وثيقة:خطابات الحداثة وإنتاج الجسد
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | إيمان شحاتة |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | اختيار |
اللغة | غير معيّنة |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://www.ikhtyar.org/?page_id=20830
|
تاريخ الاسترجاع |
|
نشر المقال في الدورية الثالثة الصادرة عن اختيار
قد توجد وثائق أخرى مصدرها اختيار
ميشيل فوكو – الضبط والعقاب
“الروح هي سجن الجسد”
أثناء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، شهدت الفلسفة الغربية تغيرا في منظومتها المعرفية أدى إلى ميكنة متزايدة للطبيعة، ونشأة العلم الحديث، وتبني إطارا من العملية، الوضعية، والمنطقية، وسيادة “حداثة بلا سحر.” وفي حين أدت هذه المبادئ الفكرية إلى إسقاط “الروح” والتركيز على مادية الجسد، فإننا نرى تأكيدا للأولى في الاقتباس السابق. ولكن، ما الذي عناه فوكو بالروح؟ وكيف يمكن للجسد أن يسقط في فخ الروح؟ يلقي هذا الاقتباس الضوء على قدرة النقوش الثقافية المحفورة على تشكيل الجسد، والذي يصبح محكوما من خلال عملية تؤكد أهمية الوجه المنتِج لأجهزة الدولة.
بناء على هذه التركيبة يستطلع هذا المقال السبل التي من خلالها تُدرك الأجساد والرغبات وتُحكم بالتركيز على ثنائية الجنسين وتكرارها من خلال الخطاب العلمي، الذي هو وجه غير قابل للتشكيك للحداثة بفعل موضوعيته المسلم بها. ومن ثم بالاعتماد على سياقات وأمثلة مختلفة، يوجه هذا المقال نظره إلى تخلل الفكر العقلاني للجنسانية في الحياة اليومية.
النوع وتأثير بنى وعلاقات السلطة على الخطاب العلمي
بموازاة رسم حدود المكان في سياق نشأة الدول القومية ومحاولاتها للتوسع ومركزة سيطرتها، يصبح الجسد أيضا موضعا لرسم الحدود. تعيير وتصنيف الأجساد وترجمتها إلى ثنائيات مؤطرة وظيفية، يصبح أداة ضرورية لمشروع خلق الذوات القومية. وتصبح هذه العملية طاغية إلى حد الظهور على أنها “طبيعية”. ومن ثم فإن طغيان ثنائية “الجنس” تكشف عن نفسها في حياتنا اليومية وهي متضمنة في سلوك روتيني متسق. فيذَكر كل شخص بصفة مستمرة بكم أن تصنيفي ‘ ذكر’ و’ أنثى’ “جوهريين” ومنفصلين عن بعضهما البعض، كلما ملأ استمارة، ذهب إلى الحمام، أو أحيانا عندما يقف في طابور خدمة في هيئة حكومية. ونحن نرى دائما عديدا من المدونين المدافعين عن العدالة يتبنون خطاب النسوية الليبرالية السائد في محاولة لتعليم متابعيهم الفرق بين الجنس و الجنوسة، بقولهم “الجنوسة هي مُنشأ اجتماعي أما الجنس فهو بيولوجي”.
كما يقترح أحد التعريفات “يشير الجنس إلى اختلاف بيولوجي؛ الكروموسومات، التركيب الهرموني، الأعضاء الجنسية الداخلية والخارجية”. ويمكننا أن نرى هذا التعريف وهو يظهر واقعيا وموضوعيا بحيث يصور ‘الجنس’ على أنه سابق للخطاب. ولكن، إلى أي حد يمكننا القول بأن ‘الجنس’ هو قبل-خطابي؟ كما تقترح جوديث باتلر في كتابها ورطة الجنوسة فإن تصوير ‘الجنس’ على أنه طبيعي هو منتج لخطاب الجنوسة في سياق علاقات السلطة. فثنائية وتأطيرية ‘الجنس’ تُطبّع وتُحفظ من خلال استخدام خطاب علمي وضعي. فالخطاب العلمي قد قُبل على نطاق واسع بوصفه لغة ‘محايدة’ وموضوعية تصف “حقيقة الأشياء”. ولكن السؤال “ما هو الحقيقي؟” مشحون سياسيا ويمكن الجدل بأنه خرافة مستمرة تشرعن الفاعلية الجنسية الذكرية و الغيرية الجنسانية.
الأنثروبولوجية إيميلي مارتن في “البويضة والحيوان المنوي: كيف أنشأ العلم قصة رومانسية على أساس قواعد الذكر-الأنثى التقليدية”، تدلف إلى الفهم الثقافي للبويضة وللحيوان المنوي الذي تدعوه “قصة علمية خرافية.” وبفحص اللغة العلمية المستخدمة في الكتب الدراسية للبيولوجيا، تلاحظ مارتن كيف أن البويضة تُرى وتُفهم بوصفها “سلبية،” تنتظر أن ينقذها الحيوان المنوي العفي والقوي، والذي ينظر إليه على أنه “في مهمة.” ومن ثم، فإننا نرى هنا كيف أن اللغة العلمية، أبعد ما تكون عن الموضوعية والحياد، هي مشحونة بمفاهيم ثقافية مشكلة مسبقا عن “ الأنوثة” و” الذكورة.”
ومن ثم فمن المهم أن نسأل أي خطابات حديثة أخرى –لصالح تعريف ماهية الحقيقة- كانت معنية بجعل هذه الثنائية الجسدية حقيقة. ويقودنا هذا إلى النظر في التضافر بين العلم والدين في عملية إنتاج “الطبيعة البشرية.”
الجنسانية، الغائية، والتقاطعية بين الخطاب العلمي والديني في تصور الجسد
على الرغم من المفاهيم الغربية التي تصور الديني والعلمي/العقلاني على أنهما نقيضان، في سياقات مثل مفهوم فيبر “نزع الحداثة للسحر عن العالم”، فإننا نرى خطابات تعكس التقاطعية بين الاثنين في إطار من بنى السلطة. ومن ثم فإن السلطات الدينية والشخصيات العامة ينتحلون بصفة دائمة الخطابات العلمية والعقلانية الحديثة لفرض الثنائية الجنسية. فينظر إلى الانجذاب إلى الجنس الآخر على أنه شيء “باطني” متضمن في إطار غائي يشار إليه بوصفه “الفطرة” (الطبيعة البشرية). وهذا واضح في الاقتباس التالي عن الشيخ القرضاوي في حوار تليفزيوني:
انظر، إن الله عز وجل قد خلق الإنسان من ذكر وأنثى … فالانجذاب الطبيعي هو بين الجنسين، لأن القرآن يذكر أن هذا الكون أسس على الازدواج، وليس على المثلية. مبدأ الزوجية هو مبدأ هذا الكون… هذا مبني على سلوك الموجب والسالب، إلى حد أنه مبدأ أساسي للوجود حتى في الذرات. فالذرة مكونة من إلكترون وبروتون، أليست كذلك؟1
كما نرى في الاقتباس السابق للقرضاوي، فالازدواج التبسيطي للجنس يمدد ويعقلن بوصفه “نظام الكون” كما شاء الله أن يكون. ويفهم الجسد البشري على أنه مرتبط بالقطبية بين “الذكر” و”الأنثى” والتي تخضع لغاية وظيفية “عظمى”: التكاثر. ومن ثم، وفي هذا السياق، يقدم الانجذاب إلى الجنس الآخر كما لو كان “بديهيا،” ظاهرة علمية لا جدال فيها.
تصور الجنسانية دائما في الخطاب الديني السائد على أنها تعمل في إطار مقيد بالوظيفية والغائية. ومن ثم، تبرر الثنائيات المنشأة على الأساس الاختزالي بأن للجنسانية غرض محدد هو “تعمير الكون.” وأي رغبات تحيد عن هذا الترتيب الوظيفي تُظهر على أنها “غير طبيعية/شاذة” وضد النظام الأساسي المحدد سلفا.
ولكن إلى أي حد يظهر الخطاب الإسلامي الفخور بكونه “تقدميا” أنماطا بديلة في فهم الجنسانية والجسد؟
في سلسلته التليفزيونية “الطريق الصح” يشرح معز مسعدو مصفوفة الغيرية الجنسية بادعاء أن تركيبة كل من جسدي الذكر والأنثى تجعل الجماع المثلي “غير منطقي.” إضافة إلى ذلك في حلقة له بعنوان “كيف نتعامل مع المثلية والمثليين” يحاول مواجهة الخطاب العلمي الذي يطور أبحاثا حول إمكانية وجود أساس جيني للمثلية. وفيها تُطبّع الرغبة الغيرية وتصبح معيارية عندما يدعي أنه حتى إذا كانت المثلية “جينية”، فسوف تكون علة جينية، ومن ثم تصبح “ابتلاءً” من الله. وبهذا المعنى نرى هنا تعبئة مختلفة لنفس الأسس الغائية المصاغة من خلال الخطاب الديني السائد.
من خلال الأمثلة السابقة نرى كيف تصبح الأجساد أدوات للتكاثر، ومن ثم تتجسد العقلانية الأداتية أكثر في سياق تديني. ولكن، بم ينبئنا الإصرار على استخدام لغة علمية لتبرير دعاوى دينية؟ أي تضمينات توجد خلف عملية عقلنة الدين هذه؟ هذا الانتحال والاستعمال للغة علمية يشهد على قدسيتها، وسيادة حيدتها وسلطتها على تشكيل ما يرى على أنه طبيعي.
تشفير الرغبة في ظل حداثة إيقاعية
رأينا في القسم السابق كيف تُخضع الجنسانية لخطاب الوظيفية، ولكن كيف يمكننا القول بأن الرغبة الجنسية تُشكل بواسطة إطار للقياسية والعقلانية؟
تماما كما تُشفر الأجساد في ثنائيات، يعكس الانجذاب الجنسي أيضا تمديدا لعملية التشفير هذه. وأفضل مثال لهذه الممارسة يُقدم في إنشاء وإملاء الفيتيش،2 والحادث في سياق، كما تشير جوديث باتلر، تُدمج فيه الرغبة وتُختزل في أجزاء بعينها من الجسد مثل الفرج، القضيب، الأرداف، والنهود (1990: 71). وتصبح أجزاء الجسد هذه أدوات وعلامات قياسية للرغبة الجنسية ومن ثم تُكون وتُشكل الفيتيش. وتعقلن صور الفيتيش هذه من خلال خطاب علمي تطوري وترى على أنها طبيعية. فعلى سبيل المثال، حاول بعض البيولوجيين التطوريين عقلنة فيتيش النهود باقتراح أن الدهن المختزن في النهد الممتلئ يؤشر للرجل أن المرأة تتمتع بصحة/قوام جيد وهي مستعدة لأن تحبل بالأطفال وتربيهم.
في سياق المدن المُشكّلة بخطابات الحداثة، لا تفلت الرغبة الجنسية من هذه الإيقاعات. في كتابه “التحليل الإيقاعي”، يناقش عالم الاجتماعي الماركسي هنري لوفيفر كيف أن إنتاج الفراغ يقع من خلال إيقاعات حاكمة. وكما نرى من خلال لوفيفر، فإن الطبيعة التكرارية للإيقاعات تنتج الاختلافات (2004: 16)3. كيف يمكن تطبيق ذلك على الأجساد؟ يصبح هذا واضحا إذا ما نظرنا إلى الثنائية المنقوشة على الجسد على أنها اختلاف أُنتج من خلال التكرار.
في خضم سيادة السلعة، يكون تحول الأجساد إلى أدوات والتشفير الاختزالي للرغبات نتائج لإيقاع سائد للعقلانية. في هذا السياق، تُعطى تعددية وتنوع الرغبة الجنسية بنية مقيِدة وأداتية لتعمل في إطارها. ويُرى إيقاع العقلانية وهو يشكل الرغبة الجنسية على سبيل المثال في الرواية الشهوانية الشعبية “50 ظلا للرمادي”، حيث تأخذ السادوماسوشية صورة تبادل تجاري، حيث ينبغي للطرفين أن يوقعا عقدا وأن يقرئا شروط الاتفاق. ومن ثم فإن الطرف “الخاضع” قد طلب منه أن يراجع العقد ويشير إلى الأفعال والأدوات التي ترغب في تجربتها. ويأخذ التحكم باللذة صورته من خلال وجود قائمة شاملة للأدوات والأفعال الجنسية مطالبة الأشخاص باختيار الخيارات التي قد تُعظم قيمتهم الاستعمالية.
يظهر تحويل الأجساد إلى أدوات بشكل أكبر من خلال مقال أخير بعنوان “تلطيف الشعور” كتبته أليشيا إلر، حيث “تِندر4” –وفق آليات عقلانية- يعيد تأكيد هذا الإنتاج للاختلاف من خلال “تسريع اتخاذ القرار المميكن، الذي يحولنا إلى كائنات ثنائية يمكنها تخطي الأسئلة والمشاعر العميقة.” وبهذا المعنى تصبح الأجساد أدوات للرغبة في سياق تصبح فيه الرغبة الجنسية خاضعة للتحكم فيها. ويشكل التكرار الحميمية في إيقاع دوراني تذكره إلر في مقالها “مِل يمينا، ارتبط، واعد، مارس الجنس، فك الارتباط، أعد الارتباط، أعد.”
كنتيجة، بالنظر إلى الجسد يمكننا ملاحظة أنه منتج لتفاعل خطابات متعدد للحداثة تلقي الضوء على علاقات السلطة. فثنائية الجنس تُنتج ويحافظ عليها وتعاير، من خلال عملية عقلانية ووظيفية. والخطاب العلمي المشحون بالمصالح السياسية يستخدم لشرعنة هذا الإنشاء الخطابي. وظيفية هذه الثنائية هي أيضا متضمنة في الخطاب الديني، الذي ينتحل اللغة العلمية الحديثة ليملي “الحقيقة.” وتصبح الأوامر الدينية مشكلة بالفكر العقلاني، وتسعى بذلك لشرعنة الرغبة الجنسية الغيرية باستخدام حجة ما هو “بديهي.” وبموازاة عملية تعيير الأجساد، تعقلن الرغبة أكثر وتُمنهج من خلال التكرار. ولكن العديد من الأسئلة تنشأ في هذا السياق، بصفة خاصة حول فهم أجسادنا في إطار هذه المصفوفات التي تتحكم فيها بشكل منهجي.
حواشي
1� Kugle, Scott Siraj al-Haqq. Homosexuality in Islam: Critical reflection on gay, lesbian, and transgender Muslims. Oneworld Publications, 2010.
2� تعريب لـ Fetish والمقصود هو تكثف الرغبة الجنسية في عضو/جزء من موضوعها الأصلي أو في غرض مادي متعلق به إلى حد اختزال موضوع الرغبة في هذا العضو/الجزء أو الغرض واستبداله به.
3� Lefebvre, Henri. Rhythmanalysis: Space, time and everyday life. A&C Black, 2004.
4� تطبيق هاتفي للتعارف واللقاءات الجنسية Tinder