وثيقة:الرجل والمرأة والتوازي
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | يوكه سميت |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | الجمهورية.نت |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://www.aljumhuriya.net/ar/content/الرجل-والمرأة-والتوازي
|
تاريخ الاسترجاع | |
نسخة أرشيفية | http://archive.is/gVaRG
|
ترجمة | رحاب شاكر |
لغة الأصل | الهولندية |
العنوان الأصلي | De man, de vrouw en de symmetrie |
تاريخ نشر الأصل |
قد توجد وثائق أخرى مصدرها الجمهورية.نت
مقدمة المترجمة
يوكه سميت (1933-1981) كاتبة نسوية هولندية. شكّلت كتابتها الطلقة الأولى التي أعلنت بدء الموجة النسوية الثانية في ستينات وسبعينات القرن العشرين. أنشأت يوكه سميت جمعية أسمتها (مجتمع الرجل والمرأة) عمِلت من خلالها على تغيير القوانين الظالمة للمرأة. استمرّت بالدفاع عن قضية المرأة بالكتابة والسياسة حتى وفاتها المبكرة. سبق للجمهورية أن نشرت لها مقالتَيّ نزق المرأة و أين النساء العبقريات؟، وننشر لها الآن «الرجل والمرأة والتوازي» التي صدرت عام 1969 ضمن كتاب: المرأة (والرجل) في مجتمع متغيّر، وقد تمّت ترجمتها عن اللغة الهولندية.
المقالة
بعد صدور كتاب جديد في إنكلترا عن المرأة المتزوجة العاملة خارج المنزل، عبّرت إحدى الناقدات عن ارتياحها وانتعاشها لغياب النِسوية المتعصّبة فيه. يبدو أن لكلمة «النِسوية»، وبالأخص حين يتبعها نعت «المتعصبة»، وقع غير محبّذ في أذن هذه الناقدة. هذا أمر مستغرب عندما نعلم، وعلى الجميع أن يعلم، بأن النِسوية لم تكن يوماً سوى العمل على تحقيق بعض الديموقراطية في المجتمع.
وبما أنها لم تشرح نفورها، فالأرجح أن يكون كلامها مجرد ردّ فعل على الصورة النمطية التي وصلتنا عبر التاريخ عن المرأة النِسوية: عانس غير جذابة وناقمة. دعونا نبحث من أين جاءت هذه السُمعة. تصرّفُ بعض النساء كان ناقماً بالفعل، إذ كنَّ مستعدات لتحميل الرجل مسؤولية تخلّفِ المرأة. من ناحية هذا قصر نظر من طرفهنّ، فالبنية الاجتماعية لا تهبط من السماء، بل هي نتيجة نشاط الناس أو سلبيتهم. لكننا يجب ألا ننسى أن ردود فعل الرجال تلعب دوراً في تعزيز هذا الموقف غير المدروس، فغالبيتهم يسخرون أو يعطّلون المسير أو لا يتدخلون أو يعبّرون عن قلقهم حول مصير الإنسانية في حال تغرّبت المرأة عن بيتها الدافئ.
فضلاً عن أن النِسويات يعانين من المشاكل التي تواجهها كل الجماعات الناشئة في بيئةٍ معينة. لا يملكن أمثلة يعتمدن عليها، ومع ذلك فهنّ مطالبات بإثبات قدراتهنّ وتحطيم جدار الشكّ من حولهنّ. باختصار الأمر يتطلب كفاحاً من أجل كسب محيطٍ جديد. والمحصّلة كانت عدم ثقة بالنفس، أدّت بدورها إلى سلوك غير منسجم، وإلى عدوانية وتعففٍ شديد وتعصّب ومبالغة بالأخلاقيات.
وثالثاً، اصطدمنا بالهندام غير الجذّاب الذي شرعت ترتديه بعض النِسويات في المجتمع. من ناحية كان هذا خطأ استراتيجياً أوهَمَ بصحةِ فكرة أن النِسوية تؤثر على الأنوثة سلباً، ومن ناحية أخرى كان تكتيكاً لا غنى عنه. إذ أن الطرف الآخر لا يفتأ بترديد حجّة أن منافسة النساء في سوق العمل غير عادلة، لأنهن يستخدمن أساليب ملتوية للوصول إلى غايتهن. أيُّ رجل سيصمد أمام خصر المرأة النحيل أو صدرها الممتلئ! المرأة التي تلبس لباساً جدياً، تعبر بذلك عن نواياها الشريفة. فضلاً عن كون هذا اللباس رمزاً لرغبتها أن يُنظر إليها كإنسانة وليس كامرأة فقط.
وفوق هذا كانت النِسويات غير متزوجات. ليس جميعهنَّ طبعاً، إلا أنهنَّ في مخيلة الناس وحيدات. وإن كنا بحاجة لدليل على أنهنّ معيوبات، فهذا هو الدليل: ما مِن رجل يرغب بهن. بالفعل، هذا الكلام صحيح إلى حدٍ ما، إذ أن بعض الرجال لا يتجرؤون على التقرّب من امرأة «حرّة» ويشعرون بأمان أكبر عندما يبحثون عن المرأة التقليدية. (من قالَ إن النساء محافظات والرجال تقدميّون؟ من منكم تساءل إلى أي درجة يظلُّ الإنسان تقدمياً في حال كان الأمر يتعلق بوضعه الخاص؟). فضلاً عن كون المرأة في الماضي، أكثر منها حالياً، حبيسة معضلة البيت أو العمل، فتفقد عملها حالما تتزوج. ولكن كم عقبة تجاوزت تلك المرأة من أجل الحصول على تلك الوظيفة، إلى درجة صار التخلّي عن هذا العمل ضرباً من الخيانة لرسالتها المجتمعية، بنظرها وبنظر مناصريها على حد سواء.
تصرّفُ المرأة النِسوية نابعٌ إذن عن ضرورة وحتمية تاريخية، بيد أن معاصريها قصيري النظر لا يأخذون هذا بعين الاعتبار. لذا كان لا بدّ أن تظهر حركة مضادّة بعد نيل المرأة ما هو جوهري، أي حق التصويت والاعتراف بامتلاكها لحقوق متساوية. من السهل تفسير ظهور طالبات يتبرأن من أسلافهنَّ النسويات في عشرينات القرن العشرين، ويرغبن أن يكن عاديّات وأنثويات.
مضى خمسون عاماً على حق التصويت والقضايا المتعلقة به. من المتوقع إذن أن تنظر الأجيال الجديدة إلى النِسوية بموضوعية تكرّم تلك الحقبة التاريخية البعيدة، وأن يفقد التصوّر المنتشر عن النِسويات حِدّته كما حصل مع الفوضويين مثلاً. ولكنّ الأمور لم تجرِ كذلك، إذ لم يحافظ هذا التصوّر على حيويته فحسب، بل تحوّل إلى صورة نمطية. حتى صارت مدعاةً للسخرية تلك المرأة التي تفوح من أفكارها رائحة النِسوية ولا يتطابق تصرّفها أو مظهرها مع تلك الصورة. وإذا أُجرِيَ مرة حوارٌ مع امرأة بارزة، لا بدّ أن يسجِّل الصحفي أنها جذابة وأنيقة وتكنّ احتراماً جمّاً للرجال.
كيف يمكننا تعليل هذه الظاهرة؟ وكيف لنا أن نفهم الإهمال الذي يطال النِسوية في الكتب التعليمية؟ وما هو سبب الخجل الذي يهبط على رأس الناس – النساء يُصبن بالذعر ويلجأ الرجال إلى الفكاهة – عندما يتطرق أحدهم إلى وضع المرأة؟ السبب برأيي هو أن النِسوية لم تفقد شوكتها بعد. الحركات التاريخية الأخرى التي تنتمي إلى الفترة نفسها باتت محترمة (الاشتراكية) أو مِن صَمَديات المتاحف (الفوضوية)، أما النِسوية فلا تمّ القبول بها ولا هي اندثرت، بل ما زالت قطعة من التاريخ لم يتم هضمها بعد وتجثم كالحجر على قلوب الناس. النِسوية كانت وما زالت وستبقى على المدى المنظور تهديداً للوضع الراهن.
لا يُنظر إلى النِسوية على أنها تطلّعٌ إلى تحقيق مبادئ المساواة في الواقع، أو كمحاولة لمحوِ الفرق بين ما تسمّيه أندرياس بورنير بالـ «بشر» و«بشر الدرجة الأولى»[1]. تشبه ردود الفعل على الأفكار النِسوية في لا عقلانيتها تلك الردود على الأفكار التي تصبو إلى إدماج اليهود والسود، هذا ما عدا أنها تحتوي على شحنةٍ جنسيةٍ أكبر. النِسويات يطمحن إلى زعزعة نظام الأشياء «الطبيعي» والذي يبدو أكثر طبيعية من قوانين المِلكية في القرن التاسع عشر. وخلف الصورة النمطية الرسمية تكمن صورة نمطية أخرى: النِسويات كائنات يحاولن سلب الرجال رجولتهم والنساء أنوثتهنّ.
هذا هو سبب عدم التجاوب مع النِسويات. إذ أنهن لا يتحملن الصعوبات التي يواجهها أصحاب الآراء غير الشعبية فحسب، فيضطررن إلى الأجوبة البارعة وكشف المنطق الأعوج والمهارة في المناظرات، بل أكثر من ذلك: صحة النسويات والنسويين النفسية مشكوك بها دائماً. تصرّف المرأة النِسوية نابع عن حسد القضيب، بينما المجازفة في حالة الرجل النِسوي أعظم: كيف يقف في طرف مَن يخصيه؟
وبسبب هذه الصورة النمطية وجدت النِسويات أنفسهن في خانة الدفاع، فأهملن طويلاً نقد وضع المرأة والرجل في المجتمع. واكتفين بالبناء على مبدأ حق التصويت المعترَف به والطَرْقِ على سندان تساوي الحقوق في كل أرجاء المجتمع. إلى أن خطرت الفكرة العبقرية على بالهنّ والتجأن إلى العِلم، أي إلى وسيلة تُمكّنهنّ من وسم عملهن بـصفة «الموضوعية». وهكذا بات التحليل الاجتماعي استراتيجية في يد النِسوية وغيرها، واشتهر شعار «دعونا نركز على الحقائق». ماذا نكتشف إن راقبنا أمور الأسرة الغربية لفترة ما من الزمن؟ سوف نكتشف بأننا مازلنا نحمل إرث القرن التاسع عشر على أكتافنا. قبل الثورة الصناعية كانت مهام الرجل والمرأة مزدوجة، وكانا يتقاسمان العمل في شركتهما (الزراعية) ويعتنيان بالأطفال سوية، كأن يعلّم الأب صنعته للأبناء. وفي القرن التاسع عشر تمّ خرق هذا النموذج، فابتعد الرجل عن المنزل للعمل وبقيت نساء الطبقة الوسطى في المنزل. أما في الطبقات السفلى، فقد كانت المرأة تعمل داخل المنزل وخارجه معاً، مما أدى إلى إرهاقها. لذلك (وبسبب الوجاهة التي تمارسها الطبقات الأعلى)، صار وضع الطبقة الوسطى هو المثالي وصار مكان المرأة هو البيت.
كما أن ثمّة مَن يقول بأن الوضع تغيّر في تلك الأثناء: عمرُ المرأة صار أطول بخمس وعشرين عاماً من عمرها منذ قرن، وقد تراجع عدد أطفالها. من الأجدر بالمرأة إذن أن تعاود استلام زمام مهامها الاجتماعية. هذه ليست مطالب ثورية على الإطلاق، ومَن يدعو إلى ذلك يتمسّك بنموذجٍ ثابت منذ قرون. وأفضل مثال على هكذا تحليل هو الكتاب الذي صدر عام 1956، دور المرأة المزدوج، للمؤلفتين فيولا كلاين وألفا ميردال[2]. منذ صدور كتابهما وتلك الأفكار تتردد بكثرة في الجرائد والمجلات. وستبقى هذه الرؤية تلاحقنا، ما دام موضوع عمل المرأة المتزوجة يتبع موضة العصر.
لمقاربة كلاين وميردال ميزات معينة، فقد اختارتا مشكلة جوهرية ووضعتاها في إطارٍ مُطَمْئن. إذ أن «العودة إلى الماضي» أشبه من الناحية النفسية بـ «العودة إلى الطبيعة». وإذا كانت جدّاتنا «يعملن»، لا بد أن الأمر بدهي إذن. وهكذا نجحت الكاتبتان بإثارة قضية عمل المرأة من جديد في زمنٍ تساوت الحقوق فيه. لا بأس إذن من الاحتفاء بعمل كلاين وميردال وأمثالهما، ولكن شريطة أن يُفتح المجال للملاحظات الجانبية والقول بأن الأمر هنا لا يتعلق فقط بالتطورات الديموغرافية، وبأن «عمل المرأة المتزوجة» هو الشمّاعة التي يعلّق عليها حالياً كلّ الاستياء المتراكم، بينما تكمن إشكالية أخرى خلف تعقيدات هذه الإشكالية: العلاقة بين المرأة والرجل في مجتمعنا.
يفرض مجتمعنا أدواراً مختلفة على الرجل والمرأة. وقد يصعب على صغار السن أن يدركوا ذلك، فالمدارس الإعدادية تحاول المحافظة على أسطورة المساواة، فتطبّق القوانين نفسها على الصبيان والبنات، أي أن ينجح الجميع في الامتحانات النهائية بعلامات معقولة. ولا تظهر الفروق إلا في المرحلة التي تليها، والتي يكون هدفها التحضير للزواج والعثور على مدخلٍ إلى المجتمع. عندها يتلقى الصبيان تعليمات واضحة: عليهم أن يبذلوا قصارى جهدهم للحصول على مكانة محترمة في المجتمع. أما البنات فيجابهن مستقبلاً ذا معالم غامضة. فمن ناحية تنهال عليهن مثاليات التعليم المهني (الجيّد)، ومن ناحية أخرى تبقى أهمية هذا التعليم غائمة بنظر الفتاة ومحيطها معاً: ماذا ستفعل بالشهادة عندما يأتي الطفل الأول؟
والفتاة التي تتجاوز هذه العقبة سرعان ما تواجه عقبة جديدة، إذ أنها تلاحظ عدم قدرتها على تكريس نفسها للدراسة أو المهنة بهدوء. كي تكون ناجحة عليها أن تأتي برجلٍ بطريقة ما، مما يضطرها إلى توزيع اهتمامها على أمرين في الوقت نفسه. أما الصبيان فهم غير مجبرين على تقسيم اهتمامهم، الوظيفة أولاً والبنت ستأتي – اجتماعياً – في موعدها.
ويأتي بعد ذلك الاكتشاف الثالث، وتستوعب البنات بأن النجاح في الدراسة أو العمل قلّما ينفع في سوق الزواج، لا بل يترتب عليه تزكية سلبية يجب تعويضها بشيء آخر. وهكذا يكسب الصبي صاحب «المستقبل الباهر» نصف الرِهان مع أهل الخطيبة، أما البنت فيجب أن تكون جميلة ولطيفة أولاً وآخراً، وإذا لزِم الأمر لا بأس أن تكون متألقة أيضاً.
يبدو أن ثقافتنا تشجّع الصبيان على استثمار إمكانياتهم على أكمل وجه، وتكبح البنات وتسحبهنّ مباشرة أو بشكل غير مباشر نحو الوسطية. ويمكن توضيح ذلك من خلال المِهَن البرّاقة المرتبطة عادة بـ «الحياة الجيدة» والتي تحمل معانٍ إيروتيكية. من أجل شرح ما أعنيه، سأحاول رسم الصورة المتخيّلة عند الناس عن مهنتين برّاقتين: الجرّاح والسكرتيرة.
يظهر الجرّاح دائماً بلباس أنيق ورياضي، وهذا ليس من باب الصدفة، فسيّارته رياضية أيضاً ولديه يخت أو على الأقل قارب شراعي. يسافر إلى السواحل المثيرة والبعيدة، وهو محاط بالأصدقاء المميزين الذين يستقبلهم في بيته الصيفي. وطبعاً لن يعدم النساء، حتى ولو كان متزوجاً.
السكرتيرة أنيقة أيضاً ومظهرها جذّاب. لا تملك سيّارة رياضية، لكنها تسوق سيّارة صغيرة ظريفة. هي أيضاً تسافر إلى السواحل الجنوبية في رحلة طيران منظّمة، كما أنها تبحر في قوارب الآخرين. أما أصدقاؤها المميزون فتستقبلهم في غرفتها المؤنِسة. هي أيضاً لا ينقصها الاهتمام من قِبل الجنس الآخر.
الجرّاح رئيس فريق عملٍ يصطف من حوله كالجنود. أوامره منفّذة على الساكت، فمن غير المعقول ازعاج الرجل الكبير أثناء تركيزه. وتتسارع قلوب الممرِّضات والمريضات عندما يوجِّه كلامه إليهن، الجميع يحمله على كفوف الراحة.
والجميع يهتم بالسكرتيرة أيضاً، فهي العماد الذي يستند إليه رئيس عملها، لا بل المكتب كلّه. هي صلة الوصل التي لا غِنى عنها، والعالمة بكل شيء، والقادرة على مسح المشاعر ببسمة لطيفة أو ملاحظة لعوبة. تقوم بعملها على أكملِ وجه، ولكنها في الوقت نفسه تخلق جواً إيروتيكياً خفيفاً يضفي بعض الإثارة على مكان العمل الرمادي.
ثمة شيء يميّز الجرّاح والسكرتيرة عن باقي المهن، وهو أنهما ينجحان إلى حدٍ بعيد بدمج العمل بالرجولة والعمل بالأنوثة. الجرّاح هو الرجل بامتياز، والسكرتيرة هي المرأة من دون منازع. ثمّة عوامل مشتركة إذن بين الجرّاح والسكرتيرة، غير أن هناك اختلافاً أيضاً. الجراح ينتمي بدخله، وبالوجاهة التي توفرها مهنته، إلى الطبقات العليا من المجتمع. أما السكرتيرة فراتبها معقول ولكنه يتركها تتراوح على الدرجات السفلى، كما تعتمد وجاهتها على الحياة التي يعتقد الناس بأنها تعيشها في أوقات الفراغ.
مهنة الجرّاح قياديّة، ومهنة السكرتيرة خدماتيّة. فضلاً عن أن الجرّاح يعتلي القمّة، ولا تملك السكرتيرة فرص الترقي على سلّم العمل. وثمة فرق آخر: يمكن أن يكون الجرّاح شاباً أو عجوزاً، متزوجاً أو أعزباً، كلُّ هذا لا يؤثر على صورته المثالية ويظلُّ رمز «الحياة الجيدة». ولكن من أجل ذلك يتعين على السكرتيرة أن تكون صبيّة صغيرة وعازبة، إذ أن سحرها يزول حالما تتزوج أو تتجاوز الثلاثين.
السكرتيرة سفيرة الأنوثة إذن، وهذا ما يجعل مهنتها تجذب البنات. ليس الميل أو الموهبة هما ما يدفع البنات نحو هذه الوظيفة، وإنما كونها مهنة ظريفة للبنت: أنوثتها فوق أي شكوك! ولكن لكلِّ شيء ثمنه، فالبنت ستدخل مجالاً لا يوفر لها فرص التطور، ويستثمر جزءاً صغيراً فقط من قدراتها.
فرص التطور موجودة في الوظائف التي تحتاج إلى مؤهلات أعلى، بيد أن المرأة تواجه هناك بعض الصراعات. إما أن تكون أنوثتها غير مقنِعة، أو مهارتها مشكوك فيها. وكما قالت فان سومرن، رئيسة الحزب الليبرالي: «في ميدان السياسية، المرأة هي إمّا كيناو (شخصية تاريخية ترمز للوحشية) أو امرأة مغرية». وحسب قول أحد الصحفيين المتنفذين: «المرأة في الصحافة هي بنت لطيفة أو صحفيّة جيّدة». ليس مستبعداً أن تصل فتاة جذابة إلى منصب مسؤول، ولكن ستعوزها نقطة الانطلاق الطبيعية: إذا كانت أنثوية إلى هذه الدرجة، كيف ستكون على مستوى المهام المناطة بها؟ أما عندما تكبر النساء، سيختفي هذا التناقض ويسهل عليهن إقناع الناس بمهاراتهن. ولكن لكلِّ شيء ثمنه كما قلنا: عندما لا تشكل أنوثتها عائقاً، فهذا لأن تلك الأنوثة فقدت شحنتها الإيروتيكية. الرجل يصل سن الخامسة والخمسين ويحتفظ بجاذبيته، أما السيّدة التي وصلت ذلك السن فهي قد تكون جميلة، ولكن ليس أكثر من ذلك. يتمُّ تقييمها بالموضوعية ذاتها التي نشعر بها تجاه لوحة.
وهنا نكون قد وصلنا برأيي إلى مسألة صراعٍ ثقافي من الدرجة الأولى، أعني تراجع الشحنة الإيروتيكية عند النساء بسرعة أكبر من الرجال (بنظر الآخرين على الأقل). فرصُ زواج المرأة التي تجاوزت الأربعين أقلّ بكثير من الرجل من العمر نفسه. ثمّة أسباب ديموغرافية (عدد النساء أكبر من الرجال) وأخرى اقتصادية تلعب دوراً في هذا الصراع: الرجل في هذا العمر لديه ما يقدّمه – وظيفة ثابتة أو منصب جيّد – ، بيد أن هذه العوامل لا تفي لفهم هذه الظاهرة. من أجل البحث عن الأمثلة يكفينا أن نفتح الجرائد على صفحة إعلانات الزواج لنجد الرجل يبحث عن امرأة تصغره بعشرة أو خمس عشرة سنة أو مِن الجيل نفسه في أسوأ الحالات. أما عندما تعلن المرأة عن رغبتها، فهي تعبّر عن استعدادها للارتباط برجل يكبرها سنّاً وعملياً لا تطلب شخصاً يصغرها على الإطلاق. هذا أمر ينافي العقل من الناحية الديموغرافية، إذ أن عمرَ النساء أطول من الرجال، ممّا يعني أن الكثيرات سيعشن طويلاً كأرامل.
يبدو أن النساء يكبرن أسرع من الرجال من الناحية الفيزيولوجية. ولكن هل هذا معطى بيولوجي أم تلقين ثقافي؟ هل جاذبية المرأة الإيروتيكية أقصر عمراً أم أننا تعلّمنا أن ننظر بهذه الطريقة؟ هل نحن أمام مثال جديد لازدواجية المعايير؟ يمكن للجرّاح أن يتجاوز الخامسة والخمسين ويبقى رمزاً لـ «الحياة الجيّدة»، ولن تزيده تعابير وجهه المتعبة ونظرته العارفة، أي علامات التجربة، إلا جاذبية. غير أن هذا لا ينسحب على المرأة، فجاذبيتها الإيروتيكية مرتبطة بسمات اليفاعة. لذا من المفهوم أن تنشغل المرأة بمظهرها كي تبدو صغيرة، وكم يتطلب الحفاظ على الخصر النحيل والبشرة الملساء طاقة عظيمة منها. قد نهزّ رؤوسنا استنكاراً، ونعتبر عبادة الشباب دليلاً على سخافة المرأة، بيد أن هناك أسباباً وجيهة لازدهار صناعة المكياج.
النضوج والرجولة يشكلان ثنائياً مقنعاً قد يدعو إلى التقدير أحياناً، غير أن النضوج يتنافى مع «الأنوثة». فضلاً عن أن المهارة تضخِّمُ تأثير الرجولة، بينما تميل المهارة و«الأنوثة» إلى إضعاف بعضهما بعضاً. بمعنى آخر: بعد مائة عام من بدء النساء بالتحرّر، ليس ثمّة توازٍ بين وضع الرجل والمرأة.
ماهي نتائج هذا التحرّر إذن؟ إلى أي حدٍ كان وضع النساء منذ مائة عام مختلفاً عمّا هو عليه الآن؟ قبل الإجابة عن هذا التساؤل، أرى من المفيد أن أفصل بين النتائج الرسمية وبين النتائج العميقة، بين تلك التي نحتفي بها لإحياء الذكرى في مقالاتنا وتلك التي لا تمسّ خطة الحركة النِسوية بصلة. سأترك الفئة الأولى وأعتبرها معروفة بشكل كافٍ، وأخوض في تفاصيل الثانية. وأهمّ نتائج هذه الفئة تتعلّق بوضع البنت، وتغيّر العلاقة بين المرأة والجنس، وتغيّر وضع الأم.
كانت البنت منذ مائة عام كائناً بلا لون، شيئاً لا يحمل هوية ومُطالبٌ بأن يحتفظ بجهله لواقع الحياة. البراءة فضيلتها الكبرى. عندما تدخل الغرفة، تصمتُ الأحاديث. ومن أجل حمايتها يتمّ إبعاد القراءات المتنوعة عنها، والحدّ من حرية حركتها. وتقتصر واجباتها غالباً على تقديم المساعدة الخفيفة في أعمال المنزل. «لا يوجد شيء أفظع من أن تكون المرأة عذراء!»، هكذا كتبت بيلا فان زاولن في إحدى رسائلها. إنها صرخة نابعة من قلب فتاة عاشت منذ مائة عام، غير أن أحد الفروق بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر هو إمكانية التفكير بصوت عالٍ حول أمور حُرِّمت على الوعي في وقت لاحق.
لزواج البنت مِيزاته إذن، فهو يسمح لها إدارة أمور المنزل بنفسها، ولكن الأهم هو أنها صارت جزءاً من عالم البالغين بعد طول انتظار، وصاحبة تجربة بعد ليلة الزفاف، وباتت مواضيع أحاديثها وقراءاتها وحتى ملابسها أكثر تنوعاً. فمن ناحية الزيّ مثلاً، كانت البنت الصغيرة مجرد اشتقاقٍ لشيء ما ويتعين على ثوبها أن يُبرِز عفافها. أما الموضة فكانت تحت سيطرة المرأة المتزوجة التي تستعرض وجاهة زوجها من خلال مظهرها.
فتاة اليوم لا تتلهّف إلى الزواج للأسباب نفسها. فموضة العصر صارت تحت أمرها، وبات يحق لها أن تروح وتجيء وتتكلم كما يحلو لها. وإن أرادت الاستقلالية، كلّ ما عليها فعله أن تستأجر غرفة. وأخيراً: لم تعد مضطرة إلى المثول أمام مذبح الكنيسة قبل التحرّر من عذريتها. وهنا نكون قد وصلنا إلى الفرق الثاني: تغيّر العلاقة بين المرأة والجنس. من زمان كانت النساء تنقسم إلى نوعين تقريباً: العفيفات والساقطات. يتوقع الناس بأن للساقطات علاقات جنسية، أما العفيفات فلا. ومآل العفيفات هو الزواج، أما الساقطات فقد أهدرن ذلك الحق من حيث المبدأ وصارت فُرصهنَّ ضعيفة: عندما تلطّخ المرأة شرفها سيلاحقها العار مدى الحياة. عملياً لم يكن التخلّي عن العفة أمراً يجذب الكثيرات، لأن المجتمع سيفرض عقوبته الأليمة.
وعندما شرعت النِسويات بفتح أفواههن، فَهِم المحيط جيداً بأنه هجوم على قلاع الشرف. لذا واجهنَ لائمة أن عملهن سيؤدي إلى التفسّخ الأخلاقي، غير أن هذا ما لا تريده معظم النِسويات على الإطلاق. وبالشجاعة التي تولَدُ عن اليأس رحن يدافعن عن أنفسهن ويؤكدن على «القيم الأخلاقية» في كتاباتهن. كان يتوجب عليهن إثبات بأن الإنسانية لن تتراجع في حال حصلت المرأة على معرفة وحرية حركة أوسع. وجرّاء تكيّفهن اللاواعي مع ظروف عصرهن لم تتمكن غالبيتهن من النظر إلى الحرية الجنسية إلا على أنها علامة تدهور. وكما قلت: المبشّرون بالمصائب كانوا على حق، إذ أن التفسّخ الأخلاقي حصل فعلاً. ولكننا لا نفسّر الأمور بالطريقة نفسها، فمعاييرنا مختلفة ونُقيّمها على أنها فتوحات. حالياً صار من المتوقع أن يكون للمرأة العفيفة حياتها الجنسية أيضاً، وأن تعبّر بطريقة غير مباشرة عن رغبتها. ويمكننا أن نقول بأن الجنس حق من حقوق المرأة، ونضرب على صدورنا فخورات بأننا نعيش في بلد يتيح هذا الأمر.
الجنس حق، هذه هي الإيديولوجيا الرسمية لعصرنا. ولكن هل تتماشى هذه الإيديولوجيا مع القيم التي تُمارَس عمليّاً؟ إذا تمعنّا جيداً سنجد أن هناك بعض القيود: المرأة المتزوجة، وخاصّة عندما يكون عندها أطفال، مطالبة بأن تجد إشباعها ضمن الزواج. وبالرغم من لغة المتنورين البنّاءة، إلا أن قوانين العفّة السارية منذ مائة عام ما زالت تنسحب على المرأة الأكبر سناً: في حال مارست الجنس، عليها إخفاء ذلك عن العالم الخارجي. ويعتبر عري المرأة الكبيرة من التابوهات، وإن حصل مرّة وظهرت عارية في فيلم، لا شك أن ذلك سيثير موجة غثيان في الصالة.
لا ينسحب حق الجنس على الجميع من دون حدود إذن، ويبدو أن البنت هي الوحيدة التي استفادت بشكل واضح من « الثورة الجنسية». ولم يضع أحد العراقيل في طريقها سوى ساقة[3] المجتمع. ولكن إذا تمعنّا جيداً، سنرى أن وضع البنت ملتبس أيضاً، وبأنها مطالبة بأشياء متناقضة. هي ليست وريثة «الساقطة» فقط، بل «العفيفة» أيضاً. هي ليست سليلة المحظية فحسب، بل الحبيبة الراقية أيضاً. يتعين عليها أن تكون في الوقت نفسه كالساحرة جنسياً وكالأخت روحياً. وينبغي أن تتحقق فيها أمثولة «البنت الجيدة السيئة»، كما يطلقون عليها في الولايات المتحدة. ولكن كيف ستجمع بين هذه الأدوار المتضادة بطريقة متناغمة؟[4]
أثناء تحليلها للإعلام النسائي الفرنسي بين عام 1785 و1848 لاحظت إيفيلين سوليروت[5] بأن ثمّة فرقاً كبيراً بين محتوى الصحف في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر. في القرن الثامن عشر لا أحد يأتي على ذكر الأم عمليّاً، وفي القرن التاسع عشر تصبح محطّ اهتمام وتكتسب شخصيتها أهمية بعد أن كانت بدهية. الصحف مليئة بالتحذيرات والنصائح الموجّهة إليها: ينبغي أن تكوني أماً حنوناً ومتفانية، أول شخص يستيقظ وآخر مَن ينام، وصبورة في خدمتكِ للآخرين. ورقم واحد من بين هؤلاء الآخرين هو الأب طبعاً: ربُّ الأسرة، رئيس المؤسسة الزوجية، الشخص الذي يكلّف زوجته ببعض المهام الصغيرة، وينكبُّ بنفسه على القضايا الكبيرة، هو مدير كلّ الأمور، حتى فيما يخصّ تربية الأطفال.
الأب هو السلطة، والأم هي العاجزة، الحنونة، الوردة المريمية، القوة الناعمة، والتي سيتغنّى الشاعرُ باسمها امتناناً (هناك الكثير من الشعر الذي كُتِبَ عن الأمّ في القرن التاسع عشر). وكلما تغلغلت أمثولة الأم المتفانية، ارتفعت أصوات المطالبين بتجهيزها لهذه المهمة. أول المبادرات من أجل تعليم المرأة، جاءت من طرف مناصري الأسرة. وشيئاً فشيئاً بات الناس يعتبرون المرأة صالحة للمهام التربوية وليس كأمٍ فقط، فاستُبدِل المعلّم الخصوصي المعروف في القرن الثامن عشر بمربيّة القرن التاسع عشر.
في البداية لم ينتج شيء عن توسيع مهام الأم. بقيت السلطة في يدِ الأب، ولكن نشأت حالة من عدم الوضوح. طفولة بروست تشكِّل مثالاً نموذجياً على هذ الوضع. كانت قِيَم الأم هي المسيطرة على طفولته، ولكن عندما يقوم أبوه بخطأ تربوي فاحش، تتركه زوجته يفعل ما يشاء. إذ حتى ولو أصابت في تقييمها للناس، إلا أنها، نفسياً، لا تعطي نفسها الحق أن تقيّم مزايا زوجها. «نظرت إليه، ولكن ليس بحدة كي لا تكشف لغز تفوقه»، هكذا وصفها الابن لاحقاً.
في تلك العائلة كانت الأمُ الشخصيةَ المفتاحية، بينما بقيت الإدارة بيد الأب رسمياً. وقد أدّى هذا الوضع الانتقالي تدريجاً إلى علاقات جديدة (طبعاً ليس بالسرعة نفسها في كلّ مكان). مع مرور الوقت أضحت الأم هي المربيّة بامتياز، والشخص الذي لا تفعل وتفكر فقط، بل تقود أيضاً. «الأم تعرف مصلحتك»، هكذا كان الأطفال يغنون قبل الحرب. ومع مرور الزمن صارت هي المركز الذي يدبّر شؤون البيت الداخلية. وصار «كلمة الماما قانون» عنواناً لبرنامج إذاعي معروف، ولكن من منّا لا يلتقط اللعب بالألفاظ والإشارة إلى الملك!
خلال مائة عام تغيّر وضع المرأة بشكل جذري، واستبدلت مكانتها المتدنية بالدور الرئيسي. واللافت أنه في الفترة نفسها حصل تحوّلٌ من نوعٍ آخر في الأدب، إذ تنحّى الأب القاسي المُعترَض عليه في القرن التاسع عشر شيئاً فشيئاً لصالح شخصية «الأم الخانقة» التي اشتهرت في الولايات المتحدة بشكل خاص.
قلتُ في بداية هذا المقال بأن تحرّر المرأة هو ديموقراطية. ماهي نتائج عملية الدمقرطة في المائة عام التي خلت؟ باختصار: المرأة أشرعت الباب إلى المجتمع، ولم يعد الجنس مستحيلاً، وترسّخت مكانة الأم في الأسرة. ولكن الغريب هو أن «المرأة» لم تصبح كائناً متكاملاً بعد. الرجال قادرون من حيث المبدأ على دمج الأبوة والعمل الممتع والجاذبية الإيروتيكية، أما بالنسبة للمرأة فهناك فصل: الأنوثة الإيروتيكية هي من نصيب الفتيات الصغيرات، والأمومة هي للمرأة المتزوجة، والمناصب المهمة هي امتياز النساء الأكبر سناً وغير المتزوجات. مع أن وسائل الاندماج باتت متاحة، والموضة والجمال في متناول يد جماعات كبيرة في الغرب. فضلاً عن ارتفاع مستوى تعليم النساء، وعدم الحاجة لوقوفهن عاجزات خارج العملية الإنتاجية بحجّة نقص التكوين. وقد صار تحديد النسل مقبولاً من حيث المبدأ وقابلاً للتنفيذ عملياً، ولم تعد المرأة المتزوجة مرتبطة من الناحية الفيزيولوجية بالأمومة إلا جزئياً.
وعليه فإن التحرّر ربط المرأة الأم بأسرتها أكثر من أي وقت مضى. إذ حين تبيّن بأن لها إنجازاتها في مجتمعنا، صارت المعنية الأولى بالقضايا التربوية وأضحت في حدِّ ذاتها شخصاً لا غنى عنه. وبما أن الزمن لم يتوقف، ازدادت المهام التربوية تعقيداً مقارنة مع مائة عام خلت. في الماضي كان يتعين على الأم تعليم الطفل أن يصبح زائراً مخلصاً للكنيسة وعضواً نافعاً في المجتمع أو أماً حنوناً. أما اليوم فهي مطالبة بتوفير المزيد: الغذاء المتوازن، والألعاب المسؤولة، والإرشادات الجنسية، ودعم التطور اللغوي، والتحفيز على الإبداع والتوازن العاطفي والتأقلم الاجتماعي. هذه هي اللائحة حالياً، ولا شكّ بأنها ستصبح غداً أطول. ومن أجل تنفيذ هذا البرنامج الشامل لا يتوجب على الأم النشاط فحسب، بل أن تكون متاحة بشكل دائم. ومع الوقت تحوّلت هذه الجاهزية إلى ضرورة. ليس غريباً إذن أن يتسبب عمل المرأة خارج المنزل بكل هذا القلق، وأن يبدي العِلم المحايد استعداده لتدعيم هذا القلق: فعلاً، لا غنى عن الأم ضمن نظامنا التربوي! ولكن عندما تتلقى منظومتنا لكمة حقيقية، سيكتشف العِلم المحايد زوايا جديدة للرؤية، ويتخذ منحىً جديداً.
أعربت أستاذة في الطبّ النفسي عن قلقها قائلة: «الأمهات لم يعدن قادرات على الاستمتاع بأطفالهن». أرى أنها محقة بعض الشيء، لكن الذنب لا يقع على عاتق أمهات أو أطفال هذا العصر: ففي حال كانت النساء متذبذبات، فإن هذا جرّاء مضمون الأمومة الجديد في عصرنا. الأم المربيّة ليست مطالبة بأن تكون متعددة المهارات فحسب، بل هي محاطة أيضاً بلفيفٍ من السلطات المرئية وغير المرئية. يبدأ هذا مع الحمل ويستمر إلى أن يغادر الطفل منزل والدَيه. حيث يتم أخذَ مقاسات يان الصغير ووزنه وفحصه بشكل متواصل من قِبل جميع المختصّين: هل زاد وزنه مائتي غراماً، وكيف هي نظافة أسنانه، وماذا بالنسبة لعلاقته مع الأطفال الآخرين؟ وحين لا تكون الأم جالسة في غرفة انتظار الطبيب، فهي منهمكة بقراءة المقالات التربوية التي تخبرنا بأن الأطفال العسيرين يعكسون مشاكل والدَيهم. وإذا كانت مينتيا الصغيرة تمصّ إبهامها، فهذا ذنب والدتها، وكما نعلم فإن المثلية الجنسية عند الرجل تنتج كرد فعلٍ على أمٍ متسلطة. وبما أن هناك دائماً ملاحظات على سلوك الطفل، فالمعجزة هي أن تقدر الأمهات أحياناً على الاستمتاع بأطفالهن.
تجنباً لسوء الفهم، أودّ التأكيد على أني لست ضد العناية الصحيّة الوقائيّة، ولا ضد النصائح التربوية أو مراقبة معلمات الأطفال الصغار، بل على العكس. غير أني أجد الشروط المفروضة على الأمهات مثيرة للضحك، وتأثيرها المفترَض غير واقعي، والضغط المُمَارس عليها يفوق حدود المعقول. الأم مُطالبة نفسياً بأن تخدم النوع البشري. هل أبالغ؟ كيف لي أن أفهم إذن رفض بعض الحضانات تسجيل الطفل في حال كانت الأم تتمتع بصحة جيدة ودخل الأب وسطي؟ وما سبب اشتعال غضب وكيل البلدية حين تقدّمت مجموعة من الأمهات «العاملات» بطلب فتح دور للأطفال؟ التفسير بسيط: النساء اللواتي «يتركن» أطفالهن في مكان ما، يتملّصن من مهمتهن المقدّسة، ويحرمن أطفالهن من أجمل ما في الكون: اهتمام الأم.
هل يتلقى الأطفال أفضل الموجود؟ وما وضع الأم المهتمة؟ وما هو تأثير النظام التربوي عندنا؟ يوجد شخص حاول الإجابة على هذه الأسئلة: تالكوت بارسونز[6]، عالم الاجتماع الأمريكي غير الملاحق بسُمعة محطّم الأوثان. يقول بارسونز بأن الأم هي المربية الأولى عندنا وذات أهمية حيوية بالنسبة للطفل. لذا يحتاج الأطفال للتماهي معها، بيد أن الصبيان يكتشفون سريعاً بأن هذا مستحيل، فهم لا يصبحون أماً عندما يكبرون. كما يلاحظون بأن النساء يحتلون مرتبة متدنية في بعض الجوانب الجوهرية في مجتمعنا. الأمر ليس مستحيلاً فحسب، بل عاراً أن يتشبهوا بالأم. مما يجعل الصبيان يبحثون غريزياً عن نموذج آخر، عن أمثولة ذكورية. غير أنه لا يوجد رجل بالغ في المحيط القريب، فالآباء غائبون طوال اليوم ولا أحد يعرف ماذا يفعلون بالضبط. لذا يلجأ الصبيان إلى أشكالٍ بدائية للسلوك الذكوري، مثل استعراض الجرأة والغرور بقوة الجسد. ويقول بارسونز بأنها طريقة قهرية لإثبات رجولتهم، وفعل مقاومة ضد الميل للتماهي مع الأم.
وثمّة شيء آخر. الأم هي التي تعلّم الطفل كيف يتصرّف كإنسان بالغ. تدرِّبه على النظام، ومن خلال تصرفاتها تحاول أن تريه ما يتوجب فعله عندما يصبح راشداً، أي أن تكون قدوته. لا عجب إذن أن يرتبط «الخير» بـ «الأنوثة» في مخيّلة الصبيان، وبما أنهم يحاولون إقناع أنفسهم بأنهم ليسوا أنثويين، يصبح «السوء» هدفاً منشوداً، والشقاوة والسلوك غير الاجتماعي علامة الذكورة.
ويقول بارسونز بأنه في حال استمر هذا النموذج لفترة أجيال، يمسي جزءاً من البنية النفسيّة للبشر. كما تكشف ردّات فعل الأم عن التناقض، فمن ناحية لا تريد التشجيع على هذه السلوكيات، ولكنها من ناحية أخرى معجبة سراً بابنها، وبالأخصّ عندما يكون لديه مزايا أخرى محبّبة: هو على الأقل ليس ضعيفَ الإرادة. الولد العاق أفضل حالاً من المطيع، مما ينمّي الحقد عند الأخير.
وبما أن الولد يعيش كامل سنواته الأولى في كنفِ النساء – فبعد الأم ستأتي المربيات الأخريات في دور الحضانة والمدرسة – فإنه سيواجه مشاكل في الهويّة. يتمرّد على المثال الأنثوي، ولكنه يتأثر به بقوة في الوقت نفسه، فتستمر عدم ثقته بالهويّة الذكورية. والمحصّلة هي موقف مزدوج عند الصبيان تجاه النساء. وعندما يحين موعد اختيار شريك الحياة، تتصارع في دواخلهم الأحاسيس المتناقضة ويعجزون عن اتخاذ قرار عقلاني، فيركزون على الحب الرومانسي والمظهر أو على أشكال غير ناضجة من الجنسانية.
ويضيف بارسونز بأن وضع البنت يختلف، مع أنه ليس بالضرورة أفضل. طفولتها أسهل، فهي محاطة بأمٍ منشغلة بمهامٍ ذات محتوى ملموس. كما أن التماهي مع الأم ممكن، فهما من الجنس نفسه. لذا تمرّ عملية نضوج البنت بمطبّات أقلّ. ولكن عندما يحين موعد اختيار الشريك يختلّ التوازن، إذ تكتشف أنها مرهونة بكرم الرجل وأحياناً بنزواته، وأنها مضطرة على منافسة كلّ بنات جيلها.
كانت الأم مركز عالمها، فتوقعت البنت أن تحظى بالمكانة نفسها. ولكن بعد دخولها «العالم»، تكتشف بأن مرتبة المرأة متدنية، أي أنها تحتاج إلى الرجل ليمنحها الأمان في المستقبل. والأدهى هو أن القِيم التي تعلمتها من أمها (السلوك «الحسن») لا تصلح في سوق الزواج، بل قد تشكل عبئاً عليها. ومحصّلة هذه الصحوة المرّة هي الحقد: تجاه الأم، الغشاشة، ممثلة المظاهر الخداعة، وبالتالي تجاه النساء، وتجاه الرجال الذين خلقوا هذا الوضع الذي لا يُحتمل.
هذ هي لمحة سريعة عن تحليل تالكوت بارسونز. إن كان تحليله صحيحاً، فهذا يعني أن نظامنا التربوي يُنتج نساء ورجالاً مترددين تجاه الجنس الآخر وينظرون بحقد إلى بعضهما بعضاً. كما سيتوجب علينا التساؤل فيما إذا كنّا على الطريق الصحيح بتقديسنا للأم، وهل توسيع مهامها مع مرور الزمن مُحبّذٌ بالفعل؟ لأن هذا لن يزيد العلاقة بين الأم والطفل إلا حميمية.
ولكن هل تحليله صحيح؟ ثمة مؤشرات في ذلك الاتجاه تشي بأن النظرة إلى المرأة هي أنها كائن خطير للغاية. هناك كميّة عظيمة من الكتابات الموجهة إلى الرجال، والتي تشكل امتداداً للقراءات الصبيانية الجريئة (قصص الخيال العلمي والقصص البوليسية) والخالية من النساء تقريباً. أدبيات الهروب من الواقع توحي بأن لا وجود للنساء، وهي طريقة سحرية لحلّ كلّ مشاكل التماهي. فإذا كانت النساء غير موجودات، هذا يعني بأن الصبي رجل من دون أدنى شك.
غير أن هذه ليست الوسيلة الوحيدة لإبطال أمثولة الأم. يقول بارسونز بأن التوجّه العاطفي الشديد نحو الأم بالإضافة إلى تحريم جنس المحارم، يولّد كبتاً جنسياً قوياً في ثقافتنا، لأن العلاقة مع الأم هي المثال الأعلى للحب. وفي حال أراد ولدٌ «عاق» أن يتمرد، فإنه سيتوجه نحو الأمثولة المضادة، نحو السيء والجنس. فيصبح الجنس وسيلة للانتقام من النساء لما تسببنه بحق الطفل، وهكذا يرتبط الجنس بالعدوانية. وطبعاً سنواجه هذا النموذج في قراءات الرجال ذات الطابع الصبياني والجريء. فمن أجل إبطال أذى النساء، تعمل تلك القصص على تقليصهن إلى كائنات جنسية. وبما أنه لا يمكن حدوث ذلك بشكل مباشر، لا بدَّ من العثور على كائن لا يتمتع بصفات الأمومة لتسلّيمه هذه المهمة، أي: البنت.
يتمّ الثأر من الأم عبر جنسنة البنت وجعلها موضوعاً إيروتيكياً بامتياز. ليست صدفة أن نعثر على هذه النزعة في البلدان التي يكون نظام الأسرة الأمومي مسيطراً فيها، كما في إيطاليا والولايات المتحدة. فإذا خطر على بال المرأة الإيطالية أن تتنزه لوحدها في الشارع، سيتم تذكيرها كلّ دقيقة بجنسانيتها. أما الطريقة الأمريكية، فهي أكثر تعقيداً ونفاقاً: الثماني مليون مشتري لمجلة الـبلاي بوي (الإباحية) قادرون على أن يثقوا دائماً بتراتبية العارضات التي اختارتها هيئة التحرير.
الأم هي التي فرضت مشكلة التماهي على الصبي، والتي سعت إلى «إخصائه»، أي سلبته هويته الذكورية. لا عجب إذن من مقاومة كلّ محاولات دمج المرأة في المجتمع، التي تنبشُ الخوف القديم. فبعد الانتصار الشاق على هجوم «الإخصاء» الأول، قد يؤدي أي هجوم ثان إلى التهلكة. هذا ردّ فعل مفهوم، غير أنه ليس واقعياً أو عقلانياً على الإطلاق. إذ أن نتائج الدمج مختلفة تماماً: عندما تتمكن المرأة من صرف طاقتها على أشياء أخرى، سيخفّ تركيزها على الأطفال، ويُفتَحُ المجال أمام الأب، ويتمّ انتشال الصبيان من صراعٍ خانق.
لدينا إذن كتب للرجال لا توجد فيها نساء، وهذا له معنى من الناحية النفسية. أما من الناحية الاجتماعية فالمعنى مختلف برأيي، وهو أن الرجال مكتفون بصحبة بعضهم بعضاً من أجل التسلية (لا يمكن استنتاج شيء آخر في حال راقبنا المجتمع من حولنا). بيد أن الأمر يختلف بالنسبة للنساء: لا يوجد شيء اسمه رواية للبنات أو كتاب للسيدات إن لم يظهر البطل في النهاية. ونلاحظ الشيء نفسه في كلمة «مغامرات»، ففي السياق الذكوري تحيلنا الكلمة إلى رحّالة الصحراء، وإلى مهرّبين وقراصنة، أما في السياق الأنثوي فالكلمة تشير إلى مجموعة من العشّاق. فضلاً عن الصورة النمطية حول المسافرين الرجال والنساء. صبيّان مسافران، هذا يعني معاناة ورفقة درب ودخول الأدغال للتغلّب معاً على عناصر الطبيعة في قاربٍ صغير. وفتاتان مسافرتان، هذا يعني ضحكاً مكبوتاً على الشاطئ ونزهة على الضفاف إلى أن يلوح الرجال في الأفق. والرجلان المسافران يشبهان الصبيّان إلى حدٍ كبير، إذ حتى ولو لم يفعلا شيئاً سوى صيد السمك والصمت المتفق عليه، فإن البطولة تغمرهما. أما الامرأتان المسافرتان فتذكراننا بنزهة سياحية تافهة، والنظر إلى الفن دونما استيعاب، وشرب العجائز لفنجان قهوة على الشرفة.
كيف يمكننا فهم هذه الاختلافات؟ هل هي تعكس واقعنا الاجتماعي الذي يعتبر المرأة غير المرتبطة بالرجل غير مكتملة؟ أعتقد أن هناك أسباباً أعمق، ولكي أشرح قصدي سأعود إلى إحدى استنتاجات بارسونز. يقول بارسونز بأن نظامنا التربوي يؤدي إلى الحقد. الصبيان يحقدون على النساء، والبنات يحقدن على الرجال والنساء. اللافت هنا هو عدم التوازي: الصبيان لا يلومون الرجال على شيء، والبنات يلُمن النساء، مما يؤثر على علاقتهن مع بعضهن بعضاً.
تميل النساء إلى تمييز نفسها عن جماعتها. وقد أثبتت البحوث بأن الصبيان يشعرون بأنهم يشبهون الآخرين ولا يحتاجون إلى الاختلاف عنهم. على عكس البنات اللواتي يقيّمن أنفسهن على أنهن مختلفات تماماً عن الأخريات ويبدين ميلاً إلى التركيز على هذا التباين[7]. من يرغب بالتمرّد على جماعته، ينظر بعين ناقدة تجاهها. هذا الموقف الناقد للنساء تجاه بعضهن بعضاً يؤدي إلى عدم تقبّل صحبة النساء على أنها كاملة القيمة. مقاومة النساء للمنظمات النسائية هي ظاهرة مفهومة إذن. سوف نحتاج إلى قليل من الوعي وبعض النضج كي ننتصر على هذه المقاومة، وننظّم مبادراتنا النسائية، من دون أن نجلس عاجزات جرّاء إحساسنا بالنقص. يبدو أن بعض النساء قادرات أن يفعلن ذلك بصفتهن الفردية، وقد يُعتبر هذا حلاً على المستوى الضيق. ولكننا لن نتوصل إلى الحلّ الأشمل، إن لم تصبح مكانة المرأة في المجتمع أقل ازدواجية، ويُعاد النظر في أدوار الرجل والمرأة. فجرّاء إحساسهن بالنقص تميل النساء إلى الانبهار بالرجال ذوي السمات شديدة «الذكورة» كالغطرسة والإقدام، أي الرجال الذين يعاملون النساء كأشياء تافهة. فيتعلّم الرجال بأن سلوكهم صحيح، لأن تربيتهم نمّت عندهم حساسية تجاه تقييم النساء. وهكذا تبقى أمثولة الـ «هي مان» الذكورية قائمة، فلا نخرج من الحلقة المفرغة.
يبدو لي من الحِكمة أن نكسر هذه الحلقة المفرغة، لنعطي المرأة فُرصاً أفضل في المجتمع، وننظّف العلاقة بين المرأة والرجل، فنقضي على الضغينة الموجودة في ثقافتنا. هل هناك أمل أن يحصل ذلك؟ هل يمكن أن يتطور مجتمعنا بحيث تصبح الرابطة بين الأم والأسرة أضعف، وبين الأب والأسرة أقوى؟ بمعنى آخر: هل من الممكن الوصول إلى وضعٍ متوازٍ بين الرجل والمرأة؟
ثمة محاولات في ذلك الاتجاه، وها هي مشاركة المرأة في المجتمع تتحسّن. ومن المؤكد أنه يرتفع عدد الساعات الإنتاجية للمرأة وعدد المتزوجات العاملات اللواتي ينتمين إلى الفئة العمرية الأصغر. غير أن السؤال الأكبر هو هل سيتغير النظام الحالي، وهذا السؤال يتعلّق بدوره بسؤال آخر: كيف ننظر إلى العمل، كانشغال عَرَضي أم كجزءٍ بدهي في حياة الإنسان الراشد؟ يميل الهولنديون حالياً إلى إغلاق أعينهم عن هذه القضية، فالمتزوجات سعيدات بالسماح بدخولهن ميدان العمل أخيراً، إلى درجة لم يتسنّ لهن مقاربة هذه الظاهرة بشكل نقدي. ولكن من المفيد التساؤل فيما إذا كان العمل، كما هو حالياً، مجرد متنفس اجتماعي: في الماضي كانت النساء يذهبن لعيادة المريض أو ينشغلن بأنواع أخرى من العمل الاجتماعي، ولكن تحت ضغط الاتهامات بأن عملهن أقرب للهواية والوصاية، تراجَعت سمعة هذه الأشغال عند الجيل الجديد: في زماننا صار العمل المأجور أكثر وجاهة. ولكن هل يختلف محتوى المهنة عن العمل الاجتماعي في الماضي؟ أشكّ في ذلك. فقد صار التواصل مع الآخرين أحد أهمّ الدوافع نحو العمل في عصرنا الحالي، كما تراجعت الأهمية المناطة بمضمون العمل وأجرته. ومن خلال معدّل الرواتب الوسطي، يمكننا استنتاج بأن النساء يعملن ساعات محدودة أو في مهن متدنية المستوى. هذا يعني أننا نرى عمل المرأة المتزوجة كما لو أنه طريقة لسدّ أوقات الفراغ، و/أو كأمرٍ لا تنشغل به إلا بعد إتمام واجباتها – الجوهرية – الأخرى. في حال بقي الوضع كما هو، فهذا له مِيزة واحدة كبيرة، ألا وهي انعدام المنافسة داخل الأسرة. فالمهام الاجتماعية المناطة بالرجل ستبقى هي الأساسية: الرجل لديه وظيفة، بينما تقوم المرأة بعملٍ إضافي.
ولكن هناك مضار أيضاً. أولاً، ستبقى مكانة المرأة المتدنية في عملية الإنتاج كما هي، لا بل ستزداد سوءاً. حصل أن ارتفعت الرواتب بسبب ندرة اليد العاملة في القطاعات النسائية (التمريض)، بيد أن رواتب النساء ما زالت تشكل ستّة وخمسين بالمائة فقط من رواتب الرجال، بالرغم من قوانين الأجور المتساوية (أسوأ نسبة في المجموعة الاقتصادية الأوروبية على الإطلاق). وفي حال تدفقت النساء إلى سوق العمل، وخاصة هؤلاء اللواتي يعتبرن الراتب أمراً ثانوياً، فعلى الأرجح أن يسوء الوضع. والخطر الثاني هو برأيي عدم فهم ضرورة تنظيم المجتمع تِبعاً لحاجة الوالدَين العاملين خارج المنزل. طالما أن عمل المرأة المتزوجة أمر ثانوي، لن تضطر المدارس إلى التنسيق، ولن تُلحّ ضرورة فتح دورٍ لحضانة الأطفال، لأن المرأة ستدبر أمورها بطريقة أو بأخرى.
والخطر الثالث هو أن يصبح تحليل ونقد مكانة الرجل ضمن عملية الإنتاج من الأمور غير اللازمة. وهكذا يبقى الرجل – من الناحية النفسية – عبدَ الأجرة ويظلّ الأبُ الغائبَ الكبير أثناء التربية. كما أتوقع ألا يرتفع مستوى طموح البنات، بل ستتغير وِجهته فقط، وعِوضاً عن أن يضعن وظيفة لعدة سنوات نصب الأعين، يبحثن عن عمل بسيط إلى جانب مهام الأسرة. أما الاعتراض الأخير، والأهم بنظري، فهو أنه لن يتغير شيء جوهري في وضع المرأة مقارنة مع الرجل، وستبقى البنية المكمّلة كما هي: أسرة أمومية ومجتمع أبويّ.
من الحكمة أيضاً أن نحاول الوصول إلى بنية متساوية، ونصمّم رؤية مستقبلية تتساوى فيها مهام الرجال والنساء، في الأسرة والمجتمع، من حيث المبدأ. عندها فقط يمكننا تغيير شيء فعلياً. حين لا تكون جلّ أحاسيس الطفل منصبّة على الأم حصراً، ستختفي أمثولة الحب اللاجنسية وردود الفعل المرتبطة بها: المطابقة بين الجنس والفساد، والربط بين الجنس والعدوانية. وقتها لن ننظر إلى المرأة (الأم) على أنها كائن وقور لا يمارس الجنس أو نفرض على الشابة أن تكون مرغوبة بالدرجة الأولى وقبل أي شيء آخر. وحين يملك الصبيان نموذجاً طبيعياً للتماهي، ستفقد الأم رهبتها، ويتمكن الرجال من تقدير المهارات الأنثوية من دون اعتبارها هجوماً على رجولتهم، وتتمكن البنات من رفع مستوى طموحهن من دون القلق أن يفقدن أنوثتهن في نظر الأخرين. عندما نحقق هذه البنية المتساوية، سيصبح زواج المرأة حدثاً اجتماعياً كما هو بالنسبة للرجل، ويتم ردم الفجوة بين النساء المتزوجات وغير المتزوجات التي طالما تسببت بالغيرة بينهن[8].
يتوجب على الأب أن يصبح مربياً أكثر نشاطاً، وعلى المجتمع أن يتحمل جزءاً من التربية. (كان) من المفروض إذن توفير مربين محترفين وإعادة تأهيل بعض فئات المربين من أجل ذلك. ألاحظ حالياً مفارقة في غاية الغرابة: كلما كان الطفل أصغر، ضَعُفت مؤهلات المربي. فضلاً عن فرز المربين المحترفين الذين يعملون في الحضانات والمدارس الابتدائية بطريقة سلبية، وخاصة الرجال منهم. الشخص الذي لا يستطيع إتمام دراسته الإعدادية، يصبح معلماً. يجب إلغاء هذا النظام السخيف وتشجيع المربين على التخصص في عمر معين من الأطفال حسب اهتمامهم. تربية الطفل الصغير ليست أسهل من المراهق، فكلا العمرَين بحاجة إلى مربين ذوي مؤهلات عالية ويحصلون على أجور تناسب مستواهم.
إذا أردنا كسر احتكار المرأة للتربية، يتعين علينا إثارة اهتمام الرجال بالأطفال الصغار، وهذا ليس ممكناً من دون رفع الأجور في قطاع الحضانات. سيظل كسر المقاومة ضد هذا «العمل الأنثوي» صعباً، ولكنّها بداية: لم يظهر الممرّضون إلا بعد تطبيع أجور المشافي.
ليس ضرورياً أن يكون لدينا مربّون جيدون فحسب، بل يتعين علينا النظر إلى التربية بعين ناقدة، كي نتمكن من تهيئة الصبيان والبنات على التعايش بطريقة متوازية. الأمر ليس صعباً ضمن الأسرة – أو أي تسمية أخرى ستطلق على الشكل الاجتماعي الذي يضم الأطفال والراشدين في جوٍ منزلي. عندما يرى الطفل أن الأدوار بين الأم والأب قابلة للتبادل فيما بينها، نكون قد ربحنا الدعوى.
الأمر أصعب بكثير حين نخرج عن الأسرة، إذ تتحول مشكلة الصبي إلى مشكلة جميع الأطفال. جزء من صعوبات التماهي عند الصبي ناتجة عن أنه لا يرى ولا يفهم ما يقوم به والده: المجتمع غامض تماماً بالنسبة له. يختلف الأمر في المجتمعات الزراعية والحِرفية، ولكن بالرغم من اختفاء هذه المجتمعات منذ زمنٍ طويل، إلا أننا لم نجد حتى الآن حلاً لهذه المعضلة. يعتمد اختيار المهنة – وهذا ليس سوى جزء من المشكلة – على الجهل والصدفة في غالب الأحيان (كشفت دراسة فرنسية بأن «الصدفة» قادت البنات في 83 % من الحالات إلى العمل في المكاتب). ومن أجل ردم هذه الفجوة، تقدّم السويد لتلاميذها دورتين تدريبيتين في شركة، أما في إنكلترا فيتمّ حجز حصّة واحدة في الأسبوع للإرشادات المهنية. هذه الإجراءات تشير إلى أنهم باتوا يدركون المشكلة، بيد أن حلّها يتطلب الكثير من سِعة الخيال.
هذه هي إحدى القطاعات التي يتوجب تفعيل التربية فيها، بالنسبة للبنات والصبيان على حد سواء. بيد أن البنات يحتجن أيضاً إلى الحوافز، لأن مستوى طموحهن ما زال متدنياً تحت ضغط التقاليد. العاملون على دمقرطة التعليم منشغلون حالياً على تصميم برامج تحفيزية لأبناء البيئات الأقل حظاً، كي لا يشكل المنبت عائقاً وتزول كل العقبات التي تمنع أبناء العمّال من الوصول إلى الجامعة. بيد أن الإنسان لا يولد في بيئة معينة فحسب، وإنما يولد صبياً أو بنتاً أيضاً. وإذا كان هؤلاء الديموقراطيون منسجمين مع أنفسهم فعلاً، فلا بدّ أن يخططوا برامجَ تحفيزية للبنات. والسؤال هو فيما إذا كانوا سيصطدمون بالنزعة الحالية إلى تقسيم المواد المدرسية إلى باقات؟ في السويد، التي تحاول التخلص من التقاليد الجنسانية، ما زالت البنات يخترن المواد «الأنثوية». أما في روسيا فتتضمن البرامج التعليمية في المدارس الإعدادية الكثير من المواد العِلمية الإجبارية، وربما هذا هو الحافز في دخول البنات مجال التقنيات. كما أنه من الضروري إثارة الفضول نحو المجتمع بشكل عام، وأن يتمّ هذا ابتداء من سنٍ لا يكون المرء قد انشغل فيه بقضايا أخرى.
وقد قال أحد مدراء التعليم التكويني للشباب العامل بأنه حين يبدأ بالحديث عن المجتمع، يتجاوب الصبيان معه، بينما لا تبدي البنات أي استعداد للنظر في الجريدة. البنات مهتمات فقط بعلاقتهن مع الجنس الآخر وبالحياة الأسروية. ولكن إذا تمعنّا جيداً سنجد الأمر مفهوماً جداً: الصبيان نصف واقفين في المجتمع ويعرفون بأنهم باقون هناك. أما البنات فقد شرعن بالتحضير لمغادرته، وإن لم ينبههن أحد في مرحلة مبكرة بأن هذا المجتمع يعنيهن بشكل أو بآخر، سيكون الكلام معهن لاحقاً كالكلام مع الحائط.
كما يتعين علينا تحريك الأمور بأسلوب غير مباشر. إذ مازال الصبيان يُدفَعون خِفية نحو جهة الرجال، والبنات نحو جهة النساء. في المدارس التي تدرِّس العلوم التقنية والتدبير المنزلي، يواجه التربويون صعوبة في تقديم التعليم التكويني للصبيان والبنات معاً، فالكتب موجهة إما للصبيان أو للبنات. من المحزن أن تحصل أشياء من هذا القبيل، ولكن الحزن الكبير هو ألّا تستغرب إدارة المدرسة الأمرَ إلا من الناحية الاقتصادية، وألا تدرك التأثير على مكانة الجنسين عندما يتلقّى أربعون بالمائة من الشعب الهولندي تكويناً «عاماً» موجهاً للإناث حصراً أو للذكور حصراً.
والمحزن أيضاً هو أنّ لا أحد في هولندا يدرك هذا الوضع على الإطلاق. قامت البلدان الأخرى (ألمانيا وفرنسا) بتحليل محتوى كتب المدارس الابتدائية، واكتشفت بأن وظيفة المرأة الوحيدة هي الأم أو المعلمة أو الممرّضة. أما في هولندا فلا أحد يدرك أهمية القيام بهذا النوع من الدراسات. لحسن الحظ أن المربين المحترفين يكشفون مباشرة عن الأحكام المسبقة التي تمسّ اليهود، ولا شك أن الكتب المدرسية باتت نظيفة منها، ولكن لا يوجد لدينا مربي رسمي واحد يعي وجود أحكام مسبقة تمسّ النساء والرجال أيضاً.
وما ينسحب على الكتب المدرسية، ينسحب بدرجة أقوى على برامج الأطفال وكتبهم، حيث يتشاقى الصبيان ويقومون بالأعمال الشجاعة، بينما لا تخاطر البنات ويكتفين بمدّ يد المساعدة والحرص على الحسّ الإنساني. وكما أثبتت دراسة اسكندنافية[9] فإن الطفل في سن الثامنة يعرف تماماً كيف «يجب» على البنات والصبيان أن يتصرفوا.
وإن أردنا تحطيم هذا النموذج لـ «الأنوثة النمطية» و«الذكورة النمطية»، سنحتاج إلى البحوث أولاً، وإلى إيصال نتائج هذه البحوث إلى المربين الطبيعيين والمهنيين، وإيجاد الوسائل لمساعدة النساء والرجال المتحررين من أدوارهم النمطية على اختراق وسائل التواصل وقصص الأطفال. هذا يتطلّب منا تقديم الرجال في حالات «نسائية»، والنساء في حالات «رجالية». وسيكون هذه النظام جيداً، شريطة أن يتمّ ضمن سياقٍ طبيعي. فحين نمجّد بطلة العام السوفيتية، أو نكتب مقالاً عن الرحّالة الانكليزية التي عبرت الصحراء، أو نجري حواراً مع رئيسة البلدية الجديدة، فإننا نؤكد على صفتهن الاستثنائية. السياق الطبيعي هو سياق قصصي، وأسوق هنا بعض الأمثلة: هموم الرجل كممرِّض، هموم المرأة كسياسية أو عالمة أو رئيسة شركة. مخطئ من يقول إن هذا تلقين، فهو مجرد تصحيح لتلقين التقاليد.
تصرَّفتُ حتى الآن كما لو أن بإمكاننا الاختيار بين النموذج الأول – النظام القديم في شكل جديد – وبين الثاني: البنية المتساوية. ولكن هذا ليس صحيحاً تماماً، إذ لا تنفتح الخيارات أمامنا، إلا عندما نحاول دفع عجلة التطور في اتجاه معين. أمّا عندما نترك الأمور تأخذ مجراها الطبيعي، فستذهب في الاتجاه الذي اتخذته الولايات المتحدة وألمانيا: الكثير من النساء باشرن العمل، من دون أن يغير ذلك شيئاً في مكانة المرأة والرجل.
بمقدورنا تحويل «تخلّفنا» – مشاركة المرأة المتزوجة الضعيفة في عملية الإنتاج – إلى قفزة أمامية، وتحقيق مجتمع تكون المرأة متساوية فيه مع الرجل. بيد أن هذا ليس ممكناً من دون الوعي بضرورة استجماع قوانا، وخلق البنية التحتية – التربية وتنظيم المجتمع – التي تحفّز على التوازي باتساق. قد يقول المتشائمون بأننا نحتاج إلى السلطة أولاً، ولكن هذا ليس سوى نصف الحقيقة. فقد تمّ إلغاء العبودية، من دون أن يستلم العبيد السلطة، واستطعنا فرض الأجر المتساوي من دون أن تحوز المرأة على مواقع القوة في النقابات. من يرغب بتغيير شيء عليه أولاً أن يتجاوز القدرية ويساعد الآخرين على ذلك، وأن يؤمن بإمكانية تصحيح جزء من «الطبيعة». في القرن التاسع عشر كان الفقر بدهياً، ولم يفكر أحد بكيفية القضاء على الفقر إلا بعد أن أدركوا بأنه ليس معطى طبيعياً، وصارت المثاليات ممكنة.
علينا ألا نبخس المثاليات والإيديولوجيا حقها. كيف نفسر بأن وضع الإنسان الأسود في جنوب أفريقيا ميؤوس منه، بينما ثمة بصيص أمل في الولايات المتحدة؟ عوامل كثيرة تلعب دوراً بكل تأكيد، ولا ننسى العامل الإيديولوجي. لقد تمكنت الحكومة الجنوب أفريقية من بسط سلطتها جرّاء المناعة التي يتحلى بها الفلاحون البيض ضد أفكار الثورة الفرنسية، ولأنهم مقتنعون بأنهم على صواب. أمّا البيض الأمريكيون، فالشك يقرض في نفوسهم حتى ولو كانوا في غاية العنصرية، وأفعالهم لا تتماشى مع الشعارات الأمريكية، بل يخلطون الأقوال العنصرية بتبجيل الإيديولوجيا.
نحن لدينا إيديولوجيتنا أيضاً: المساواة. إن لم تكن هذه الإيديولوجيا مقبولة عاطفياً، لما استطعنا تحقيق تساوي الأجور أبداً، ولانتصرَ الجمودُ والمصلحة الشخصية ونقص المال. الناس تنظر إلى تساوي الأجور على أنه أمر عادل وممكن. بيد أن التوازي لم يحقق هذه الشروط بعد، فمن ناحية ثمة مؤازرة نظرية، ومن ناحية أخرى يكتفي الجميع بالصِيَغ العاجزة والنوايا الحسنة.
إذ أن هناك عقبة واحدة كبيرة: الطبيعة التي كلّفت النساء بالولادة. هكذا هي الطبيعة فعلاً، غير أن عملية الولادة لا تستغرق أكثر من بضع ساعات من حياة الإنسان. أما الباقي فهو ثقافة، وبالتالي قابل للتصحيح، وأعني هنا كلّ النتائج المرتبطة بالولادة والتي تمتد مدى الحياة. يتعين علينا نزع القناع عن «الطبيعة»، أي الخروج عن الجبرية، والكشف عن التكيّف الثقافي وتعرية الآليات الاجتماعية التي ترسّخ عدم المساواة. باختصار، يجب أن نبني جسراً من الإيديولوجيا إلى الواقع. عندما ننجح في ذلك، لن يصعب علينا إقناع الناس، لأنهم سيفهمون أفكارنا كتجسيد لإيديولوجيتهم الخاصة.
هوامش
- ↑ أندرياس برنير، «هل تحتاج النساء إلى الرجال؟» في كتاب: حقوق المرأة، روتردام: المطبعة الجامعية، 1969.
- ↑ لندن: روتليدج & كيجان باول 1956. الترجمة الهولندية بعنوان: المرأة العاملة. دراسة اجتماعية عن التوتر الناجم عن الدمج بين العمل المنزلي والمهنة، روتردام: المطبعة الجامعية، الطبعة الثانية 1969.
- ↑ 3. الساقة في اللغة هي عكس الطليعة، وتستخدم في الجيش للإشارة إلى الأرتال الأخيرة منه، وتستخدمها الكاتبة هنا للإشارة إلى الفئة الأكثر رجعية في المجتمع.
- ↑ أنظر ن. لايتس و م. فولفنستاين، أفلام. دراسة نفسية، 1950، المقتبسة من إ. مورين. روح العصر، باريس: غراسيت، 1962.
- ↑ إيفيلين سوليروت، تاريخ الإعلام النسائي في فرنسا منذ البداية حتى 1848، باريس: كولين، 1966.
- ↑ أنظر مقالات في النظرية الاجتماعية، النسخة المعدّلة، نيويورك: المطبعة الورقية الحرة، 1964، صفحة 302 إلى 311. بالمناسبة، الكاتب يقوم بتحليله ضمن سياق واسع.
- ↑ أنظر بيانكا زازو، الفروق النفسية في المراهقة، باريس: المطبعة الجامعية الفرنسية، 1966، صفحة 115 و121.
- ↑ لم أتطرق إلى السَّيئة التي ذكرها تالكوت بارسونز: المنافسة بين الزوجين. وقد لمّحت مارغريت ميد التي كانت ضحية نظام عدم التساوي (تطلّقت ثلاث مرات) إلى أن الحلّ هو الزواج من خارج الجماعة، أي من شخص يمارس مهنة مختلفة.
- ↑ سفير برون- جولدبراندسن، الأدوار الجنسانية وعملية القولبة الاجتماعية في: إ. داهلستروم (تحرير)، أدوار الرجل والمرأة المتغيرة، لندن: داكوورث، 1967، اعتباراً من صفحة 67.