وثيقة:أين نقرأ عن قضايانا بلغتنا إن لم نفكر فيها ونكتب عنها بأنفسنا
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | فرح برقاوي |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | جيم |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://jeem.me/إنترنت/فرح-برقاوي/أين-نقرأ-عن-قضايانا-بلغتنا-إن-لم-نفكر-فيها-ونكتب-عنها-بأنفسنا
|
تاريخ الاسترجاع | |
نسخة أرشيفية | http://archive.is/KbJcK
|
موقع جيم Jeem.me محجوب حاليًا في مصر، لذلك يمكنكم الاطلاع على النسخة الأرشيفية
قد توجد وثائق أخرى مصدرها جيم
منذ أسبوع طرح أحدهم سؤالا ضمن مجموعة فيسبوك مغلقة تجمع المهتمات والمهتمين بمنصة "ويكي الجندر"، مساحة نحاول من خلالها إنتاج وتطوير وتوثيق معرفة باللغة العربية عن الجندر (النوع الاجتماعي) والنسوية والجنسانية وغيرها من القضايا التي تهمنا. السؤال كان حول كيفية ترجمة “gender non-conforming“ إلى العربية. تعددت المقترحات من عضوات وأعضاء المجموعة؛ الاقتراح الأول كان ترجمة مؤسسة المرأة والذاكرة للمصطلح على أنه “غير منصاع/ة لتقسيم الهويات الجندرية النمطية”، والاقتراح الثاني والمستخدم من قبل عدد من الجهات كان “غير متسق/ة الهوية الجندرية". ثم علّق أحد الأعضاء - ومعه حق- بأن الترجمتين ثقيلتين وأننا بحاجة إلى ترجمة أوضح وأخف. وكان رأيي أن ترجمة “غير متسق/ة الهوية الجندرية” إشكالية حيث تعيد ترسيخ التنميط الجندري الثنائي للجنسين البيولوجيين وتصنّف من يخرج أو تخرج عنه بـ”عدم الاتساق”، بينما تعبر “غير منصاع” أو “غير خاضع” عن رفض هذا التنميط. من بعدها جاء مقترحان لقيا استحسانًا أكبر وهما “غير منصاع جندريًا” و”غير خاضع للتنميط الجندري” وهما أوضح وربما أخف.
تساؤلٌ آخر طُرح، في أحد الاجتماعات الأسبوعية لعضوات ويكي الجندر، كان عن ترجمة “Heteronormativity” والتي تتعدد ترجماتها أيضًا من “تطبيع المغايرة الجنسية” إلى “المعيارية على أساس المغايرة الجنسية” و”الغيرية البحتة“. توصلت زميلاتي بعد نقاش طويل إلى استحسان استخدام “المعيارية على أساس المغايرة الجنسية” لما يحمله من دقة في وصف اعتبار المغايرة الجنسية هي المعيار السليم للميول والتوجهات الجنسية والانطلاق من ذلك لكل ما يحيد عن قطب المغايرة الجنسية بأنه خارج عن المعيار الصائب.
هذا النوع من التساؤلات والتحديات يتكرر يوميًا في عملي مع زميلاتي وزملائي على “ويكي الجندر”، ولا يقتصر الأمر على الترجمة أو التعريفات. فمنذ الأيام الأولى ونحن نصيغ بشكل جماعي خطوطنا التحريرية، توقفنا مثلا أمام جندرة اللغة وكيف نكتب ونترجم على الويكي. وبعد مناقشات في أكثر من اجتماع ومعتكف عمل اتفقنا - حتى الآن - على تفضيل استخدام المؤنث والمذكر معًا، وعلى تبكير المؤنث على المذكر كلما ظهرا معًا في تحدٍ للسائد، مدركات أن المجهود اللغوي ما يزال قاصرًا لتكريسه الثنائيات الجندرية، غير أنه كان الحل "المؤقت" الذي اخترناه بعد نقاشات علمًا بأن سياساتنا التحريرية هي نهر جارٍ متغير بتغيّر معرفتنا ومناقشاتنا وليست بغرفة تحكّم مغلقة.
حين بدأنا مشروع الويكي كنا مشغولات أولا بتجميع معلومات عن المنظمات والمجموعات المهتمة بمجال الجندر وقضايا النساء للمساعدة في الوصول إليهم والتشبيك بينهم، ثم بدأنا نوثق ونؤرشف الإنتاج المعرفي العربي لبعض تلك المنظمات والمجموعات النسوية في منطقتنا. لكن شيئًا فشيئًا اتسعت أسئلتنا واحتياجاتنا كمهتمات ومهتمين بالنسوية والجندر والجنسانية، ولم نجد دومًا إجابات عن تلك الأسئلة والاحتياجات باللغة العربية ومن منظور نسوي.
وهكذا، وكإضافة إلى مختلف المحاولات النسوية الشقيقة القائمة، سواء في شكل مجموعات عمل وقراءة ونقاش أو مجلات وإصدارات وترجمات، قررنا تطوير “ويكي الجندر” باستخدام منصة “الويكي" لتكون مساحة تشاركية لا مركزية دائمة التطور لإنتاج محتوى مفتوح باللغة العربية. نبحث من خلال هذه المساحة في أسئلتنا، ونكتب عن المواضيع والمفاهيم والشخصيات والحوادث والحملات التي تهمنا، ونقدم عرضًا ونقدًا لكتب وأفلام وأغاني وأعمال فنية وأدبية أخرى، ونترجم أحيانًا، ونوثق ما ينتجه غيرنا باللغة العربية في شكل أرشيف يضم دراسات وأوراق بحثية ومقالات وكاريكاتيرات وصور وغيرها.
ما زالت المعرفة العامة والأكاديمية المتعلقة بالجنسانية والجندر، من ابتكار المصطلحات إلى مناقشة القضايا والتنظير لها، تُنتج بشكل مكثف بلغات غير العربية وتحديدًا بالإنجليزية، حتى من قبل نسويات ونسويين يتحدثون العربية ويعيشون في المنطقة. يعود الأمر من جهة إلى تمركز دراسات الجندر والنساء في الجامعات التي تقدم المعرفة باللغات الأجنبية وتحث الطالبات والطلبة على إنتاجها بتلك اللغات؛ بحيث تظل الطالبة ثم الخريجة ثم الباحثة والكاتبة عالقة في مدارات اللغة الإنجليزية وكلماتها وسياقاتها، فيصبح التعبير عن قضايا تمسّنا وتمس حياتنا اليومية أسهل وأعمق بالإنجليزية، وتبقى اللغة العربية سلحفاة بطيئة تدفعها للأمام بين الحين والآخر دراسات وترجمات ومحاولات أكاديمية من ناشطات وباحثات ومجموعات ومؤسسات نسوية.
من جهة أخرى، فإن الكتابة بالعربية عن قضايا وتقاطعيات الجندر والجنسانية والجسد ما تزال تشكّل تحدٍ كبير في حد ذاته. فالكثير منا غير معتادات ومعتادين على التفكير في جنسانيتنا أصلًا، مكتفيات ومكتفين بما لُقّناه عن أجسادنا ورغباتنا، فما بالكنّ الكتابة عنها! معظمنا جاء إلى هذا العالم حاملين علاماتٍ ظاهرية تدل على جنسهم البيولوجي (إما أنثى أو ذكر) ثم مُنحنا تلقائيًا نوعًا اجتماعيًا (جندرًا) (إما امرأة أو رجل)، وحملنا بالتالي مجموعة من التوقعات المجتمعية بخصوص دورها الاجتماعي وميله الجنسي وجميع السلوكيات والخيالات والرغبات المصاحبة لهذا النوع والميل المفترض. بهذا، ما تزال عملية التفكير الذاتي أولا والمجتمعي ثانيًا في أمور كالجنسانية والجسد والرضائية في مرحلة مبكرة، وما تزال معها النقاشات محدودة ومغلقة، والتابوهات المجتمعية كثيرة، سواء على مستوى الفكرة أو اللغة.
من هنا، فإن التشاركية التي اخترناها في الويكي أساسها وعينا بأنه في هذه المرحلة، كل مساهمة نسوية في بناء معرفتنا بالعربية هي مهمة، وكل مساهمة جديدة هي مطلوبة ومرحّب بها، وأن هناك فرصة ثمينة في تنوع خلفياتنا وأعمارنا وخبراتنا وممارساتنا ومعتقداتنا، وأن مساهماتنا جميعًا تراكم على بعضها البعض لصنع رواياتنا عن التسميات التي نفضلها، والمواضيع التي تمسنا، والقضايا والحوادث التي تدخل في تاريخ نضالنا وغيرها.
وكنتيجة لحداثة وندرة الإنتاج المعرفي العربي في قضايا الجنسانية والجندر، ما زال لدينا ولدى غيرنا اعتماد كبير على ترجمة المصطلحات، ما يُنتج عبارات غير واضحة وصعبة وثقيلة أحيانًا كما ظهر في التساؤلات أعلاه، وهذا مثار نقاش دائم أثناء عملنا على "ويكي الجندر"، متى نترجم ومتى نؤلف ومن أين نأتي بالمعرفة إن لم نجد لها أصلا بلغتنا بالرغم من أصالة التجربة النسوية والجنسانية في حياتنا؟ أو أننا ببساطة، مصابات ومصابون بالجمود كما هي لغتنا؛ نجد صعوبة وغرابة في التكيّف مع تركيبات جديدة للكلمات، ونبحث دومًا عما هو مختصر وخفيف وواضح. يُتبادر لي تساؤل هنا: هل تبدو جميع هذه المصطلحات خفيفة وواضحة بالإنجليزية حقًا؟ أم أننا ألِفنا رؤيتها وقراءتها وقبلناها كما هي؟
لكن برغم صعوبة عملية ترجمة بعض المفاهيم أو التأصيل لها بالعربية، إلا أنها عملية ديناميكية متغيرة تلائم طبيعة "الويكي" القائمة على البحث المستمر والعمل الجماعي. المقالات والصفحات على الويكي ليست جامدة كما المقالات الصحفية والإصدارات الموقّعة بأسماء مؤلفيها، بل تتغير كلما تجددت المعرفة أو وصلنا إلى توافقات جديدة. في البدء مثلا عبرنا عن مفهوم "الترانس Transgender" بالتحوّل الجندري، وبعد فترة تناقشنا بيننا ومع جهات نسوية أخرى لنعتمد استخدام مصطلح "عبور جندري"، لخلّوه من معيارية الثنائية الجندرية وفكرة "التحوّل" التي توحي بفعل مستجد للتغيير من حال طبيعي إلى حال آخر بدلا من النظر إلى الهويات الجندرية على أنها طيف واسع وإلى الأشخاص على أنهم الممثل الأول والأخير لهوياتهم الجندرية، وبهذا فهم يعبرون إلى ما يمثلّهم بشكل أصدق.
كذلك وفي محاولة منا لتجميع ما أنتجته جهات متعددة من تعريفات جندرية وجنسانية، وللحث على التفكير في الاختيارات المختلفة على طولها وقصرها ووضوحها وتعقيدها، أنشأنا قاموس مصطلحات الجندر والجنسانية الذي يعرض تسميات المصطلحات بحسب عدة مصادر تعمل وتنتج باللغة العربية. وككل المحتوى الذي ننتجه، فهذا القاموس نفسه ليس جامدًا، ويمكن تحديثه واقتطاع أجزاءٍ منه أو إضافتها أو زيادة المصادر المساهمة فيه في أي وقت.
إن رحلة البحث والتفكير والتجريب بالعربية تراكمية، وكما نبذل جميعًا - نحن المهتمات والمهتمون - مجهودات طويلة ومنهكة للتوصل إلى حلول وسط أحيًانا، هناك محاولات مبشّرة نجحت في الوصول إلى كلمات ونسيج عربي لمصطلحات تهمنا، ما يجعل جميع مجهوداتنا ذات قيمة طالما أننا نبذلها حقًا، كما حدث مع مصطلح “الجنسانية” باللغة العربية ومرادفه الإنجليزي “Sexuality”، وهي كما يعرفها منتدى الجنسانية من فلسطين "أحد جوانب الإنسانية الملازمة للإنسان مدى الحياة. وهي تجمع ما بين الجنس، الهوية النوع-اجتماعية، الدور، التوجه الجنسي، الإروتيسية أو الإثارة الجنسية، المتعة، الحميمية، والإنجاب. يعبر عن الجنسانية في أفكار، خيالات، رغبات، معتقدات، مواقف، قيم، تصرفات، ممارسات، أدوار وعلاقات". في هذه الحالة، كلمة “جنسانية" التي اختارها المنتدى، نجحت في معادلة الخفة والمنطقية، فهي اجتماع كلمة “جنس” (بمعنييها في العربية: الجنس البيولوجي والعملية الجنسية) وبين كلمة “إنسانية” التي تعيدنا إلى جوانب يختبرها الإنسان من أفكار ومعتقدات وخيالات وقيم وممارسات وعلاقات وجسد، كما تذكرنا بأن هناك حقوق مرتبطة بالإنسانية.
أعتقد أن التحدي الذي يواجهنا كمنتجات ومنتجين للمعرفة النسوية، في ويكي الجندر وفي غيرها من المنصات، يكمن في أن ننفتح أكثر على التجربة بكاملها، من بدء التفكير بجنسانيتنا الفردية والتعبير عنها إلى التفكير في كيفية فتح النقاش واستمراره حول قضايا الجندر والجنسانية والجسد في مجتمعاتنا. أن نجرب بأيدينا مرة بعد مرة إنتاج هذه المعرفة المتعلقة بالجندر والجنسانية والجسد والنسوية بالعربية، وأن لا ننتظر فقط الأكاديميا لتوجّه خطانا.
نحن، كنسويات ونسويين من كافة الأطياف؛ مثليات ومثليين ومغايرات ومغايرين وغير خاضعات للتنميط الجندري، نستطيع التعبير عن تجاربنا وأفكارنا وأسئلتنا وأزماتنا سواء بشكل مكتوب أو بصري أو مسموع، ونستطيع مع الإصرار والإنتاج المستمر كسر تابوهات اللغة العربية وجمودها. وكما نجحت الحملات والكتابات المكثفة خلال السنوات العشرة الماضية في تعميم استخدام كلمة “التحرّش الجنسي” ومساعدة الكثيرات في التعبير عن أنفسهن بلا خوف فيما يتعرّضن له من تحرش واعتداءات، فإن إنتاجنا المعرفي المستمر على تعدد أنواعه بإمكانه نشر وتعميم وتعميق الفهم بقضايانا النسوية والجندرية والجنسانية باستخدام لغتنا نحن وما يناسبنا نحن.