما بين هرمونات تجعلها أكثر تقلبا، ودورة شهرية تجعلها عصبية، إلى ما يسمى سن اليأس التى يعتقد الناس أن المرأة فيه تصبح غير مستقرة نفسيا ولا يجوز لها اتخاذ قرارات حاسمة، كل ذلك يفضى إلى "استنتاج" وحيد، هو تحويل المرأة إلى قاصر حقيقية، تحتاج لمن يتأكد أنها في حالة جسدية تسمح لها باتخاذ قرارات، إن سُمح لها أصلا.
لكن الأمر يتجاوز ذلك، ليصل إلى تحديد ما يُسمح للمرأة أن تفعله بجسدها بما يشعر به جسد الرجل كجسد جنسى. وهو أمر غريب كلما فكرت فيه. إذ أية مهانة أو سيطرة أو قمع أكثر من أن تكون مشاعر آخر هي التي تحدد القيود على الجسد (فملابس المرأة ومشيتها ومواعيدها وتعبيراتها وضحكها، الخ، يجب أن تتحدد بما تثيره من مشاعر لدى الرجل). لقد أصبحت مشاعر الرجل مدللة حتى الفساد، كمشاعر الأطفال المدللين الذين اعتادوا الضرب بأرجلهم فيُستجاب كل طلباتهم مهما كانت خرقاء.
وهنا يبدو أن الدنيا لا تنتهي فقط آخر شارعنا، بل بدأت يوم وعينا على الدنيا وستنتهي يوم نموت. فكل هذه الأفكار تجهل أو تتجاهل أنه كانت توجد عهود اختلفت فيها الرؤى عن رؤاهم، بل وإن شوارع أخرى كائنة في أنحاء أخرى من الدنيا يبصر فيها الناس هذه الأمور التى يعتبرونها "مسلمات" بأعين مختلفة. ويصل الجهل والتجاهل إلى التبجح بأن يعتبر هؤلاء مسلماتهم وقائع "فسيولوجية"! أو يسبقونها بعبارات من نوع: "ثبت علميا"!
فعلى المستوى الجنسي، يفرض ما يشعر به الرجل – ولا أقول يفرض الرجل لأن النساء شريكات أصليات في الفرض – على المرأة ما يجوز ولا يجوز أن تفعله بجسدها، ويصر المدعون أن تلك المشاعر – بتحديدها وتفصيلها – أصلية عند الرجل، وبالتالي (مع اعتراضى على الاستنتاج حتى بفرض صحة مقدماته) فمن حقه على المرأة أن تراعيه. غير أن واقع الحال يبين الاختلافات الشاسعة فى المثيرات الجسدية، حتى بين المجتمعات التي تتفق على قمع المرأة جنسيا! فالمجتمعات الأفريقية التي تستقطع أعضاء المرأة الجنسية الخارجية بالكامل حتى لا تشبه أي تشريح معروف لا تتضرر إطلاقا من الأثداء المكشوفة. وتشتهر قبائل آسيوية كثيرة بنسائها اللائي يسرن عاريات الصدور ويختلطن بالرجال دون أي تضرر من الجهتين. هذه أصعب الجبهات التي يمكنكِ أن تحاربى عليها، لأنها تصطدم مباشرة بإصرار "مجتمع شارعنا" على إن ما يشعرون به أصلي يسانده التشريح والفسيولوجي وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجيولوجيا إن أمكن.
باختصار، ما نختار أن نعطيه من حقوق للمرأة رهن بما نظنه عن جسدها. واعتبارنا لها كائنا مساويا مشروط بمراعاة اعتباراتنا الخرافية التى تؤكد أن جسدها لا يمكن أن يكافئ جسد الرجل، وبقبول ما تواضع عليه "شارعنا" بشأن ما هو "طبيعى" فى مشاعر الرجل، الذى يُفترض، فوق هذا، أن يحكم تماما ما تفعله المرأة بجسدها، بل كيف تنظر إليه. وفي الوقت الراهن، وفي ظروفنا السيئة في مصر حاليا، صار ذلك ينطبق على كل شاردة وواردة في حياة المرأة، فقبل أن تتحدث عن أي حق لابد أن تُسأل: "وماذا عن الجسد؟"
وحتى لو خرجتٍ سالمة من الحوارات الخاصة باعتبار جسد المرأة موضوعا جنسيا بالأساس تستتبعه كل الأنشطة الأخرى، ستجدين نفسك محاصرة بالجسد كوعاء إنجاب والأمومة كدور لا يجوز المساس به أو بمسلماته. فلأسباب لا أستطيع فهمها بالكامل تُعْتبر القدرة على الحمل والإنجاب نوعا من العجز لدى المرأة! لأنك حين تبدأ في السؤال عن الحقوق فتجابه أحيانا بعبارات من نوع: "المرأة تحبل وتلد وتصبح أما!" وبغض النظر عن هزال الحتمية التي يتحدثون عنها (فأوربا تشهد رفض نسب كبيرة من الرجال والنساء الإنجاب، ولكن سبق أن "اتفقنا" على أن أوربا خارج الدنيا التي تنتهي بنهاية شارعنا)، فإننى أرى أن من يستطيع أن يفعل شيئا إضافيا يكون أولى بحقوق إضافية.
بناء على اعتبار الحمل نوعا من العجز يبدأ ما أسميه "عقوبة الأمومة". فالمجتمع مُصر على معاقبة المرأة على الأمومة، التي لا تختارها بمفردها في غالب الأحيان! بينما يكافئ الرجل على أبوته (راجع قوانين التأمين والمعاشات)، فيحمل أبناءه اسمه، ويحمل ولاية أمرهم، وتسقط حقوق أمهاتهم فيهم في حالات الطلاق لأسباب لا تتساوى فيها مع الرجل، مثل الزواج أو "الشك" في سلوكها – والمقصود سلوكها الجنسي بالقطع.
وتبقى نوعية أخرى من المحاورات لا يجوز إغفالها، تلك التي تتحدث عن تقييد جسد المرأة بلغة المكافأة والحفظ والصيانة، وهى محاورات تجعل جسد المرأة يذكِّرك بالقطط الإيرانية السمينة المكورة على الأرائك – في الحفظ والصون، لا تبحث عن طعام ولا تنشط، ولا تنقل لكِ إحساسا، فهي غالية ومتفرغة للحفاظ على ما دفع فيها. هنا يصبح جسد المرأة "المحظوظة" مشكلة أكبر، تشبه العجز، وعليها، فى عجزها البليد هذا، أن تشكر أولئك القائمين على تقييدها والحد من حريتها، فمن هى المرأة التى ترفض، وهى في كامل قواها العقلية (العقلية؟!)، لقب الدرة المصونة والجوهرة "المكنونة"؟!
فى كل الأحوال، سواء كانت المشكلة فى الجنس أو الحمل أو الصيانة، تُغلق المناقشات عادة عندما يقرر المجتمع ما يستطيع أو لا يستطيع جسد المرأة المشكلة أن يفعله، بالإضافة إلى ما يجوز وما لا يجوز أن يفعله، باعتباره الفيصل الأخير، وبعدها يمكن أن يتفضل بدراسة أي حقوق باقية.
فى كل هذا تجد المرأة نفسها "محملة" بجسد كلموها عنه منذ الطفولة قبل أن تختبره. فهى تتعلم، لسبب لا تفهمه أن تضم ساقيها، بينما يفتح الذكر ساقيه على أوسعهما. وعموما، المرأة تسمع عن جسدها ولا تحسه. تسمع عما يجب أن يكون عليه، وعما يحسن ولا يحسن له. تسمع كل ما يمشي على رجلين فيما عدا جسدها نفسه. تعتاد القيود حتى تصبح جزءا منها، وتبدأ في تطويع حياتها على مقاس جسدها المقيد، بدلا من أن يحملها جسدها إلى حيث تريد الذهاب. المرأة تعيش حياة معكوسة.
إن ما يسمى "مشكلة المرأة" لن تحل قبل أن تحل مشكلة "الجسد". فقبل أن يُنظر لجسد المرأة والرجل على أنهما ندين متكافئين ستبقى الحقوق مستقطعة قانونا وعرفا في بلادنا، وعرفا في بلاد عرفت تقدما فكريا أكبر. وما لم توضع الوظيفة الجنسية في حجمها الطبيعي من أنشطة الجسد المتنوعة، ويكف الحمل والإنجاب عن أن يكون عائقا وعقوبة، ليس من سبيل إلى الحديث عن مساواة واحترام للكيان المادي الذي "يحمل" الرجال بينما "تتحمله" النساء.