وثيقة:النسوية ما بعد الكولونيالية - تفكيك الخطاب الاستشراقي حول نساء الهامش

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

Circle-icons-document.svg
مقالة رأي
تأليف ريتا فرج
تحرير غير معيّن
المصدر مجلة الفيصل
اللغة العربية
تاريخ النشر 2018-03-01
مسار الاسترجاع http://www.alfaisalmag.com/?p=9064
تاريخ الاسترجاع 2018-08-10



قد توجد وثائق أخرى مصدرها مجلة الفيصل



أطلق كتاب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935-2003م) «الاستشراق» حركة واسعة النطاق على صعيد قضايا «الجندر» و«النسوية ما بعد الكولونيالية»، حيث برزت أطروحات سعت إلى تفكيك الرؤى الاستعمارية والاستشراقية حول النساء في الدول المُستعمرَة سابقًا، ولا سيما تلك المرتبطة بالحريم الشرقي، والبطريركية، والإيروتيكية، وقمع الشرق للمرأة. تُعد الدراسات «النسوية ما بعد الكولونيالية» من الحقول المعرفية المعاصرة. تسعى هذه الدراسة إلى قراءة ملامح «الإنتاج الفكري النسوي ما بعد الكولونيالي»، من أجل مقاربة الترميزات الثقافية النمطية والإسقاطية حول الجندر في منطقة الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم، المنتجة من قبل خطاب المُستعمِر والخطابات السياسية الغربية المعاصرة.

حين بدأتُ بالكتابة تنبهت لمسألة أساسية: أن الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية نشطت بشكل رئيس في الهند وأميركا اللاتينية وباكستان واليابان، في حين بقيت في العالم العربي خجولة؛ فالأدبيات العربية الصادرة قليلة جدًّا، وهذا ما فرض تحديًا معرفيًّا كان عليّ تجاوزه، ليس بسبب ندرة الخلاصات العربية في ميدان النسوية ما بعد الكولونيالية فحسب، وإنما لإدراكي أن علينا كباحثين وباحثات أن نولي اهتمامًا أكبر لهذا النمط من الدراسات، لكوننا أولًا في العالم العربي خضعنا للاستعمار الذي سبقته وواكبته حركة استشراقية، حملت العديد من الصور النمطية عن النساء الشرقيات المسكونات بالغواية والسحر بالنسبة لبعض «الآخر» الغربي، «النبيل والعقلاني والمتعفف». وثانيًا، لأن روايات الرحّالة وكتب المستشرقين حملت مضامين كثيرة عن نساء الشرق –سلبية أو إيجابية- فنحن أمام مخزون علينا فهمه ودرسه لنتمكن من بلورة حركة معرفية معاكسة أو أصوات بديلة. وثالثًا، لأن الخطاب السياسي الغربي المعاصر –وكذلك جزء من الخطاب الثقافي المعاصر- يضع نفسه في موقع الناطق والمدافع عن المسلمات «المعنفات» و«الخاضعات» و«المقهورات» –تحديدًا في العالمين العربي والإسلامي- بسبب المجتمع والدين ويأخذ عدته الثقافية مما أنتجته أدبيات القرن التاسع عشر.

لا بد من توضيح مسألة أخرى وردت في عنوان الدراسة: «نساء الهامش»، فما الذي أقصده؟ احتلت ثنائية المركز/الهامش موقع الصدارة في الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية؛ والمقصود بالهامش «أولئك النساء المقهورات من قبل منظومتين: المنظومة الاستعمارية التي صورتهن ضحايا النظام البطريركي والدين، والمنظومة الأبوية الشرقية التي مارست هي أيضًا تهميشًا للنساء، قد يكون أكثر ضراوة، وهذا ما استنتجته ولاحظته العديد من المشتغلات في هذا الحقل وتطرقت في دراستي إلى بعض مظاهره.

تنطلق هذه الدراسة من أربعة محاور رئيسة:

أولًا- النسوية ما بعد الكولونيالية: الإرهاصات والوعي.

ثانيًا- «دراسات التابع»… الكتابات النسوية في الهند: غاياتري سبيفاك.

ثالثًا- ليلى أبو لغد: هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟

رابعًا- النسوية العربية والخطاب الكولونيالي: أساطير أوربا في الشرق: رنا قباني أنموذجًا.

النسوية ما بعد الكولونيالية: الإرهاصات والوعي

يتناول مفهوم «ما بعد الكولونيالية» (Postcolonialism) آثار الاستعمار على الثقافات والمجتمعات. ولمصطلح ما بعد الكولونيالي -بحسب استخدام المؤرخين له في الأصل عقب الحرب العالمية الثانية في سياقات مثل «دولة ما بعد الكولونيالية»- معنى تاريخي تسلسلي واضح؛ إذ يشير إلى حقبة ما بعد الاستقلال. على أية حال فقد استخدم النقّاد الأدبيون هذا المصطلح بداية في أواخر السبعينيات لمناقشة الآثار الثقافية المتعددة للاستعمار. وعلى الرغم من أن دراسة قوة التمثيل المسيطرة داخل المجتمعات المستعمرة، انطلقت في أواخر السبعينيات من أعمال إدوارد سعيد مثل كتاب «الاستشراق»، وأفضت إلى تشكل ما عُرف لاحقًا باسم نظرية الخطاب الكولونيالي في أعمال نقّاد مثل هومي بابا (H. Bhabha) وغاياتري سبيفاك (G. Spivak)؛ فالمصطلح الفعلي «ما بعد الكولونيالي»، لم يوظف في تلك الدراسات الأولى حول قوة الخطاب الكولونيالي في تشكيل الرأي والسياسات في المستعمرات. على سبيل المثال استخدمت سبيفاك مصطلح ما بعد الكولونيالي لأول مرة في مجموعة المقابلات الشخصية والكتابات المجمعة، التي نُشرت عام 1990م تحت عنوان «الناقد ما بعد الكولونيالي». وعلى الرغم من أن دراسة تأثيرات التمثيل الكولونيالي كانت محورية في أعمال هؤلاء النقاد، فإن مصطلح «ما بعد الكولونيالي» في حد ذاته استخدم في البداية للإشارة إلى أشكال التفاعل الثقافي داخل المجتمعات الكولونيالية في الدوائر الأدبية.

لقد أفضى كتاب إدوارد سعيد إلى توليد الدراسات النسوية والنقاشات المتعلقة بها في دراسات الشرق الأوسط، وفي مناطق أخرى تذهب أبعد من وراء هذا الحقل. تلاحظ ليلى أبو لغد، الباحثة الفلسطينية، وأستاذة الأنثروبولوجيا والدراسات النسوية في جامعة كولومبيا، أن ثمة أربعة طرق كان فيها لعمل سعيد تأثير في هذا الشأن.

أولًا- فتح الاستشراق الإمكان للآخرين حتى يذهبوا أبعد من سعيد في استكشاف مناطق الجندر والجنسانية في خطاب الشرق نفسه.

ثانيًا: قدم الكاتب تسويغًا قويًّا لظهور الأبحاث التاريخية والأنثروبولوجية المزدهرة التي زعمت أنها تتجاوز القوالب النمطية للمرأة المسلمة، أو الشرق أوسطية والعلاقات الجندرية بشكل عام.

ثالثًا: أسهم التعافي التاريخي للنسوية في الشرق الأوسط بدوره، والناجم عن هذه الوفرة الجديدة في البحث، في التحريض على إعادة بحث هذه القضية المركزية في الاستشراق: سياسة شرق/ غرب.

وأخيرًا عمل موقف سعيد على تزويد الدراسات الجندرية والنقاشات النسوية في الشرق الأوسط ببعض المشكلات الشائكة بشكل خاص، حين ألقى الضوء على الطرق الغربية التي يجري بها تحديد مكان النقد النسوي في السياق الكوني. يمكن تعريف خطاب ما بعد الكولونيالية بأنه «خطاب نقدي ينحو إلى تفكيك الخطاب الاستعماري، وإلى إعادة النظر في تاريخ آداب المستعمرات التي واجهت الاستعمار الأوربي. إن الهدف الأول لخطاب ما بعد الإمبريالية بجهوده الكبيرة هو إعادة كتابة تاريخ الحضارة الاستعمارية من وجهة نظر من استُعمِروا (…) إن نظرية ما بعد الكولونيالية، هي في الحقيقة قراءة للفكر الغربي في تعامله مع الشرق، من خلال مقاربة نقدية بأبعادها الثقافية والسياسية والتاريخية.

أوضح لنا إدوارد سعيد المنظومات الاستشراقية المتنوعة عن الشرق التي حملها المستشرقون والرحّالون والأكاديميون الغربيون، فشخّص «كيف كان الشرق صورة مرآة عكسية لــ«الآخر»، أي الغرب المتفوق. لقد كانت مقولته بأن التصوير لشرق أحادي ومتسق يؤدي إلى صور جوهرية ونمطية، يصنف بها الشرق بصفته متخلفًا وغير قابل للتغيير، وغير عقلاني ومهددًا ويجب السيطرة عليه جنسيًّا، وهي مقولة مثيرة للنقاش والتحدي. فلم يسبق أن قُدِّمت خيالات الحريم والحمام التركي، وهي مجازات رئيسة في الخيال الأوربي، كرموز جنسية نمطية للشرق المتخيل، بصورة أبرز من تلك التي قدمها في الاستشراق. نجد أن سعيدًا قد عرض لموضوع الخيالات الذكورية الغربية: فقد كان على الشرق الأنثوي والضعيف أن يتعرض لغزو الغرب القوي والمسيطر جنسيًّا. فعلينا أن ننسب إليه لفت أنظارنا إلى فكرة الاستعمار القائم على مفاهيم الجندر، ولكن من غير المؤكد أنه يجب النظر إلى عمل سعيد على أنه يهتم أساسًا بمسائل الجندر في حد ذاتها، أو أن عمله يركز على قصد الصورة وبنائها. ومع ذلك، فإن مقولته الأساسية قد أعطت بالتأكيد دفعة للدراسات الأنثروبولوجية عن الحياة الجنسية والتاريخية، وأعادت التفكير في العلاقات المتشابكة للسيادة بين الشرق والغرب، حيث أدت نظريته إلى صقل المقاربات النسوية وتطوير الدراسات ما بعد الكولونيالية. فقد كان أول من ربط الخيالات الجنسية للرحّالة بنزعة الهروب إلى الشرق. ونتج عن هذا الوعي إنتاج فكري مهم استعار منهجه من ميشال فوكو (Michel Foucault) (1926- 1984م) وتنظيره حول السلطة، وهدف إلى تفكيك الصور النمطية في البحوث التي تتناول المجتمعات الإسلامية. وقد واصل كثيرون ما بدأه سعيد من جهود، مثل ماري لويز برات، وبيتر هيوم، وهومي بابا، وغاياتري سبيفاك، ورنا قباني وغيرهم. فمنذ ظهور كتاب الاستشراق ظهرت كمية مدهشة من الأعمال في شتى مجالات الإنسانيات. وركز الإنتاج الفكري ما بعد سعيد على التحيزات والترميزات الثقافية النمطية والافتراضات المسبقة حول الجندر في الحقبة الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، وقد تم هذا على مستويين: من خلال التحليل النصي وفي الدراسات الأنثروبولوجية.

نجد في كتاب «خيالات كولونيالية: نحو قراءة نسوية للاستشراق» (Colonial Fantasies: Towards a Feminist Reading of Orientalism) لأستاذة الدراسات الثقافية وعلم الاجتماع (المتخصصة في دراسات ما بعد الكولونيالية) ميدة يغينوغلو (Meyda Yeğenoğlu) دراسة غنية ومدهشة للتمثيل الثقافي للغرب لنفسه من خلال الآخر، فهي تبحث في الاستشراق وتعبيره عن الاختلافات الجنسية والثقافية، كما تحلِّل كلًّا من فئتي الجندر والاستشراق من أجل إعادة صوغ الخطاب الاستشراقي. وتركز على مفهومي الخيال والرغبة، وتربطهما بالبناء التاريخي المحدد وبالعملية الجماعية، فهي تبحث بالتحديد في الطريقة التي نُظر بها إلى الحجاب وممارسة التحجب والحريم في الخيال الغربي، بداية من ملاحظات فرانز فانون حول الحجاب في الجزائر. فقد كان ينظر إلى الشرق باعتباره تجسيدًا للحسية، وفُهِم بمفردات أنثوية. أما الحريم فكان يمثل العالم الغامض للشرق، والحيز الخفي والمحظور الخاص بالنساء. وتتساءل الكاتبة حول كتابات الرحَّالات الغربيات من النساء، وكيف أن كتاباتهن تدعم كتابات الرجال وتكملها بـــ«المعرفة من الداخل».

أما ليلى أبو لغد فقد طرحت في كتابها (Remaking Women) «إعادة تشكيل النساء» مسائل الحداثة وبناء الدولة القومية وما بعد الكولونيالية في علاقتها بتاريخ النسوية في الشرق الأوسط. لن نتطرق إلى كتاب ليلى أبو لغد في ورقتنا هذه، إنما سندرس مقالها «هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟ تأملات إناسية في النسبية الثقافية وحواشيها»، حيث تقدم فيه مقاربة نقدية للمبررات التي رفعت لتبرير التدخل الأميركي في أفغانستان بعنوان: «تحرير أو (إنقاذ) المرأة الأفغانية». من المهم الإشارة إلى أن المقال تطور إلى كتاب يحمل العنوان نفسه: (Do Muslim Women Need Saving) صدر عام 2013م عن (Harvard University Press).

يعتبر «أساطير أوربا عن الشرق: لَفِّق تَسُدْ» للباحثة السورية رنا قباني، من ضمن أبرز الأدبيات التي تندرج في الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية، وسوف ندرس بعض الأفكار التي عالجتها في هذه الدراسة. إن حقل الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية في العالم العربي، ما زال في مراحله الجنينية قياسًا إلى الدراسات في الهند وأميركا اللاتينية واليابان. وهنا من المفيد الإشارة إلى الكتاب الذي حررته وقدمت له أستاذة دراسات العالم العربي المعاصر في جامعة مانشستر هدى الصدة تحت عنوان: «أصوات بديلة: المرأة والعرق والوطن في العالم الثالث»، وهو كتاب يحتوي على مقالات مترجمة لمفكرات مهتمات بالدراسات النسوية، وبدراسات التابع في العالم الثالث الذي يشهد على الاهتمام بهذا الحقل المعرفي.

في كتابه «الحريم الاستعماري» (The Colonial Harem) (1986) قام الناقد الأدبي الجزائري مالك علولة (1937- 2015م) بدراسة لبطاقات البريد التي أنتجها الفرنسيون في أثناء الاحتلال الفرنسي، محللًا كيف جرى تأطير واختزال شخصية المرأة في صورة، وبذلك استخدم مفهوم رولان بارت في رؤيته للكاميرا كفاعل اختزالي للشخصية، وأضاف له رؤيته الخاصة في كيفية التطويع التاريخي لصورة الجزائري والعربي، وتكييف الصورة بما يناسب العين «الشريرة» التي تريد تصميم الشرق حسب رؤيتها الخاصة. يقول الكاتب في مقدمة الكتاب: «ليس هناك توهم بلا جنس، ومن خلال هذا الاستشراق يتم إعداد منتج يشمل الجيد والسيئ –والسيئ إجمالًا– هذا المنتج يحمل صورة متكاملة تمثل هاجسًا واحدًا هو الحريم (Harem). يؤول علولة بعض أوجه استخدام هذه الصور في إعادة إنتاج الهيمنة الاستعمارية مرة أخرى، بجعل المحتل والناظر في موقع الذات الفاعلة أو الناظرة للجزائريات، وهن في موقع الموضوع أو المفعول به، عن طريق إعدادهن لوقفة الصورة ووضعهن في إطار محدد، ومن ثم خلق صورة معينة لهن. يرى علولة أن بطاقات المعايدة التي تصور الجزائريات تعمل من خلال آلية فعل ثلاثية: علم الأعراق، الذي يدعي تمثيل الحقيقة، أيديولوجية استعمارية لا تبوح بعلاقة القهر الموجودة بين الفرنسيين والجزائريين، والوهم الذي ينطوي على خيالات مكبوتة لدى الرجال الفرنسيين عن النساء الجزائريات.


«دراسات التابع»… الكتابات النسوية في الهند: غاياتري سبيفاك

أنتجت «الدراسات ما بعد الكولونيالية» ما يطلق عليه المتخصصون «دراسات التابع» (Subaltern Studies)؛ وهو ميدان معرفي يناقش مؤثرات الاستعمار في الثقافات والشعوب التي عانت الحكم الكولونيالي. تبلور في ثمانينيات القرن المنصرم على يد مجموعة من الباحثين الهنود، وفي مقدمهم المفكر الهندي رانا جيت غوها (Ranajit Guha)؛ أحد رواد «دراسات التابع». وبدءًا من منتصف التسعينيات دخلت «دراسات التابع» الدراسات النسوية والإفريقية والأميركية اللاتينية –ولاحقًا العربية وإن لم تأتِ بمستوى التنظير نفسه- وهو ما جعلها مقاربة للتاريخ قائمة بحد ذاتها لا تقتصر على منطقة جغرافية محددة.

«تعد سبيفاك من المؤسسين الفعليين لنقد الخطاب الكولونيالي الجديد، وهي أول منظِّرة هندية في مرحلة ما بعد الاستعمار. اهتمت بالدفاع عن المرأة الشرقية، ومواجهة الهيمنة الغربية، والدفاع عن المهاجر والاهتمام بالأدب والثقافة (…) ظلت منذ أواخر السبعينيات مرتبطة بتأسيس نظرية ما بعد الكولونيالية، وتعتبر واحدة من أبرز نقادها، وكانت مؤثرة بشكل كبير في فهم مجموعة من الأسئلة تطرح عن الاستعمار والهوية، وكان إسهامها في نظرية ما بعد الاستعمار بمثابة مزيج متنوع من الماركسية وما بعد البنيوية والنسوية، رغبة منها في إدراك التشكيل المعقد للذاتية والهوية الثقافية. تهتم سبيفاك بالأبعاد المعرفية والخطابية للتدخلات الأوربية في ثقافات الآخرين (…) وتركز بصورة مشابهة لإدوارد سعيد، على العلاقات النصية المتمثلة بالأدب واللغة، التي تسعى إلى إخضاع ثقافة الآخرين لخدمة المركز لتخدم المركز الثقافي، وهذا لا يعني أنها لا تحاول إظهار القوى المادية للمستعمِر والاستغلال الاقتصادي للأمة المستعمرَة، إنما تعمل جاهدة على فهمها من طريق البنى التمثيلية والخطابية. وهكذا فإن عملها ينصب بشكل أساسي على الهامش والمركز للبحث عن مكانة النساء بصورة مقارنة بين المرأة في العالم الثالث المهمشة، والمرأة في العالم الأول السائدة، من أجل الوصول إلى خصوصية وضعية المرأة في العالم الثالث».

«عرفت دراسات التابع منذ ربع قرن، واستأثرت باهتمام كبير في أوساط المؤرخين والمفكرين والنقاد، وتمثل اليوم الموضوع المركزي لدراسات ما بعد الاستعمار (أو الكولونيالية) في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وتمثل لبّ الدراسات الثقافية التي تخطت المفاهيم التقليدية للنقد الأدبي، وفتحت الأبواب بين الأدب والفكر والتاريخ والأنثروبولوجيا والسياسة باعتمادها على فكرة التمثيلية (Representation)، أي الكيفية التي تتجلى فيها الأحداث في الخطابات بكل أشكالها. وفي مطلع ثمانينيات القرن العشرين ظهرت جماعة دراسات التابع (Subaltern Studies Group) وهي جماعة أكاديمية جريئة من المؤرخين الهنود الذين قلبوا تاريخ الهند الرسمي الذي كتبته النخبة المتأثرة بالسياسات الاستعمارية البريطانية، واقترحوا إعادة كتابته في ضوء مفاهيم مغايرة متصلة بالتاريخ الشفوي المنسي الذي استبعدته النخب الاستعمارية (…) صدر المجلد الأول من دراسات التابع عام 1982م، وصدر المجلد الحادي عشر منها عام 2000م».

«وظفت دراسات التابع مفهوم (التمثيل) الذي اقترحه فوكو وطوره إدوارد سعيد في نظريته النقدية القائمة على هذا المفهوم، كما تأثرت بمناهج ما بعد البنيوية والتفكيكية، ومنها الدراسات المتخصصة في قضايا الخطاب. أفادت سبيفاك من كل ذلك في مجال دراسات اللغة، وقوة الخطاب، فكشفت طبيعة التعارض بين الثقافات الأصلية والثقافات الاستعمارية. وطورت جوانب حيوية في مجال دراسة المرأة، حيث فُتِحَ مجالٌ أمام كتابة تاريخ جديد للأنوثة، عبر التركيز على دراسة مفهوم الجنوسة، لكشف الجانب المغيب للأنوثة لأن تمثيلها عرف غيابًا في خطابات مدارس الحداثة، وما بعد الحداثة».

في بحثها: «هل يستطيع التابع أن يتكلم؟»(Can the Subaltern Speak?)تطرح سبيفاك سؤالًا جوهريًّا: «هل توافرت السياقات الثقافية المواتية للتابع كي يتكلم؟ هل يتمكن من الحديث كي يسمع صوته؟ فالشعوب المستعمَرة سُلب منها حق تمثيل نفسها، أي سلبت حق الكلام (…) تؤكد سبيفاك أن البحث عن التابعية الجديرة بالتصديق والأصلية، هو مشروع مضلل ولا يمكن بلوغه. ويمكن متابعة هذه المسألة من طريق مثال «ساتي» (Sati) وهو طقس هندوسي تقوم فيه الأرملة برمي نفسها في محرقة زوجها؛ وهذا التقليد الهندوسي يساعد على فهم ما تطلق عليه سبيفاك «العزل المضاعف» للمرأة في الهند، وأن هذا الطقس الهندوسي منظّم بواسطة العادات الأبوية في الهند، والقانون البريطاني الاستعماري. فالوطنيون الهنود الذين يستندون إلى النظام الأبوي يؤسسون خطابًا مشغولًا بنوايا النساء اللاتي يمارسن طقس «ساتي»، ويرون أن المرأة نفسها هي التي ترغب في أن تموت، في حين أن البريطانيين شرعوا قانون منع هذا الطقس عام 1929م في أثناء انتدابهم للهند. كانوا يؤسسون تشريعهم هذا على أساس ينطلق من مفهوم التحضر الشامل، وكأنهم يريدون أن يقولوا: إن الإنسان الأبيض قد أنقذ المرأة السمراء من الرجل الأسمر؛ ولذلك فإن صوت المرأة يغيب في كلا الموقفين: الموقف الاستعماري، والموقف الأبوي. وتصل سبيفاك إلى نتيجة مهمة في فهم تاريخ «ساتي» تتمثل في أنه تاريخ للقمع المضاعف وسرد يقوم على المرأة المهمشة والتابعة».

«تقول سبيفاك: إنه من خلال قيامهن بطقس (ساتي)، تعبر النساء المهمشات من الهندوس عن صوتهن، صوت نعتبره اليوم غير مفهوم وغير منطقي. فثمة تضافر بين الهيمنات الكبرى للنصوص الدينية الهندوسية المشجعة على حرق المرأة، وبين فكرة تبعية المرأة للرجل بفعل هيمنة الثقافة الذكورية، ثم هيمنة الأبوية، والهيمنة الاستعمارية، وما دام الصوت تابعًا؛ وهو هنا المرأة التي وجدت أن فكرة الحرق تعبير عن الوفاء مخنوقًا، وسط دوائر متضافرة من الحجب والمنع، فهو –إذن- صوتٌ صامتٌ ومحكومٌ بالفشل؛ لأن قوة المتبوعين سواء كانوا تقاليد دينية، أو ثقافة أبوية، أو ثقافة استعمارية، تحول دون انبثاق صوت التابع، ولكنها تقترح حلًّا لا يقف أمام هذه النهاية، يتمثل في استعادة وعي التابع عبر صوت المثقف المنبثق من صلب الجماعة، لكي ينوب عنها في التعبير، لكن ذلك – في حد ذاته- يعيدنا إلى فكرة التمثيل، بما فيها التي طرحها ماركس حول عجز الشرقيين عن تمثيل أنفسهم. وسؤال سبيفاك يتخطى المباشر إلى آخر فلسفي متعالٍ، فهي تتحدث أيضًا عن إمكان حقيقة تأثير كلام التابع وصدقه؛ إذ ليس كل كلام يحمل الحقيقة، فحديث التابع محاط بسياقات ضاغطة، من ثقافات أخرى تجعله غير قادر على التعبير عن الحقيقة، فقد جرى التواطؤ بسبب السياسات الاستعمارية، بأن التابع غير قادر على تمثيل نفسه، ولا بد أن تمثله السلطة الاستعمارية»(18).


ليلى أبو لغد: هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟

في مقالها: «هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟ تأملات إناسية في النسبية الثقافية وحواشيها»، تتساءل ليلى أبو لغد عما إذا كان يمكن للإناسة، بوصفها علمًا مكرسًا لفهم الاختلاف الثقافي والتعامل معه، أن توفر لنا مقاربة نقدية للمبررات التي قدمت لتبرير التدخل الأميركي في أفغانستان بعنوان تحرير أو إنقاذ المرأة الأفغانية. إن الهدف من استحضار هذه المقالة محاولة فهم الكيفية التي يرفع فيها الخطاب السياسي الغربي المعاصر رؤيته «الإنقاذية» للنساء «المسلمات المقموعات» في العالم الإسلامي، مستعيدًا بذلك النبرة الاستشراقية التي عملت –سابقًا- على تكريس نمطين: الأول: صورة المرأة الشرقية/ المسلمة الخاضعة. والثاني: النظر إلى الشرق بوصفه شرقًا حسيًّا مستبدًّا قامعًا للنساء، وهو ما يستدعي إنقاذهن ضمن نبرة تبشيرية.

تحلِّل أبو لغد الخطاب السياسي الأميركي الذي رافق الحرب الأميركية على الإرهاب في أفغانستان، تلك الحرب التي اتخذت مهمة تحرير أو إنقاذ المرأة الأفغانية كإحدى مبرراتها من براثن طالبان. تؤسس الباحثة خلاصاتها عبر القراءة النقدية، انطلاقًا من درسها لهذا الخطاب السياسي والإعلامي، آخذة في الاعتبار الجانب الثقافي «المعياري» والنمطي المسيطر على العديد من البرامج التلفزيونية في الولايات المتحدة. تضعنا أمام سؤالين إشكاليين: لماذا يُعتقد أن معرفة ثقافة المنطقة، وخصوصًا المعتقدات الدينية السائدة فيها وأساليب معاملة النساء، أهم من الكشف عن تاريخ تطور الأنظمة القمعية في المنطقة، ودور الولايات المتحدة في ذلك؟ لِمَ كانت المرأة المسلمة عمومًا، والأفغانية خصوصًا، بمثل هذه الأهمية لهذا النمط من التحليل الثقافي الذي يتجاهل التشابكات المعقدة، التي نجد أنفسنا –أحيانًا- متورطين جراءها في بعض التحالفات الصادمة؟ لماذا جرت تعبئة الرموز الأنثوية في هذه الحرب على الإرهاب بصفة غير مسبوقة في أي صراع آخر؟) تفند أبو لغد خطاب لورا بوش الإذاعي الذي بثّ يوم 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2001م، «فمن ناحية، قام هذا الخطاب بهدم الاختلافات القديمة؛ إذ تضمن خلطًا مستمرًّا بين طالبان والإرهابيين، ليغدو الأمر في نهاية المطاف أمرًا واحدًا: وجهان لهوية شرسة ومتوحشة. ومن ثم نجد تغييبًا تامًّا للأسباب الحقيقية لمعاناة الأفغانيات من سوء التغذية والفقر والمرض، والحرمان من حق العمل الذي أقرته طالبان، وصولًا إلى التعليم ومتعة طلاء الأظافر. ومن ناحية أخرى، لعب خطاب لورا بوش لصالح تقسيمات عميقة مستجدة بين الشعوب المتحضرة القاطنة جلّ أرجاء المعمورة، التي تنفطر قلوبها حزنًا على النساء والأطفال الأفغان من جهة، وطالبان الإرهابيين، تلك الوحوش الثقافية التي تسعى -بحسب عبارتها- إلى فرض عالمها على بقيتنا، من جهة أخرى».

تركز أبو لغد في مقالها على الكيفية التي تعاطى بها الإعلام والخطاب السياسي الأميركي، مع البرقع الذي ترتديه الأفغانيات أو «المرأة المغطاة» والمفروض عليهن من قبل جماعة إرهابية، فتستعيد موقف التاريخ الاستعماري من قضية الحجاب في العالم العربي وتحديدًا في الجزائر؛ «فتجربة الاستعمار الفرنسي في الجزائر، شهدت على الدوام هيمنة الصورة الجنسية والحسية والإيروتيكية لنزع الحجاب، وشهوة كشف الغطاء واختراق الخفاء، وليس صورة نزع الحجاب بهدف تحرير المرأة»(22). تدقق أبو لغد في مسألة النساء الأفغانيات التي ادعت لورا بوش أنهن فرحن حين حررهن الأميركيون من طالبان. ولكن لماذا لم تتحرر الأفغانيات من البرقع بعد ذلك؟ تلفت إلى أن طالبان لم تخترع البرقع. فقد كان البرقع شكلًا محليًّا للتّغَطِّي، تلبسه نساء البشتون عند مغادرتهن المنزل. والبشتون هي إحدى المجموعات العرقية المتعددة بأفغانستان، التي طورت أشكالًا مختلفة للتغطي بشبه القارة الآسيوية وجنوبها الغربي، كوسيلة ترمز لتواضع المرأة أو لحرمتها. فقد قام البرقع مثل بعض أشكال الغطاء الأخرى، وفي أمكان مختلفة، بتورية الفصل الرمزي بين مجال الرجال ومجال المرأة، نظرًا لتعامل المرأة مع المنزل والعائلة، لا مع الفضاء العمومي الممتلئ بالغرباء».

تشير أبو لغد إلى خلاصة أولية دالة في نقاشها حول الأشكال المختلفة للتغطية، فتعتبر أنها تحمل دلالات مختلفة داخل الجماعات التي تنتمي إليها، فلا يجب الخلط بين الأمور «وألا نجعل من التحجب علامة على فقدان السيطرة على الذات». تصل إلى هذه الخلاصة بناءً على التقرير الذي أنجزته حول إحدى الجماعات البدوية المصرية، حين قامت بأعمال ميدانية هناك أواخر السبعينيات وخلال الثمانينيات؛ «فإن تغطية الوجه بقماش أسود أثناء التحدث مع رجال محترمين من كبار السن، تعتبر حركة عفوية، تبادر بها النساء ذوات الحس الأخلاقي العميق والمرتبطات بفكرة شرف العائلة، أي: إن تلك الممارسة تتحول في سياقات معينة مخصوصة إلى إحدى الطرق التي تظهر بها النساء التزامهن بذلك، وهن يقررن عن طواعية من هم الرجال المناسبون الذين ينبغي التحجب أمامهم».

ترى أبو لغد خلال نقاشها للخطاب السياسي والثقافي والإعلامي الغربي تجاه «تحرير النساء المسلمات من الحجاب» «أنه لا بد من النظر إلى الحجاب في سياقاته المختلفة، بعيدًا من القوالب الثقافية الجاهزة وفي سبيل تقبل الاختلاف، داعية إلى العمل الجاد من أجل تعقل الاختلافات واحترامها بما هي منتجات لتواريخ مختلفة، وتعبيرات عن ظروف وتمظهرات لرغبات مبنية بصيغ متمايزة. قد نكون نريد العدالة للمرأة لا أكثر ولا أقل، لكن هل يمكننا تقبل فرضية وجود أفكار متمايزة عما نعتقده بشأن ماهية العدالة، وأن نساء مختلفات ربما سيرغبن في، أو يخترن، مصائر مختلفة عن مصائرنا؟». تلفت أبو لغد إلى أن مشروعات إنقاذ النساء تعتمد على شعور بالتفوق لدى الغربيين، وتعززه، والحال هذه، أنه شكل من أشكال الغطرسة التي ينبغي تحديها (…) ونحن بوصفنا أنثروبولوجيين أو نسويات أو مواطنين مسؤولين، يجب أن نحذر من النهل من عقليات القرن التاسع عشر، وأعني بذلك عقليات المبشرات المسيحيات اللواتي كرسن حياتهن لإنقاذ شقيقاتهن المسلمات». تتساءل أبو لغد: ألا يمكننا ترك مسألة التحجب ودعوات إنقاذ الآخرين جانبًا، والنظر إلى الوسائل المناسبة لجعل العالم أكثر عدلًا؟ كان جوابها بصيغة طرح إشكالية جديدة: هل يمكن أن نوظف لذلك لغة أكثر مساواتية ترتكز على مفاهيم التحالف والائتلاف والتضامن، بدلًا من الإنقاذ؟


النسوية العربية والخطاب الكولونيالي: أساطير أوربا في الشرق: رنا قباني أنموذجًا

يناقش كتاب الباحثة السورية رنا قباني: «أساطير أوربا عن الشرق: لَفِّق تَسُدْ» ما سجله بعض الرحّالة الأوربيين من انطباعات حول الشرق في رواياتهم، وخصوصًا ما يتعلق بالنساء الشرقيات والمسلمات. تلاحظ قباني أن الإسلام احتل حيزًا مهمًّا من تمثلات هؤلاء الرحّالة؛ ذلك الإسلام الذي نُظر إليه لمدة طويلة، من قبل الوعي الأوربي، على أنه دين التعصب والعنف، وعلى أنه «إلغاء للمسيحية»، وأن رسوله محمدًا «عدو المسيح»، وقد انعكس ذلك في الأفكار العامة التي تحكمت في مسار هذه الروايات الأوربية على مستوى الدين والعرق والثقافة والمرأة. تجدر الإشارة إلى أن الأدبيات الأوربية والحوليات والوثائق المعنية بالدين الإسلامي، كانت حتى القرون الوسطى تستخدم مصطلحات مثل: الإسماعيليون أو السراسنة (Sarrasins) أو الهاجريون، حين كانت تتحدث عن المسلمين، ولم تستعمل عبارتي «مسلم» أو «إسلام» قبل القرن السادس عشر. لا نتوخى هنا تقديم قراءة شاملة لـ«أساطير أوربا عن الشرق: لَفِّق تَسُدْ» بل سنتوقف عند بعض محطاته. يتضمن الكتاب في عمقه «صوت التابع» أو «الأصوات البديلة» وهو يحاجّ «الروايات الأوربية عن الشرق» التي تركز بشكل متعمد «على تلك السمات التي تجعل هذا الشرق مختلفًا عن الغرب، وتنفيه إلى عالم الآخر، وتخفضه إلى مرتبة الغير الذي لا صلاح له. وكان في هذه الروايات الأوربية التي تصف الآخر مقولتان لافتتان للنظر: الأولى: الإلحاح على الادعاء بأن الشرق هو (مكان الفسق والملذات)، والثانية: أن هذا الشرق هو (عالم العنف المتأصل). وكان لهاتين المقولتين أهميتهما في فكر العصور الوسطى، وظلتا تترددان بدرجات متفاوتة من القوة حتى وقتنا الحاضر».

يغطي الكتاب أدب الرحلات الأوربية إبان القرن التاسع عشر. بعد صدور كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد، وُظـِّف أدب الرحلات في الحقول المعرفيّة المختلفة لتحليل الخطاب الغربي، وكشف الطرائق التي سلكها الأوربيّون في رؤيتهم وتصويرهم للأجناس الأخرى في الشرق. تنطلق قباني من فرضيتين: الأولى: أن بريطانيا أنتجت حجمًا هائلًا من أدب الرحلات، وذلك في محاولتها المسعورة لمعرفة العالم الذي كانت بصدد غزوه. فالرحَّالون سافروا لخدمة وطنهم، وكانوا عينه التي ترى، وصوته الذي يروي. ولهذا كانوا يتمتعون بالدعم المالي الرسمي، باعتبار أن روايات رحلاتهم هي التي صوّرت العالم كما أرادته الإمبريالية. والثانية: كانت روايات الرحلات الفيكتورية المرتبطة بعلم حديث الولادة هو الأنثروبولوجيا. ومع أن هذا العلم أصبح -فيما بعد- يساوي بين الثقافات والأجناس، فإن بداياته كانت غالبًا ما تدغدغ زهو الأوربي بنفسه، وتُدخل في روعه أنه هو «ذروة التفوق بين أجناس البشر الأخرى»، وأن تلك الأجناس هي أدنى مرتبة منه».

ثمة ملاحظة دالة تشير إليها الكاتبة حين تسترشد بمقولة سعيد: «عندما عمل الغرب على توثيق الشرق (أو ذلك الآخر، ذلك النقيض، ذلك العدو) فإنه انتهى إلى توثيق نفسه». «ومع أن قصص الرحلات في إنجلترا الفيكتورية عكست خصوصية كل فرد من أولئك الرحالة، فإنها كانت بشكل رئيس تكرارًا لأفكارٍ موروثة (…) ولكن هذا لا يعني أن جميع الرحالة الذين تحدثوا عن الشرق أساؤوا تصويره –كما تلفت قباني- وإنما يعني أن سوء التصوير هو الذي طغى، وهو الذي أسر خيال عامة الناس».

تستند قباني إلى مجموعة من الروايات الأوربية التي عكست الصورة «الحريمية والإيروتيكية» للمرأة الشرقية، وهي انطباعات إسقاطية ظللت أدب الرحلات. تقدم رواية (Bevis of Hampton) أنموذجًا «للأميرة المسلمة العاشقة»: فهي على أتم الاستعداد لتخدم فارسها المسيحي بخنوع وإخلاص، أما هو فيثير فيها الرغبة الجامحة لأنها «شهوانية بالفطرة». إن الأميرات المسلمات في مشاهد الغواية في روايات القرون الوسطى «هن اللواتي يتوددن إلى الفارس، وهن اللواتي يقتحمن مخدعه ويمنحنه أجسادهن، ولكنه هو الذي يتعفف ويرفض»، بل «إن هؤلاء المسلمات الغاويات مستعدات للتخلي عن دينهن من أجل حب الفارس». وفي حين تصور الأميرة المسلمة «خائنة وفاجرة وأنانية» كما تشخصها رواية (The Sowdone of Babylone)، نجد بالمقابل البطلة المسيحية في الرواية تُصور امرأة عفيفة تضحي بنفسها عن طيب خاطر: ففي رواية (ملك التار) (The king of Tars) ترضى أميرة مسيحية بالزواج من ملك مسلم أسود وهمجي؛ في سبيل أن تنقذ قومها من الهلاك». لقد احتل مفهوم «الغواية» للمرأة الشرقية موقعًا فضائحيًّا في أدب الرحلات الأوربية إبان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتجلى ذلك –أيضًا- في الرسومات التي تصف الحمامات وما يجري فيها، مثل لوحة (الحمام) لـجان ليون جيروم (Jean-Leon Gerome) وهو من أشهر الفنانين المستشرقين، درس اللاتينية والإغريقية والتاريخ. قام بأربع رحلات إلى الشرق أولها لمصر، ورسم لوحات عديدة تضمنت صور العاريات في الحمامات، وأسواق الجواري، والراقصات.

شكلت قصص «ألف ليلة وليلة» مركزًا آخر لتمثلات الرحالة والمستشرقين حول الشرق. تقول رنا قباني: إن أنطوان غالان (Antoine Galland) المستشرق الفرنسي الذي ترجم «ألف ليلة وليلة» لأول مرة عام 1704م، «كان العنف في الشرق في يومياته، غالبًا ما يُقرن بالمرأة»، وهو أمر تكرر في كتابات الرحلات الأوربية: «فعالم الحريم العدواني النزعة والزاخر بالجرائم العاطفية»، كان حاضرًا باستمرار في ذهن الرحالة الأوربيين، وطالما فتنه وأثار فضوله، فعمل بكل الوسائل على تصويره». كانت المشاعر الأوربية –كما تشير قباني- حيال المرأة الشرقية متذبذبة لا تستقر على حال؛ إذ كانت تنوس بين الرغبة والشفقة وبين الاحتقار والغضب. وكانت النساء الشرقيات يُصوَّرن مرات «ضحايا للجنس» و«مرات ساحرات ماكرات». وقد رأى الرحالة والكاتب الفرنسي جان شاردان (Jean Chardin) في روايته (Voyages de monsieur le chevalier Chardin en Perse et autres lieux de l’Orient) في الشرقيات «أكثر نساء الأرض مكرًا، وأنهن متعجرفات، وغادرات، ومخادعات، وشريرات، وفاجرات، وأنهن يقضين كل حياتهن في الإعداد للجنس وحبك المكايد الجنسية (…) ويلخص صفاتهن بقوله: «إن الشرقيات يقضين عمرهن باللامبالاة والكسل، ولا عمل لهن إلّا الاستلقاء طيلة النهار على الأسرّة، حيث يتلذذن بمرور أيدي الجاريات على أجسادهن تمسيدًا ودعكًا، أو أنهن يمضين وقتًا في التدخين».

«لقد فُتنت أوربا بشرق يومئ إليها من بعيد، ويعدها بمباهج مثيرة، وبرحلة خارج الذات هربًا من قيود البرجوازية وتعاليم حواضرها، وتصرف الأوربي أمام الشرق كما لو أنه أمام امرأة». هنا تسجل رنا قباني انطباع إدوارد لين (Edward Lane) المستشرق الإنجليزي حين قصد مصر لأول مرة، التي لطالما حلم بها منذ طفولته: «وجدتني وأنا أقترب من الشاطئ كأنني عريس شرقي يوشك أن يرفع نقاب عروسه». وتعقيبًا على ذلك تقول: «لقد انجذب الأوربي إلى الشرق بدافع الجنس وحين دخل إلى هذا الشرق، دخل إلى عالم الحريم المتخيّل، مثقلًا بتوق مبهم غامض الملامح. فهذا الأوربي يأتي من عصر جُعلت فيه المرأة واحدة من ثلاث: فهي إما الزوجة المترفة التي ماتت لديها شهوة الجسد، أو هي خادمة المنزل التي سلبها عملها كل جاذبيتها، أو أنها المومس التي تنوء بالمهمات التي أُعفيت الزوجة منها».

لم يكن الرقص الشرقي بمعزل عن الانطباعات التي سجلها الرحالون الأوربيون: (لقد أُضفي على الرقص الشرقي في الفن الغربي طابع التعري الذي بهر المشاهد، وجعله يرى الشرق كله متمثلًا فيه. فلوحات القرن التاسع عشر الاستشراقية، جعلت هذا الرقص رمزًا إلى الشرق المتهتك، وأبرزت اختلافه الدرامي عن الرقص الغربي؛ إذ إنه «لم يكن مثله مجرد تصوير نوعٍ من النشاط الاجتماعي»، بل كان يهدف بالدرجة الأولى إلى إرضاء المشاهد الذي لا يشارك في الرقص، بل يجلس ليملي النظر بالمرأة الراقصة التي لا يكاد يستر جسدها شيء. وهكذا أصبح بالمستطاع استخدام الرقص وسيلة للتعبير عن الرؤية الغربية لصفات الشرق: فهو يصور العري الأنثوي والأماكن المترفة المغلقة، والمجوهرات، والتلميحات إلى السحاق والتراخي والعنف الجنسي، أي بكلمة واحدة: أصبح هذا الرقص هو «الشرق».

أظهرت رنا قباني الجوانب السلبية لأدب الرحلات الذي كُتب حول الشرق، وقد ركزت على فكرة العوالم المنقسمة بين الغرب العقلاني والشرق الغرائزي، حيث تحتل فيه النساء الغاويات موقع الصدارة. كشف الكتاب عن تحليل نقدي تأثر -إلى حد كبير- بخلاصات إدوارد سعيد؛ غير أن هذه النزعة النقدية عند قباني تجاه دراسات أدب الرحلات لم تتخذ نمطًا واحدًا؛ أي: إن ثمة خلاصات أخرى لم تستبطن الصورة النمطية أو السلبية لأدب الرحلات، كما برهنت عليها قباني وسعيد. وقد وجه العديد من الكتّاب النقد للمدرسة «السعيدية»؛ فجون سبينسر ديكسن (John Spencer Dixon)، في كتابه (تمثيلات الشرق في أدب الرحلات الإنجليزية والفرنسية من 1798−1882) يُجادلُ سعيدًا، ويختلف معه من الناحية المنهجية، ويُهاجمُ أطروحتَه بأنها انتقائية جدًّا، من حيث اقتصاره، دعمًا لحجّتِه، على أولئك الرحالين ذوي المواقفِ الإمبريالية الظاهرةِ. ويقول بأن النصوص التي يَعْرضُها في أطروحتِه، تثبت أن أدب الرحلات الغربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر «واسع المجال، ويمثل مصر من أوجه عدة، وأن بعضه فقط يظهر التحيّز والإجحاف».


أصوات بديلة

فتح حقل الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية الباب واسعًا أمام الأفكار المولجة في نقد الرؤى الاستعمارية والاستشراقية تجاه النساء في المستعمرات القديمة. لقد ساعد هذا الحقل النسوي على تأطير أصوات بديلة، تمكنت من نقل اللغة الصامتة والمصادرة للنساء المقموعات من قبل الداخل والخارج، أو اللاتي صُنعن طبقًا للمتخيل الأوربي في بعض وجوهه –من دون تعميم- ولا سيما ما يتعلق بتمثلات النساء الشرقيات في أدب الرحلات، حيث نُظر إليهن ضمن صور مختلفة، مثل الغواية والجنس والعزلة والحريم. إن هذه الأنماط التي عكستها –أيضًا- الأدبيات الاستشراقية حول النساء في الشرق، تركت تأثيرات في بعض الكتابات الغربية الحديثة والمعاصرة، وتحديدًا تلك المتعلقة بالحجاب وموقف الإسلام من المرأة، وهذا لا ينفي أن ثمة إصدارات علمية كثيرة، وفي ميادين مختلفة، تحررت من الموروث الثقافي الكولونيالي، فطورت النظرة الغربية تجاه العالم العربي، وتجاه دراسات الإسلام عمومًا، والإسلام والجندر خصوصًا.

إن النزعة الإنقاذية التي تتضح في الخطاب السياسي والإعلامي الأميركي – والأوربي أيضًا، وهذا يتضح في العديد من البرامج الثقافية، والكتب التي تتبنى قضايا «المسلمات المضطهدات» من قبل دينهن ومجتمعهن- الموجهة للنساء في الشرق الأوسط، وهو ما أظهرته العديد من المناسبات، تأثرت إلى حد كبير –كما أشرنا أعلاه- بالأبعاد الثقافية للخطاب الكولونيالي. لقد وضع الرجل الغربي نفسه في موقع الدفاع عن المرأة الشرقية، مستندًا إلى نزعته في مصادرة أصوات اللائي لا صوت لهن من النساء المقموعات، وقد تجلى هذا «الإلحاق الثقافي» في أساليب مختلفة سياسية وحقوقية وقانونية وإنسانية؛ «فخلال العقد الماضي –كما تحاجّ ليلى أبو لغد- قُدمت النساء المسلمات بدءًا من الطفلة اليمنية نجود علي –التي صدر كتاب عنها تحت عنوان «أنا نجود عمري (10) سنوات ومطلقة» (I Am Nujood, Age 10 and Divorced) شاركت في كتابته صحفيات غربيات- إلى ملالا يوسفزي على أنهن ضحايا الحجاب والزواج القسري وجرائم الشرف والاستغلال العنيف؛ لقد طُرِحهن على أنهن يعانين نقصًا في الحقوق بسبب الإسلام. رأى الكاتب الأميركي سام هاريس (Sam Harris) أن قضية ملالا تمثل رمزًا للانتفاضة ضد الإسلام التقليدي، علمًا بأن الإسلام يعطي الحق الكامل للنساء في التعلم. ما زالت الدراسات النسوية ما بعد الكولونيالية في مراحلها الأولى في العالم العربي، وهي تحتاج إلى تطوير على مستوى القضايا والأفكار والمناهج. ليس الهدف منها رفع الأصوات البديلة فحسب، وإنما التأسيس لقاعدة معرفية قادرة على تصويب العديد من القراءات الغربية المغلوطة تجاه المرأة المسلمة عمومًا والشرقية خصوصًا، بمعنى أدق دراسة واقع النساء كما هو خارج الأيديولوجيات وأساليب التعامي عن الحقائق، بما يساعد على حسن الفهم والإدراك. حين تغدو لغة الآخر الجندري المتخيل مكتوبة ومرئية، تصبح أداة فاعلة في صناعة الخطاب المعاكس والبديل.