وثيقة:وراء الابتسامات الصفراء
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | هبة عفيفي |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | مدى مصر |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://www.madamasr.com/ar/2018/03/08/feature/مجتمع/وراء-الابتسامات-الصفراء/
|
تاريخ الاسترجاع |
|
قد توجد وثائق أخرى مصدرها مدى مصر
بدأ الأمر بهجوم ووصلات سَبّ بين أشخاص قليلين على فيسبوك، يتحدثون بغموض وبدون ذِكر أسماء عن واقعة تحرش داخل «المجتمع المدني»، وصلت الأحاديث لمكتبنا، وتناقش بعض مَن وصلهم الخبر همسًا.
في أحد المرات سأل شخص عمَن يدور حوله الحديث، فسكت الجميع ونظروا لبعضهم البعض غير متأكدين ما إذا كان البوح مسموحًا، حتى أدرك أحدهم غرابة الموقف ونطق بالأسماء.
تدرج الأمر بالشكل نفسه على فيسبوك، فتعمَّد البعض كسر الغموض، وذلك بعد أسابيع طويلة من الإرتباك، وقاموا بتوضيح الأمر: أرسلت إحدى العاملات بالمجتمع المدني رسالة إلكترونية لمجموعة من العاملات أو المختلطات بمؤسساته، في أكتوبر الماضي، تحذرهن تحت عنوان: «متحرشون داخل المجتمع المدني».
روت السيدة، في رسالتها، موقفين وهما، بالالتزام بروايتها ووصفها للأحداث؛ في عام 2014، بعد إصابتها بالإعياء من جراء الكحول في جلسة عمل مع المحامي الحقوقي محمود بلال وآخرين، يصطحبها الزملاء إلى منزل بلال، ثم إلى سريره، فتستمر في التقيؤ وتفقد الوعي، ثم يوقظها، ويبدأ في اغتصابها. أما الموقف الثاني، فيخص المحامي الحقوقي والمرشح الرئاسي السابق خالد علي، وسمَّت هذه التجربة بـ «إحدى التجارب الأكثر تقززًا» التي تعرّضت لها في حياتها.
يدعوها علي في 2015، والذي تجمعه بها «علاقة عمل ودية» إلى مكتبه. افترضت السيدة أنه سيحدثها عن العمل، وحينما وصلت وجدت الجو «غريبًا وسابق الترتيب». يعرض عليها شُرب البيرة، ثم يدخل ليستحم، ويعود بعد 25 دقيقة، فيسألها عن علاقات عاطفية سابقة، ثم يعرض عليها المبيت لأن الوقت تأخّر، فتعتذر وتذهب.
الاتهامات لم تثبتها لجنة التحقيق التي كونها حزب «العيش والحرية» (تحت التأسيس)، الذي استقال علي مؤخرًا من منصب وكيل مؤسسيه، وكان بلال ينتمي إليه في وقت سابق كذلك. وأشارت إلى حوار حول «التحرش بالمجال الخاص تحت مظلة مؤسسة»، و تطرق، بما أن التحرش في هذه الحالة يحدث بين أشخاص لديهم سابق معرفة ببعض، الى إشكاليات الرضائية وما يرقى لفعل التحرش.
تفاوتت الآراء بشكل لافت في المجتمع الضيق الذي تركز فيه الحوار -وهو المجتمع التقدمي المهتم بالمجال العام- والذي يربطه من الأفكار والمبادئ والاتجاهات السياسية أكثر بكثير مما يُفرِقه، بشكل جعل ما يعتبره البعض بديهيات، هو هراء بالنسبة للبعض الآخر. مما يدّل على أن النقاش حول التحرش الجنسي يدخل حيزًا جديدًا، قد يكون البعض لم يتطرق إليه من قبل حتى مع نفسه.
كنتُ مَن الذين وجدوا أنفسهم في مكان بين فريقين متناقضين في موقفهما من الجدل الدائر. ما أعرفه يقينًا فقط، هو أنني كنتُ أشعر بانفراجة في صدري لخروج هذه الأسئلة إلى العلن، ووجدت في غالبية مَن تحدثت معهم الارتباك نفسه من مواقفنا غير المثالية، والتي كانت خليطًا بين مبادئ نسوية، وأفكار مترسبة من جراء التكيف مع الواقع.
من أين يبدأ التحرش؟
كان أول سؤال يخص قصة خالد علي: إذا صحت القصة، ما الخطأ الذي اقترفه تحديدًا؟
لم تحكِ السيدة سوى عن تصرفه بشكل حميمي رغم أن علاقتهما كانت مهنية فحسب. عندما يلمس غريب جسم امرأة في الشارع، يتفق الجميع على كونه تحرشًا، ولكن عندما يتعلق الأمر بحدود التعامل بين شخصين تجمعهما زمالة، وقد تكون تطورت إلى صداقة، فيكون الارتباك.
قد تكون بعض الأفعال التي ترقى للتحرش الجنسي في أماكن العمل أو الدراسة أو غيرها من المؤسسات، ليست ما يقفز لذهن الكثيرين عندما يفكرون في التحرش.
معايير التحرش الجنسي متفق عليها إلى حد ما، وذلك في المؤسسات التي تتبنى سياسة لمناهضتها.
كمثال، العبارة الرئيسية في تعريف مفوضية فرص العمل المتساوية الأمريكية للتحرش الجنسي في مكان العمل هي أنه «تصرف غير مرحب به». وتوضح: «غير مرحب به لا يعني غير طوعي. يعتبر التصرف الجنسي غير مرحب به عندما يعتبره مَن تعرض له غير مرحب به».
يجعل هذا التعريف الحكم نسبي، ولكن مع وضوح المعيار. توضح الباحثة والناشطة النسوية سالي ذهني هذا المبدأ أكثر، وتقول إن لجنة تحقيق قد تعتبر فعل تحرش إذا اعتبره مَن تعرض له كذلك، وقد تُبرئ الفعل نفسه في حالة عدم انزعاج متلقيه.
تعدّد المفوضية أنواع التحرش، بجانب البديهي بداية من الانتهاك الجسدي أو العروض الجنسية الصريحة، تتضمن القائمة: الضغط غير المرغوب فيه للمواعدة، النظرات ذات الإيحاء الجنسي غير المرغوب فيها، الإشارة لسيدة بـ «حبيبتي» أو «مزة»، الأسئلة الخاصة عن الحياة الشخصية أو الاجتماعية، التعليقات ذات الطابع الجنسي على مظهر أو ملابس الشخص، الهدايا الشخصية، الحَوم حول الشخص، والغمز، والتحديق.
تحتوي القائمة على 25 نوعًا من التحرش الجنسي داخل أماكن العمل على سبيل المثال لا الحصر. يكمن الارتباك في أن الجزء الأكبر من أنواع التحرش في أماكن العمل يكون في أحيان كثيرة تصرفًا مقبولًا بين زملاء تربطهم علاقات صداقة، إلا أنه في أحيان أخرى، وتحديدًا بسبب ضبابيته، يكون من أنواع التحرش التي تجد النساء الصعوبة الأكبر في التصدي لها، ولا تجد لها ردًا سوى الإبتسامة الصفراء.
لم يكن البحث عن نساء تعرضن لأشكال من التحرش في سياق مؤسسي صعبًا. ما إن قررت البحث حتى وجدت ست حالات دون أن أبذل مجهودًا.
من ذاكرتي، استعيد تجربة تعرّضتُ لها، وتجربتين مرتا بهما صديقتان، ثم استدير لأسأل في الغرفة التي يتواجد فيها ثلاث سيدات، تقر إحداهن أنها تعرضت لذلك، وأُخرى تروي لي عن صديقة كان مديرها يُلاحقها، وثالثة تحكي عن أستاذ بجامعتها معروف عنه التحرش بالطالبات، فيما لا يزال بمنصبه.
لم تبلغ أي منّا عما تعرضت له، جميعنا كان ردنا؛ ابتسامة صفراء.
على مدى 15 عامًا عملت فيها مُنى* ذات الـ 39 عامًا في شركات مصرية، وأُخرى عالمية تتضمن قوانين داخلية للتبليغ عن الانتهاكات بين الموظفين، كانت متأكدة أنها أولى المتضررين في حال إذا اشتكت.
اكتسبت عادة تغطية منطقة الصدر باستخدام شال بعدما صمم زميل لها طوال حديثهما معًا أن ينظر لصدرها لا لعينيها.
تقول إن تأثير هذا الموقف في مكان يفترض فيه درجة من الأمان كان أقوى من مواقف أُخرى من التحرش تتعرّض لها في الشارع، فعلى حد قولها: «انتي.. وانتي ماشية ف الشارع بتكوني متوقعة تتعرضي لنسبة تحرش. لكن في مكان العمل الموضوع بيبقى مُقزز جدًا».
لا تتوفر الكثير من المعلومات عن التحرش في المجال الخاص في مصر. ولكن دراسات قامت بها مؤسسة «المرأة الجديدة» تدعم الانطباع بانتشاره.
كان البحث الأخير في 2009 على عينة من 58 سيدة في ثمان محافظات، تتفاوت أعمارهن وتتضمنن بائعات، عاملات بمصانع، موظفات حكوميات، وأُخريات بمجالات مختلفة في القطاع الخاص.
جاءت نتيجة التقرير أن غالبية المشاركات تعرّضن لتحرش في أماكن العمل، وتتدرج الحالات من نظرات ذات إيحاء جنسي إلى ملامسة الجسد.
ثمن البوح
بجانب كونها منطقة جديدة يبدأ فيها الحوار ودرجة الوعي من نقطة الصفر، فالطبيعة الخاصة للتحرش داخل المؤسسات يجعلها معركة أكثر صعوبة من حالات حدوثه في المجال العام. فضلًا عما تضفيه طبقات من التعقيد.
بعض أنواع التحرش في المجال الخاص لا يكون فجًا، وهو ما يربك المتعرّضة له، فضلًا عن المؤسسة التي تعمل بها. كما يصبح ثمن البوح بالتحرش أكثر كُلفة بالنسبة للاثنين.
تظهر مُنى نزعة التكيف والنأي عن النفس من اتهامات التهويل، وهي تتوقف عدة مرات أثناء حكي المواقف لتؤكد «حاجات عبيطة يعني»، وتوضح: «مش حاجات كبيرة أوي».
تتعلم أن تصَدّ زملاءها بحزم بدون أن تثير ضجة. بالرغم من عملها في شركات عالمية بها قواعد للتبليغ عن الانتهاكات وإجراءات عقابية، إلا أنها لا تثق أبدًا في سير الأحداث في صالحها.
تخشى منى أن تقوم الشركة بفصل الشاكي والشاكية درءًا للمشاكل.
عندما يأتي التحرش في سياق «الهزار» في مكان يجمع بين العاملين درجة من الصداقة أيضًا يكون من الصعب على الموظفة تطبيق خطوطها الحمراء. فكما توضح مُنى: «مش عايزة أحط نفسي في موقف إني أقول وحد يقولّي ماعملتش حاجة». كما يوجد قلق لا يضعه الكثيرون مَن الذين يستغربون تردد النساء في التبليغ في الحُسبان وهو قلق من الوصم المجتمعي أن هذه المرأة «صعبة»، «مجنونة»، «غير اجتماعية».
في مرة، اتخذت مُنى موقفًا جديًا، ونهرت زميلها، فقط عندما تطوّر التحرش ليكون جسديًا في أول عمل لها، كان عمرها 20 عامًا، وقتها، خبطها زميل على مؤخرتها وقال لها: «مؤخرتك جميلة».
أزمة التحرش داخل المؤسسات ليست محصورة في مصر. قد يكون فشل المؤسسات والمجتمعات التي يجمعها العمل في مجال واحد في خلق مساحة آمنة للنساء أكثر الاكتشافات الصادمة التي نتجت عن حركة metoo# العالمية التي حرّكت موجة من بلاغات التحرش حول العالم. بعدما كان الاكتشاف الأول هو أن صناعة الأفلام تعج بثقافة ذكورية تتغاضى عن التحرش و الاستغلال الجنسي، فتوالت الاكتشافات لتوضح أن المشكلة ممتدة ربما لجميع المجالات.
في الشهور الأخيرة فقط، توالت أخبار التحرش داخل مؤسسات كبيرة حول العالم. أوقفت هايتي عمل مكتب مؤسسة الدعم الإنجليزية «اوكسفام» بعد كشف جريدة «التايم» لتحقيق داخلي جرى باوكسفام أثبت قيام عمال المؤسسة العالمية باستغلال جنسي لمواطنات أثناء عملهم في البلد بعد زلزال 2010.
وبسبب عدم إعلامها السلطات أو الإعلان عن التحقيق تواجه «اوكسفام» الآن تحقيقًا حكوميًا يهدد بقطع تمويل الدولة لها.
توالت الاستقالات أيضًا، مؤخرًا، في إدارة منتخب السباحة للولايات المتحدة، وذلك بعد اتهام العديد من المسؤولين بإخفاء الاعتداءات الجنسية التي تعرّضت لها المئات من السباحات على يد مدربين وأعضاء من الفريق الفني.
في فرنسا، ألقت السلطات، في يناير، القبض على الأكاديمي الإسلامي طارق رمضان الذي يحمل الجنسية الفرنسية والسويسرية. وكان يدرّس بجامعة أوكسفورد الإنجليزية بتهمة اغتصاب بعد تقدم سيدتان ببلاغات اغتصاب جرت في 2009 و2012. أما في أستراليا، استقال الشهر الماضي نائب رئيس الوزراء برنابي جويس بعد ما ثبت إقامته علاقة مع مسئولة الإعلام بمكتبه نتج عنها حمل.
المُلْفِت في هذه القضايا، هو أن الحوادث محط التحقيق جرت منذ سنوات، وفي بعض الأحيان عقود. وأغلبها كان يُسمى بالسر المعروف؛ لا يتحدث عنه أحد، ولكن الجميع يعرفه.
كان رئيس سهير* في جامعة الدول العربية، وهو سفير في سن التقاعد، معروف بـ «معاكسة» الشابات في المكتب. ورغم ذلك حين اشتكت لزميلاتها، من تحرشه بها لمدة 3 سنوات بلا هوادة، كانت نصيحتهن لسهير بألا تضيع فرصة من أجل هذه «التفاهات»، فهو «لا يقصد شيئًا».
بعد تخرجها مباشرة عرض عليها سفير ورئيس قسم بجامعة الدول العربية ما تعتبره وظيفة أحلامها وخطوة تقصر 10 سنوات في مسيرتها المهنية.
في البداية كان الأمر خفيفًا «لا أستطيع أن أقول أن شيئاً ما حدث. ولكن كنتُ أتلقى منه ذبذبات غير مريحة». بعد 6 أشهر من بداية عملها بدأت التعليقات: «بَـ أحب شكلك لما بتفردي شعرك»، «شكلك حلو لما بتحطي مانيكير». بجانب نصائح زميلاتها الأكبر سنًا بأن تتغاضى عن الأمر، لم ترتَح سهير أيضًا للصورة التي ستصدرها إذا اشتكت، فهي تريد للجميع أن يأخذها بجدية لا أن يروها كفتاة صغيرة يضايقها مديرها أو كما تقول: «ثمن البوح كان سيكون باهظًا».
تدرج الرجل لسؤالها عن حياتها الشخصية والعاطفية، وكانت تتجاهل أسئلته، وتعليقاته، وتنسحب من الحوار بابتسامة صفراء. بدأ يعطيها هدايا عند عودته من السفر، ويغضب حين ترفضهم بتفسير مهذب.
في مرة، أحضر لها زجاجة عطر نوعها جادور (أعشقك بالفرنسية) وقال لها: «ركزي في الاسم».
بالرغم من إقناعها لنفسها أن هذا الأمر جانبي، ولا يستحق أن تترك هذه الفرصة، كانت كيفية تجنبه هي الفكرة الرئيسية التي تشغلها أثناء توجهها للعمل كل يوم. كما ظهر التأثير النفسي على حياتها فأصبحت تدخن بشراهة، وفقدت شهيتها.
بالرغم من تفاديها للصدام معه، إلا أن شعوره بالرفض، وبأن باقي العاملين على عِلم بما يحدث جعل علاقتهما متوترة للغاية، وأصبح يتعمد معاملتها ببرود وعصبية لفترات طويلة قبل أن يبدأ التعليقات مجددًا.
كانت القشة الأخيرة، حين دخلت مكتبه لتحدثه في شأن يخص العمل فسألها: «بتلبسي مايوه قطعة واحدة أم قطعتين؟». تجاهلت ما قال، وأكملت الحديث عن العمل، فاستطرد: «معاكي صورة؟».
خرجت من المكتب وقدمت استقالتها. «في هذه اللحظة لم تعد الأسباب التي أقولها لنفسي لأبقى تعني شيئًا، أصبح ثمن البقاء باهظًا جدًا». لم تواجهه أو تقدم شكوى فيه، كذلك لم يفعل غيرها من العاملين والعاملات رغم معرفة الجميع بسلوكه، والذي كان أحيانًا يتمّ في العلن.
تقول: «أغلقتُ الباب على هذا الفصل. ولم أكن أريد أن أفتحه أو أتعامل معه مجددًا، كان أقوى شعور بالراحة في حياتي يوم أن قدمت استقالتي».
تعترف مزن حسن، مديرة «نظرة للدراسات النسوية» بأن مكافحة التحرش في مكان العمل مكلفة، فهي قد تستلزم فصل أو اتخاذ إجراءات عقابية ضد موظفين أكفاء. أما محاربة التحرش في الشارع فالخاسر فيها هو المتحرش المُجهَّل. بينما يتمّ النظر لكل الأطراف الأُخرى كأبطال. تقول مزن أيضًا إن القصور ينبع من النظرة القاصرة من المؤسسات للتحرش الداخلي، الذي يتهاون معه كموضوع غير جدي، «همّا مش شايفينه جريمة».
تظهر في التساؤلات التي دفعت الكثيرين لمحاولة «التكتيم» على الاتهامات التي واجهها خالد علي كونه في مقدمة قوى المعارضة التي تعرضت لموجة إقصاء شديدة في الفترة الأخيرة، خاصة لظهور الاتهامات في خضم محاولته خوض الانتخابات الرئاسية. «هل الأمر يستحق الثمن السياسي للإعلان عن هذا الاتهام الذي يخص قامة سياسية مثل خالد علي؟»، وقياسًا على ذلك، قد تتساءل المؤسسات: «هل مجرد نظرة أو كلمة لزميلة تستحق التخلص من عامل كفء؟».
رأيتُ بنفسي آثار التضامن المؤسسي الذي يجعل الزملاء مترددين في «خراب بيت» زميل متحرش. في غرفة أخبار جريدة الجامعة الأمريكية بالقاهرة التي ينتجها الطلاب بإشراف من أستاذ صحافة في عام 2008، اقترحت إحدى الزميلات قصة عن أستاذ معروف عنه التحرش اللفظي بالطالبات المحجبات لاحتقاره لهن.
كان مشرف الجريدة صحفي أمريكي حاصد جوائز عالمية قيمة. كان كثير التفاخر بعمله الاستقصائي الذي أنهى بالفعل مسيرة سياسيين، لكنه في هذه اللحظة لم يتصرف كصحفي، بل كزميل متضامن.
قال لطالبة الصحافة التي اقترحت الموضوع إن عليها أن تدرك أن قصتها قد تنهي الحياة المهنية لهذا الأستاذ، وأن عليها أن تسأل نفسها إذا كانت على استعداد لذلك. ارتبكت وساد الصمت في غرفة التحرير. وفي النهاية، تراجعت عن فكرتها.
أزمة وعي
يوضح أحمد حجاب، مستشار مستقل في شئون الجندر، من خلال عمله في مصر أنه بجانب تردد المؤسسات في تحَمّل ثمن مناصرة النساء، إلا أن الأزمة سببها الوعي، ويوضح أن أغلب العاملين لا يدركون سوى الأنواع الأكثر فداحة من التحرش، والأزمة الأكبر هي عدم استعداد المؤسسات للاستثمار في رفع هذا الوعي.
بداية من 2014، بدأ حجاب الذي كان وقتها يعمل في مؤسسة «خريطة التحرش»، وفريقه في مخاطبة مؤسسات من جامعات إلى مدارس وشركات صغيرة وكبيرة، حتى مؤسسات المجتمع مدني، وذلك لتلقي تدريب في التعرّف على أنواع التحرش الجنسي، وكيفية مناهضته، وتبني سياسة داخل المؤسسة مناهضة للتحرش، إلا أن الاستجابة كانت ضئيلة، بحسب حجاب.
من بين 20 شركة عالمية من أكبر الشركات الموجودة في مصر، كانت شركة «أوبر» هي الوحيدة التي استجابت لعرض حجاب. ربما لكون توفير الأمان من الاعتداءات الجنسية له عائد مباشر على جودة الخدمة وتنافسية الشركة.
عدا ذلك، كانت الردود التي تلقاها حجاب وهي تتلخص في «مش محتاجين» أو التجاهل، توضح عدم إدراك هذه الشركات لثمن وجود تعديات جنسية في المكان، ببساطة لأن الثقافة المنتشرة تجعل تجاهل ذلك سهلًا.
يتذكر حجاب رد المستشار الثقافي للسفارة الألمانية بالقاهرة في 2014 عندما عرض عليه تطبيق سياسات لمناهضة التحرش في المدارس التابعة للسفارة فضحك مؤكدًا: «لا نحتاج لتلك الأشياء».
كان من ضمن المؤسسات التي خاطبها حجاب أحزاب تقدمية، مهتمة بالعمل على مناهضة التحرش في الشارع، إلا أنها لم تهتم لما اقترحه حجاب بأن يسبق ذلك تدريب داخلي، ويقول: «مش عيب الحزب يشتغل عمل اجتماعي، بس لو هو كحزب مش ناوي ياخد الموضوع جد، ويشتغل عليه جوه، قبل بره – ماينفعش أنزل فريق الشارع يشتغل ع التحرش وجواه متحرشين أو ناس بتعمل سلوك غير لائق البنت هتعتبره تحرش.. وهو مش شايفه تحرش».
يرى حجاب في هذه المقاومة تصميم من المؤسسات أنها بعيدة عن موقع الشبهات، وتخاف من أن يكون التصدي للتحرش بمثابة اعتراف بوجوده في المؤسسة.
في المرات القليلة التي تلجأ له شركات مصرية عند حدوث حالات تحرش أو اعتداء جنسي في مكان العمل يكونوا مهتمين بحلول سريعة لتدارك الموقف وعادة يهملوا الأمر بعد هدوء الأمر، دون أن يتبنوا سياسة أو تدريبات للموظفين. يفسر حجاب ذلك بقوله: «المجتمع بشكل عام تعدى مشكلة إنكار وجود التحرش بشكل واضح، المؤسسات لسه».
ترى سالي ذهني أن المعركة ضد التحرش الجنسي في الشارع في مرحلة أكثر تقدمًا من معركة التحرش الجنسي في الأماكن الخاصة، وتقول: «بعد سنوات من العمل على التحرش الجنسي في المجال العام كان هناك إنجازات مهمة جدًا، قانونية واجتماعية، نحن في نقطة البداية فيما يخص التحرش في مساحات أُخرى، في مكان العمل و العنف الأسري تختلف المعادلة لأن الأمر ليس بين غريبيَن، ولكن بين شخصين تجمعهما علاقة شخصية وهيكل ما».
حتى في المؤسسات القليلة التي تتبنى سياسة مناهضة للتحرش يظل التحدي الأكبر، بحسب سالي ذهني، هو إقناع السيدات بالتبليغ، والذين كان يوقفهم عدة عوامل منها الخوف من العقاب، وأيضًا الخوف على السمعة.
تؤكد سالي أن العامل الأهم هو اتخاذ المؤسسة الاحتياطات اللازمة لحماية خصوصية المُبلِّغة وحمايتها من أي تداعيات في حالة كشف هويتها، بدون ذلك، تفقد السياسات فاعليتها.
ثمن البوح بالتحرش هو ما دَفَعَ داليا* للتغاضي عن التعليقات غير المرغوب فيها من مديرها، والتي بدأت من أول مقابلة.
حين قدمت داليا على عمل في برنامج تليفزيوني، قال لها مديرها إنه سيعينها «عشان بحب البنات الحلوة». كان عرض العمل ينقذها من ضائقة مالية شديدة.
كان مديرها شخصية عامة، ينشر كتبًا، وتحتفي الجرائد بانتاجه الثقافي الغزير. تصف داليا تعامله معها بأنه كان «مطاردات مستمرة، من غير ما يعمل حاجة تخليني أقدر أقول أنت متحرش».
تدرجت التعليقات من «شكلك حلو النهارده»، لـ «مش هتقلعي الجاكت ده عشان تقعدي براحتك؟»، وصولًا إلى: «امتى هاخد اللبانة اللي ف بُقك؟».
في كل مرة، كان رد داليا ابتسامة صفراء. كانت تعرف أن اليوم الذي ترد فيه سيكون اليوم الذي تترك العمل الذي تحتاجه بشدة.
ولكن لا تزال غير قادرة على مواجهته فتتفاداه بردود مهذبة ومقتضبة فقط، وذلك مع استمرار ملاحقته. تفسر ذلك بكونها دائمًا تشعر بفوقيته عليها، سنًا ومكانة. كما أنه بشكل عملي قادر على أن يجد لها فرصة عمل في يوم ما في المجال الذي تحبه. ثم يأتي الوصم الاجتماعي كرادع: «فيه وصم للي بترفض النوع ده اللي هو فيه زنّ ولزاجة، بس مش عارفة أقول أنت عملت إيه، عشان ما يتقالش عليكي مجنونة أو نكدية أو كل ما حد ييجي جمبها تهبّ فيه».
وفي النهاية تركت العمل، وذلك لأسباب مختلفة.
ماذا تفعل المؤسسة؟
جاءت تجربة وحدة التحرش بجامعة القاهرة والتي لم يختلف أي ممَن تحدثت معهم من العاملين على مناهضة التحرش على كونها مثال للمجهود الجاد والمؤثر لمكافحة التحرش داخل المؤسسات، إستثناءً واضحًا لكل السائد فيما يخص تعامل المؤسسات مع التحرش بداخلها.
توفرت في تجربة جامعة القاهرة، وهي بطبعها مؤسسة محافظة، ثلاثة عوامل جعلت التحرك الجدي ضد التحرش ممكن: إرادة سياسية من رئيس الجامعة، لوبي ضغط قوي، وحادث تحرش أثار ضجة إعلامية.
انتشر فيديو في 2014 لتجمهر طلبة حول فتاة ذات شعر أشقر طويل ترتدي بنطلون أسود وسترة وردية.
أصبح الفيديو حديث البرامج الذين سألوا الجامعة عن تصرفها. كان رد جابر نصار، رئيس الجامعة وقتها، هو أن الجامعة ستعاقب القائمين بالتحرش والفتاة كذلك لعدم التزامها بمعايير الملابس المناسبة للجامعة، ثم اعتذر عن تعليقه، في بيان رسمي، وأكد التزام الجامعة بمكافحة التحرش.
داخل مكتب وحدة بمنطقة سكن الطالبات المجاورة لجامعة القاهرة، تقول غادة علي، دكتورة إدارة المخاطر والعلوم الاكتوارية بجامعة القاهرة ونائب رئيس وحدة مكافحة التحرش بالجامعة، إن الهدف من وجود المكتب بهذا المكان كان من أجل إزالة قلق الطالبات من الوصم عند رؤيتهن يدخلن الوحدة.
تشرح غادة أن مجموعة من أعضاء هيئة التدريس المهتمين بقضايا المرأة، تتقدمهم هدى الصدى عضوة لجنة كتابة دستور 2014، توجهوا لرئيس الجامعة لمناقشة تكوين الوحدة، الذي استجاب وأصدر قرارًا بتكوينها، وذلك بأن تكون تابعة مباشرة لرئيس الجامعة، حتى لا يعطل الروتين عملها.
اعتمد الفريق على السياسات المناهضة للتحرش الموجودة بجامعات أجنبية لكتابة السياسة التي يتمّ تطبيقها الآن في الجامعة منذ افتتاح الوحدة في 2014.
تبنت السياسة تعريفًا شاملًا للتحرش يجرم أي تصرف «غير مرحب به» بدءًا من الإيماءات والتتبع إلى الاعتداء الجنسي.
أخذت الجامعة الخطوة الأجرأ وهي تضمين أعضاء التدريس كمتحرشين محتملين. حددت الوحدة العقوبات ضد مَن تثبت عليهم تهمة التحرش من التلاميذ بدءًا من الإنذار تدرجًا للحرمان من اختبار أو أكثر، والفصل لمدة شهر، وحتى الفصل النهائي، والمنع من التسجيل في أي جامعة مصرية.
تُدرج السياسة أيضًا العقوبات بالنسبة لأعضاء هيئة التدريس من اللوم إلى العزل، مع الحرمان من المعاش.
ولكن، كما يوضح الوضع في مؤسسات كثيرة في العالم، لا يمنع وجود سياسة على الورق من استمرار حوادث التحرش الجنسي.
كان سبب نجاح وحدة جامعة القاهرة هو البرنامج المكثف الذي تنفذه بدأب لرفع الوعي وتغيير الثقافة، وتجنيد أعضاء هيئة التدريس والطلبة لدعم الوحدة، والأهم إقناع الطالبات بقدرة الوحدة على حمايتهن من أي تبعات للتبليغ والإتيان بحقهن.
تقوم الوحدة بندوات وفعاليات مستمرة لرفع الوعي بالتحرش وتشجيع المُتعرّضات والمُتعرّضين له للتبليغ. تجنّد الوحدة بعد كل ندوة وفاعلية طلبة للمشاركة الفعالة. يعمل مع الوحدة الآن 1000 طالب متطوع منتشرين في أنحاء الجامعة دورهم التبليغ عن الوقائع ودعم وتشجيع المتعرضين والمتعرضات للتبليغ. يعمل مع الوحدة أيضًا منسقين من هيئة التدريس في كل كلية.
كما قامت الوحدة بتدريب لعمال الأمن على التعامل مع وقائع التحرش، وندوات للموظفين، وأعضاء هيئة التدريس لرفع الوعي بالتحرش وأنواعه. الأهم هو أن الوحدة بالفعل نفذت إجراءات عقابية وصلت للفصل ضد تلاميذ وأعضاء هيئة تدريس سواء، وكنتيجة لفعاليتها تضاعف عدد المُبلغات في السنوات الثلاث الماضية.
كان نجاح الوحدة والاحتفاء الذي حظت به محفز لإعادة إنتاج التجربة. أصبحت وزارة الشباب والرياضة، الشهر الماضي، أول وزارة مصرية تتبنى سياسة مناهضة للتحرش.
في حالة حزب «العيش والحرية»، زادت وتيرة الهجوم بعد ظهور القصة على السطح، في يناير الماضي، نتيجة كونه مساحة تقدمية، تتضمن مبادئها الأساسية مناصرة حقوق المرأة.
التزم الحزب الصمت وسط هجوم بعض الأشخاص الذين طالبوه بإعلان الخطوات التي يتخذها. فخرج عن صمته أخيرًا ببيان من 1000 كلمة، في 17 فبراير، كان أغلبها شرح لموقفه، وأسباب تأخّر تفاعله.
عدّد الحزب المصاعب التي واجهها من امتناع الشاكية عن التعاون مع لجنة التحقيق، إلى رفض الشهود التعاون أيضًا، وصعوبة تشكيل اللجنة من الأصل.
أعلن «العيش والحرية» عن التحقيق إنتهى إلى أن اللجنة «لم تجد وكيل مؤسسي الحزب مُدانًا بأي انتهاك جنسي باللفظ أو بالفعل. لكنها أوصت بالحرص على عدم التداخل بين الحياة العامة، والخاصة حتى لا يؤثر ذلك على الكفاءة والسمعة أو فتح المجال أمام سوء الفهم والشبهات».
وفي واقعة الاغتصاب أعلن الحزب عن توصل اللجنة لقيام المحامي الشاب بـ «سلوك مشين»، وأنه استقال قبل أن يتسنى لـ«لعيش والحرية» اتخاذ إجراءات ضده.
تمّ تسريب نص تقرير لجنة التحقيق فيما بعد، والتي تكونت من سيدتين، ورجل من المجتمع المدني، وقد توصلوا في واقعة الإغتصاب إلى أنه «لا يمكننا الجزم بأن المدعى عليه قام باغتصاب المدعية و أن إرادتها كانت معيبة في هذا الوقت». ولكن أوصت اللجنة أن يعتذر المدعي عليه للمدعية عن «سلوكه المعيب أخلاقيًا تجاهها، وتقصيره وعدم حمايته لها وعدم مراعاته لحالة الاضطراب في وعي المدعية».
انتهى الأمر باستقالة خالد علي من الحزب في بيان اعتذر فيه بالرغم من نتيجة التحقيق التي وجهت له لومًا خفيفًا فقط، قائلًا: «مجرد تفكيرها هذا التفكير نحوي وكتابتها لإميل يحمل هذا المضمون يلزمنى بأن أقدم لها إعتذارًا عن هذا الألم الذي تعرضت له، ورغم نتيجة التحقيق التي جاءت لصالحي فإنني أتحمل نصيب من المسؤولية يدفعنى بكل وضوح لأن أبادر بتقديم هذا الاعتذار».
واجه الحزب اتهامًا بعدم الالتزام بالمعايير التي تأخذ في الاعتبار انحياز ميزان القوى للرجل في هذه المواقف.
صدر بيان من عدد من السيدات بالتنسيق مع صاحبة الشكوى يوضحن فيه أن رفضها للمشاركة في التحقيق كان لعدة أسباب أقنعتها بعدم فاعلية هذا التحقيق. وهذه الأسباب أولها، بحسب البيان، عدم تواصل الحزب معها قبل 19 يناير، أي بعد بوحها بالحادثتين بثلاثة أشهر، وتمّ تبليغها أن التحقيق بدأ بالفعل، وثانيها رفض اللجنة الامتثال لطلباتها، وهي معرفة أسماء مَن قاموا بترشيح لجنة التحقيق فضلًا عن آليته، وإذا كانت ستعلن منهجيته، ونتائجه، وكذلك رفض طلبها ترشيح شخص أو اثنين للانضمام إلى اللجنة.
فيما أكد البيان ما قاله الحزب حول عدم استعداد السيدة، في النهاية، للمشاركة في التحقيق حفاظًا على صحتها النفسية.
ينكر الحزب تلقيه طلبات محددة من المُبلِّغة، ولكن لا تنكر إلهام عيداروس، وكيلة مؤسسي «العيش والحرية»، أن الموقف كان مربكًا وصعبًا، وذلك لغياب الآليات والوعي للتعامل مع شكوى بهذه الخطورة. ولكنها تؤكد أن الحزب كان متيقنًا من شيء واحد وهو ضرورة بذل جهد حقيقي لمعرفة حقيقة الادعاءات.
وتشرح سبب التزام الحزب بالصمت حتى نهاية التحقيق: «أولاً، مش من حقنا تعريض خصوصية المدعية أو المدعى عليهم للخطر بدون ثبوت أي مخالفة. ثانياً، ما كانش ينفع نعلن عن تحقيق لسه بيجري في دولة فيها قمع شديد وتربص شديد بأي حركة ديمقراطية وأبواق إعلامية محسوبة على الدولة تستغل الأمر لتشويه الأحزاب والمجتمع المدني بالذات في حالة خالد علي».
كانت الآلية المتاحة في الحزب هي بند في لائحته الداخلية عن التحقيقات والشكاوى.
تعدّد إلهام المصاعب من تخوف الحزب من تعريض أي من الأطراف لملاحقة قانونية، لإيجاد أعضاء لديهم المهارات والمصداقية ومستعدين لمهمة لجنة التحقيق، بالإضافة لعدم تعاون الشاكية والشهود. أما عن الاعتراضات التي تخص الكلمات الأقل وطأة التي استخدمها الحزب في توصيف الأفعال، تقول: «التحرش والاغتصاب جرائم جنائية تستوجب السجن والحبس مانقدرش نكتبها إلا لو ثبت، ولو كانت ثبتت لكتبناها وتحملنا المسؤولية القانونية والأخلاقية أيًا كانت».
يشرح حجاب، الذي يشارك في عدة لجان تحقيق تابعة لمؤسسات داخل مصر وخارجها يتمّ استدعاؤها في حالة ورود شكوى تحرش، الخطوات التي يتبعها في حالات مثل حالة الإيميل. ليس هناك كتاب قواعد ثابت، ولكن الخطوط العامة متفق عليها بشكل كبير. يفصّل حجاب ما يُقال حول إذا كان على المؤسسة التحقيق في حال عدم تقدم السيدة بشكوى مباشرة أم لا، ويوضح أن على هذه المؤسسة التحقيق في جميع الأحوال.
وبحسب حجاب، الخطوة الأولى تكون إيقاف المُدعَّى عليه عن العمل، وهي ليست خطوة عقابية، ولكنها تضمن نزاهة التحقيق، فضلًا عن كونها خطوة احترازية لحماية العاملين. وبعد ذلك يتمّ استدعاء اللجنة، والتي تكون مُشكَّلة مسبقًا، وتحصل على تدريب جماعي، ولا يشترط أن تكون من داخل المكان. ويجب أن يكون أغلب الأعضاء من السيدات بعدد أدنى ثلاثة.
تقوم اللجنة بتحقيق، وليس على المؤسسة الإعلان في هذه المرحلة، ولكن حسب الحالة قد تكلف بالإعلان داخليًا.
من حق أي من الطرفين إضافة عضو للجنة إذا لم يرتض تشكيلها. يستمر التحقيق، بحسب تجارب حجاب، لحد أدنى ثلاثة أسابيع يتضمن، بجانب الحديث مع مقدم البلاغ والمُبلَّغ عنه والشهود. وفي محاولة للبحث عن سابقة يتمّ التحدث إلى زملاء المُبلَّغ عنه ومَن لهم علاقة عمل سابقة معه، وذلك نظرًا لصعوبة إيجاد شهود لوقائع التحرش والاغتصاب. وفيما يخص قرارات الإعلان خارج المؤسسة أو اتخاذ خطوات قانونية إذا أثبتت اللجنة الحالة فتعود للشاكية، بحسب حجاب.
التحقيق في حوادث التحرش والاعتداء الجنسي غالبًا ما يثير مأزق الإثبات. كيف يمكن ضمان حق المرأة في واقعة بلا شهود وصعبة الإثبات؟
هل يتعارض ذلك مع حق المدعى عليه في البراءة حتى تثبت إدانته؟ يقول البعض إنه تماشيًا مع المبادئ النسوية يجب التسليم بالشكوى دون تحقيق من الأساس. وهي نقطة أثارت الجدل بين الالتزام الأخلاقي بالانحياز لرواية المُبلِّغة، والالتزام الأخلاقي أيضًا، والقانوني، لأُسس العدالة التي تستلزم براءة المتهم حتى تثبت إدانته.
انحياز الآلية القانونية في قضايا التحرش هو محط جدال في العالم حاليًا، في محاولة لإيجاد طريقة للتحقيق في بلاغات صعبة الإثبات، بلا شهود، ويكون العامل الأهم فيها هو الشعور.
في تحقيقات التحرش، من المفترض أن تشارك اللجنة مع المدعية في عبء الإثبات، بمعنى أنها لا تحقق كلجنة حيادية، ولكن تحاول إثبات التهمة، وهو ما يعوّض اختلال توازن القوى لصالح المُدَّعى عليه.
في محاولة للقضاء على التحرش والاعتداء الجنسي داخل الجامعات، أصدر الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في 2011 قرارًا بأن لجان التحقيق في حوادث الاعتداءات الجنسية داخل الجامعات لا تلتزم بالمعيار الذي تلتزم به المحاكم وهو «الاطمئنان بدون أي شك». ولكن تلتزم بمعيار أقل وهو «رجحان الأدلة» الذي يعني أن على اللجنة إدانة المتهم إذا وصلت إلى تأكّد بنسبة 50% لارتكابه الجرم.
ولكن ظل القرار خلافيًا مع وجود اعتراضات أنه يعرّض الكثيرين للظلم، حتى ألغته إدارة ترامب العام الماضي.
إحدى أهم التحديات أمام منظومة العدالة المتبعة داخل المؤسسات، والتي فتح اتهام المحامي محمود بلال بالاغتصاب الحديث عنها هو المناطق الرمادية من الرضائية، وهو عنصر يفرض نفسه عند الحديث عن التحرش في المجال الخاص.
كان الخلاف الأساسي بين مناصري ومهاجمي بلال هو: هل كانت السيدة في حالة من الوعي تسمح لها باتخاذ قرار رضائي يخص علاقة جنسية؟ أين الخط الفاصل بين كون المرء مخمورًا ومسئولًا عن قراراته وكونه فاقدًا للأهلية؟
وتطرقت الحوارات فيما بعد لأسئلة أكثر إرباكًا: أين الخط بين قرارات تتخذها النساء بكامل إرادتهن وبين ما يبدو رضائيًا، ولكن ينبع عن ضغط نابع من اختلال توازن القوى بين الجنسين؟ ما دور الرجل في موازنة هذا الاختلال؟ ماذا لو لم تعلن المرأة صراحة عن اعتراضها؟ هل عليه قراءة ما وراء ابتسامتها الصفراء؟ هل يتحوّل هذا الدور لإعادة إنتاج الأبوية؟
كان اتهام الممثل الأمريكي من أصل هندي عزيز أنصاري بالتحرش في شهادة منشورة بموقع babe، في يناير الماضي، هي اللحظة التي ارتبكت فيها حملة metoo وطرحت فيها هذه الأسئلة. قالت الفتاة التي تصغر الممثل المشهور بما يقرب من 10 سنوات، ما ملخصه أنها قابلت أنصاري في حفل، واتفقا على الخروج في موعد غرامي.
تحكي أن أنصاري استعجلها لتُنهي طعامها في المطعم ليعودوا إلى منزله. بدأ أنصاري مباشرة في تقبيلها ولمسها. من جراء الارتباك وأيضًا عدم رغبتها في مضايقة النجم الذي تحمست بشدة لخروجها معه. كان تعبير الفتاة عن عدم ارتياحها ليس مباشرًا بشكل كافٍ للجزم أنه علم بعدم ارتياحها واستمر. ولكن واضح بدرجة كافية إذا كان المتلقي مهمومًا بالتأكد من الرضاء.
تقول الفتاة إنها بداية ظلت تتنقل في الشقة من مكان لآخر وهو يلاحقها وتبعد يده عند ملامسة مناطق حساسة، وأنها عبرت عن عدم ارتياحها بشكل أساسي من خلال «التراجع جسديًا والتمتمة». في لحظة ما استجمعت الفتاة شجاعتها، وعبّرت عن عدم ارتياحها لأنصاري، وقالت إنها لا تريد أن تشعر أنها تفعل شيئًا هي مجبورة عليه.
بالرغم من ذلك طلب منها أنصاري فعل جنسي بعد ذلك مباشرة، وهو ما استجابت له.
في النهاية، مع استمرار محاولاته، تركت الفتاة الشقة منفعلة. وتلقت من أنصاري رسالة اعتذار، في اليوم التالي، يعبّر فيها عن أسفه الشديد لإساءته قراءة الموقف.
قوبل المقال بهجوم مضاد يقول إن الفتاة طالبت أنصاري بقراءة أفكارها، وأن ما لا يوجد جدال حول كونه تصرفًا أخرقًا، وتنعدم فيه الحساسية لا يرقى، لكونه انتهاك جنسي.
ففي نهاية الأمر لم يجبرها أنصاري على شيء. ثم بين النقيضين جاءت المقالات التي اعترفت بأن الموضوع معقد، بأن قصة الفتاة مألوفة جدًا في المجتمعات المنفتحة جنسيًا، وأنها حتى الآن كان يُشار إليها كـ «موعد غرامي سيئ» أو «علاقة جنسية سيئة» ووضعها في خانة التحرش الجنسي مربك لجميع الأطراف.
وكان المقترح أنه إذا كانت هذا القصة مألوفة جدًا، وإذا كانت الكثير من السيدات كن في هذا الوضع الذي وافقن فيه على أفعال لشعورهن بضغط إذًا فربما حان الوقت لإعطاء هذا التصرف صفة أكثر إدانة، والتوقف عن التسليم بأن «عاديته» التي تفرضها قواعد مجتمعية غير متوازنة تجعله أقل سوءًا. انتهت إحدى المقالات بأن «هذه حالة صعبة، هذا وضع صعب الفصل فيه».
سلّطت القضية المثارة في حزب «العيش والحرية» الضوء على تقاعس المؤسسات عن القيام بدورها في توفير مساحة آمنة للنساء، وتأخّر وعي التجمعات حتى التقدمية منها في هذا الشأن.
ولكن، كما تبيّن من الخلافات حول الأمر، اختزال الأمر في الفشل أو التآمر يتغاضى عن حقيقة غير مريحة، ولكنها أصبحت عصية على الإنكار: بعد عقود من الغليان تحت السطح في إنكار وسكوت شبه تام، صارت أنواع من التحرش في دائرة الإدانة، وذلك رغم أن الحوار العام حولها لا يزال مُلغّمًا بطبقات من التعقيد بين الارتباك حول الرضائية، وموازنة الانحياز للضحية مع تحقيق العدالة، وهو ارتباك يتضاعف حين يأتي في سياق سياسي حساس، ويكون المخرج الأكيد الوحيد هو أن الإجابات لا تأتي سهلة. ---
- تم تغيير أسماء من وردت شهادتهن عن التحرش بناءاً على طلبهن